التاريخ السري لمائة عام من العزلة «1-2»



*ترجمة: أحمد شافعي


قبل نصف قرن، وبعد زيارة أخرى إلى محل الرهونات، بعث جابرييل جارثيا ماركيز إلى ناشره مخطوط الرواية التي باتت بصمته الخالدة. الآن، و«مائة عام من العزلة» تبلغ الخمسين، يحاور بول إيلي من مجلة «فانيتي فير» وكيلة جابو التاريخية، قبيل وفاتها عن خمسة وثمانين عامًا، متمهلاً أمام الأساطير المحيطة برواية ماركيز الأهم.
في بيت، يقع في حي هادئ من مكسيكو سيتي، غرفة مكتب، وفي غرفة المكتب تلك عثر جارثيا ماركيز على العزلة التي لم يعرفها من قبل، ولن يعرفها من بعد. كانت السجائر على منضدة العمل (وقد دأب على تدخين ستين سيجارة في اليوم). الأسطوانات التي كانت على المسجل هي: ديبوسي، وبارتوك، وليلة يوم شاق. وعلى الحائط جداول بتاريخ بلدة كاريبية أطلق عليها اسم ماكوندو وسلسال عائلة أطلق عليها آل بوينديا. خارج البيت ستينيات القرن العشرين، وداخل البيت أعماق زمان ما قبل الأمريكتين الحديثتين، والكاتب الجالس إلى آلته الكاتبة في عنفوان قوته.

أنزل بأهل ماكوندو وباء الأرق، وجعل قسًّا يسبح في الهواء بقوة الشوكولاته الساخنة، وأطلق سربا من الفراشات الصفراء. قاد شعبه عبر مسيرة طويلة من الحرب الأهلية والكولنيالية وجمهوريات الموز، اقتفى أثرهم إلى غرف النوم فرأى فحشهم ومغامراتهم الجنسية. وتذكّر قائلاً: «لقد كنت في أحلامي أخترع أدبا». وشهرا بعد شهر تضخمت المخطوطة مبشرة بالرواية العظيمة «وعزلة الشهرة» التي ستفرض على كاتبها بحسب تعبيره لاحقا.

بدأ ماركيز كتابة «Cien Años de Soledad» أو: «مائة عامة من العزلة»قبل نصف قرن، وانتهى من كتابتها سنة 1966، وخرجت الرواية من المطبعة في بيونس أيرس في الثلاثين من مايو سنة 1967 قبل يومين من صدور ألبوم Sgt. Pepper’s Lonely Hearts Club Band لفريق البيتلز، فكان رد الفعل وسط قراء الأسبانية شبيها بحالة البيتلزمانيا [الولع بفريق بيتلز]: زحام وكاميرات ودهشة وإحساس بأن عصرًا جديدًا قد بدأ. في عام 1970 ظهر الكتاب باللغة الإنجليزية متبوعا بطبعة شعبية على غلافها شمس ملتهبة صارت طوطم ذلك العقد. وبحلول الوقت الذي حصل فيه جارثيا ماركيز على جائزة نوبل سنة 1982 كانت الرواية تعد بمثابة دون كيخوتة الجنوب العالمي، والدليل على براعة أمريكا اللاتينية الأدبية، وصار كاتبها جابو مشهورًا في القارة كلها باسمه الأول شأن صديقه الكوبي فيدل.
وبعد سنوات كثيرة لا يزال الاهتمام بجابو وروايته العظيمة كما هو لم يتضاءل. فقد دفع مركز هاري رانسم ـ التابع لجامعة تكساس ـ أخيرا مبلغ 2.2 مليون دولار لشراء أرشيف الكاتب ومن ضمنه مخطوطة مائة عام من العزلة بالأسبانية، وفي أكتوبر الماضي اجتمع أفراد من عائلته وأكاديميون لإلقاء نظرة جديدة على إرثه الذي تمثل هذه الرواية درته.

على المستوى غير الرسمي، هذه هي الرواية الأحب لدى الجميع في عالم الأدب، وهي الرواية التي ألهمت ـ أكثر من أي رواية غيرها في ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ روائيي زماننا بدءًا من توني موريسن وسلمان رشدي ووصولا إلى جونوت دياز. وفي فيلم «الحي الصيني» [Chinatown لرومان بولانسكي] هناك مشهد يقع في مكان بمزرعة في هوليود تسمى «مساكن إل ماكوندو». وبيل كلينتن في فترة رئاسته الأولى أعرب عن رغبته في مقابلة جابو عندما كان كلاهما في جزيرة مارثا فاينيارد، وانتهى المطاف بهما وهما يتبادلان الآراء حول فوكنر على عشاء في بيت بيل وروز ستايرن (وكان على المائدة كارلوس فوينتس، وفيرنون جوردان، وهارفي فاينشتاين). وعندما توفي ماركيز في أبريل 2014 انضم باراك أوباما إلى كلينتن في رثائه وقال عنه إنه «أحد المفضَّلين لديّ منذ أن كنت شابا» مشيرا في ثنايا ذلك إلى نسخته الأثيرة الموقَّعة من «مائة عام من العزلة». «هذا هو الكتاب الذي لم يُعِد تعريف الأدب الأمريكي اللاتيني وحده، بل الأدب كله، نقطة» بحسب ما يصر إيلان ستيفانز، الباحث الأمريكي المرموق في الثقافة الأمريكية اللاتينية الذي يقول إنه قرأ الرواية أكثر من ثلاثين مرة.

كيف يتأتَّى لهذه الرواية أن تكون مثيرة، وممتعة، وتجريبية، وراديكالية في السياسة، وواسعة الانتشار، في وقت واحد؟ لم يكن نجاحها مؤكدا، وقصة كتابتها فصل حاسم وغير معروف على نطاق واسع، وهو واحد من أهم فصول تاريخ الأدب في نصف القرن الأخير.
الرحيل عن البيت
خالق أشهر قرية في الرواية المعاصرة كان ابن مدينة، ولد سنة 1927 في قرية أراكاتاكا الكولمبية، على مقربة من الساحل الكاريبي، ودرس في ضاحية داخلية تدعى بوجوتا. ترك جابرييل جارثيا ماركيز دراسة القانون ليعمل صحفيا في مدن كارتاخينا، وبارانكويلا (بكتابة عمود) وبوجوتا (بكتابة نقد سينمائي). ولما ضيّقت الدكتاتورية خناقها، ذهب في مهمة عمل إلى أوربا، بعيدا عن الأذى. وعاش هناك فترة عصيبة. فكان، في باريس، يعيد فوارغ زجاجات المياه ليحصل على المقابل المالي الزهيد، وفي روما حضر فصولا في السينما التجريبية، وذاق البرد في لندن، وراسل من ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. وعند عودته إلى الجنوب ـ فنزويلا تحديدا ـ أوشك أن يتعرَّض للاعتقال أثناء حملة عشوائية للشرطة العسكرية. ولما استولى فيدل كاسترو على السلطة في كوبا، وقّع جارثيا ماركيز عقدا مع وكالة برينسا لاتينا الصحفية الممولة من الحكومة الشيوعية الجديدة، فلما ضاق عليه الحال في هافانا انتقل إلى نيويورك سنة 1961 مع زوجته مرسيدس وابنهما الصغير رودريجو.

قال لاحقا إن المدينة «كانت تتعفن، ولكنها كانت أيضا في طور ميلاد جديد، مثل غابة، وافتتنت بها». بقيت الأسرة في فندق وبستر، عند تقاطع شارع 45 مع الجادة الخامسة، ثم أقاموا مع أصدقاء في كوينز، لكن جابو كان يقضي أغلب وقته في مكتب الصحيفة على مقربة من مركز روكفيلر، في غرفة ذات نافذة وحيدة تعلو خرابة مليئة بالجرذان. وكان الهاتف لا يكف عن الرنين، وكانت الاتصالات جميعًا من كوبيين في المنفى اعتبروا الوكالة الصحفية جزءًا من نظام كاسترو الذي كانوا يمقتونه، فكان يحتفظ بسيخ المدفأة قريبا منه، متأهبا للدفاع به في حالة تعرضه لهجوم.

وطوال ذلك الوقت كان يكتب أدبًا: «الأوراق الذابلة» في بوجوتا، و«في ساعة نحس» و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» في باريس و«جنازة الأم الكبيرة» في كاراكاس. ولما سيطر الشيوعيون المتشددون على قطاع الصحافة وأطاحوا برئيس التحرير، استقال جارثيا ماركيز متضامنا معه. وانتقل إلى مكسيكو سيتي وبدأ تركيزه ينصب على الأدب. ولكنه قبل ذلك شاهد جنوب وليم فوكنر، الذي قرأ كتبه من قبل مترجمة وهو في مطلع العشرينيات. وأثناء السفر بحافلات جرايهاوند، عومل وأسرته بوصفهم «مكسيكيين قذرين» حسبما حكى، فمنعوا من دخول المطاعم والمراحيض. ويتذكر «المزارعين في قيلولتهم أسفل مظلات الحانات على جنبات الطريق، وأكواخ السود الباقية وسط البؤس والشقاء … وعالم مقاطعة يوكناباتاوفا [الخيالية التي اخترعها وليم فوكنر]الرهيب مرَّ أمام عيني من وراء شباك الحافلة، وكان صادقا وإنسانيا في الواقع بقدر ما هو في روايات الشيخ المعلم».

تعب جارثيا ماركيز. تحوَّل إلى كتابة السيناريو. وعمل محررا لمجلة نسائية مصقولة الورق هي «لا فاميلياLa Familia» وأخرى متخصصة في الفضائح والجريمة. عمل في الإعلانات لوكالة جيه والتر طومسن. وفي حي زونا روسا ـ بالضفة اليسرى في مكسيكو سيتي ـ كان معروفا بالفظ متعكر المزاج.

وقد تغيرت حياته. وأبدت وكيلة أدبية في برشلونة اهتمامًا بأعماله، وبعد أسبوع من اللقاءات في نيويورك سنة 1965 توجهت إلى الجنوب لمقابلته.
قطعة ورق
«هذا الحوار احتيال». هكذا أعلنت كارمن بالسيلز بحسم كفيل بإنهاء الحوار قبل بدايته. كنا في شقتها التي تعلو مكاتب وكالة كارمن بالسيلز في وسط مدينة برشلونة، وكانت قد تقدمت بمقعدها المتحرك لمقابلتي عند المصعد ثم دارت به نحو منضدة عملاقة محملة بمخطوطات وصناديق حمراء للملفات. (مكتوب على أحدها اسم فارجاس يوسا، ووكالة وايلي على آخر). في الخامسة والثمانين، ذات شعر كثيف أبيض، ذات حجم هائل أدى بها إلى أن تحمل اسم «الأم الكبيرة» La Mamá Grande. ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا فكأنها البابا ولكنه امرأة.
«احتيال» قالتها بالإنجليزية، بنبرة عالية وصوت خافت. «عندما يموت نجم، أو فنان، عندما يموت شخص كهذا، ولا يعود موجودا فيجيب الأسئلة الكثيرة، تكون الخطوة الأولى هي محاورة سكرتيرته، وحلاقه، وطبيبه، وزوجته، وأبنائه، والخياط الذي كان يتعامل معه. أنا لست فنانة. أنا وكيلة. أنا هنا بوصفي شخصا كانت له أهمية في حياة جابرييل جارثيا ماركيز. لكن هذا ليس الشيء الحقيقي. فحضور الفنان المبهر نفسه مفقود».
كانت كارمن بالسيلز تتهيأ لمستقبل لن تكون حاضرة لتراه، وهي تستعد لإبرام صفقة تبيع الوكالة بموجبها لـ آندرو وايلي الوكيل الأدبي في نيويورك، ولكن الصفقة انهارت أخيرًا (ويرد المزيد عن هذا لاحقًا). وصار هناك طامحون آخرون يقدمون عروضهم، لتقرر كارمن بالسيلز من بينهم الذي سوف يعتني بأكثر من ثلاثمائة عميل لديها، من بينهم تراث جارثيا ماركيز. قالت لي في ضجر إن حوارنا هذا سوف يليه اجتماع مع محاميها، قالت «أعمال حقيرة».
في مساء ذلك اليوم، وفي حيوية بليغة، أزاحت كل تلك الأمور عن تركيزها، وتذكرت اليوم الأول الذي شعرت فيه «بحضور الفنان الهائل» بين يديها.
كانت هي وزوجها لويس يحبان القراءة في الفراش. «كنت أقرأ جارثيا ماركيز، في أحد كتبه المبكرة، وقلت للويس ’هذا كتاب رائع يا لويس، ولا بد أن نقرأه أنا وأنت في الوقت نفسه’. ونسخت له العمل. وتحمسنا له نحن الاثنين: كان شديد الطزاجة، والأصالة، والإثارة. كل قارئ يحدث نفسه عن كتاب معين قائلا ’هذا من أفضل الكتب التي قرأتها في حياتي’. وحينما يحدث هذا مع كتاب معين مرارا وتكرارا، في مختلف أنحاء العالم، فبين يديك رائعة. وهذا ما حدث مع جابرييل جارثيا ماركيز».
عندما وصلت بالسيلز ولويس إلى مكسيكو سيتي، في يوليو 1965، لم يعن ذلك لجارثيا ماركيز لقاء مع وكيلته الأدبية الجديدة، بل لقاء مع شخصين يعرفان أعماله معرفة حميمية. اصطحبهما بالنهار ليريهما المدينة، وبالليل تناول ثلاثتهم العشاء مع كتاب من المدينة. فأكلوا وشربوا، ثم أكلوا وشربوا المزيد. ثم جاء جارثيا ماركيز ـ وقد شعر بالألفة الشديدة تجاه ضيفيه ـ بقطعة ورق وبدأ هو وبالسيلز، في حضور لويس، يخططان لعقد يجعل من كارمن ممثلته في العالم كله على مدار السنوات المائة والخمسين التالية.
قالت لي بالسيلز مبتسمة «ليست 150 سنة، بل 120 في ظني. كانت مزحة، عقدا هزليا، فاهم؟».
ولكن كان هناك عقد آخر، ولم يكن هزليا. فقبل أسبوع في نيويورك، كانت بالسيلز قد عثرت لأعمال جارثيا ماركيز على ناشر أمريكي هو هاربر آند راو. وأبرمت صفقة بالحقوق في اللغة الإنجليزية لأربعة من كتبه. والمقابل؟ ألف دولار. وأحضرت العقد، وقدمته له لتوقيعه.
بدت الشروط مجحفة، بل بدت سرقة واضحة. كما منح العقد لهاربر آند راو الأفضلية بين الناشرين لما يلي من أعماله القصصية مهما يكن. قال لها «هذا العقد هراء» ووقع العقد.
رجعت بالسيلز إلى برشلونة، وذهب جارثيا ماركيز بأسرته في رحلة شاطئية إلى أكابولكو، على مسافة يوم بالسيارة باتجاه الجنوب. وفي منتصف الطريق، أوقف السيارة ـ أوبل بيضاء، حمراء من الداخل، من طراز 1962 ـ وارتدّ راجعا. في تلك اللحظة، كان عمله التالي قد خطر له على حين غرة. كان على مدار عقدين قبل ذلك يعيش حالة من الجذب والشد مع حكاية عائلة كبيرة في قرية صغيرة. وفي تلك اللحظة أبصرها بوضوح رجل يقف أمام الفصيلة المكلفة بتنفيذ الإعدام، رأى الحياة كلها في لحظة واحدة. وسيقول في وقت لاحق «إنها بدت لي في تمام النضج، بحيث كان بوسعي أن أملي الفصل الأول، كلمة بعد كلمة».
في غرفة المكتب، أقعد نفسه أمام الآلة الكاتبة. «ولم أقم لمدة ثمانية عشر شهرا». وشأن بطل الكتاب، الكولونيل أورليانو بوينديا المختفي في ورشته بماكوندو صانعا سمكاته الهذبية ذات العيون الجوهرية، ظل الكاتب يعمل في هوس. وكان يعدِّل في الصفحات المكتوبة على الآلة الكاتبة، ثم يبعثها إلى جامع ليكتبها في نسخ نظيفة. وكان يدعو الأصدقاء ليقرأ عليهم بصوت مرتفع. ومرسيدس كانت تتولى شؤون الأسرة، فتملأ الخزانة بالويسكي استعدادا للحظة انتهاء العمل، وتبعد عنه محصلي الفواتير، وترهن أغراضا من البيت تدبيرا للنقود: «التليفون، والثلاجة، والراديو، والحليّ» بحسب ما يكتب جيرالد مارتن كاتب سيرة جارثيا ماركيز الذاتية. وباع الأوبل. ولما اكتملت الرواية، وذهب جابو ومرسيدس إلى مكتب البريد لإرسال مخطوطتها إلى الناشر، إديتوريال سود أمريكانا، في بيونس أيرس، لم يكن معهما اثنان وثمانون بيسو ثمن الإرسال. فبعثا نصف المخطوطة فقط، ثم بعثا النصف الثاني بعد زيارة لمحل الرهونات.
دخَّن ثلاثين ألف سيجارة، وأنفق 120 ألف بيسو (قرابة 10 آلاف دولار). وتساءلت مرسيدس «وماذا لو تبيَّن بعد ذلك كله أنها رواية رديئة؟»
عقل يحترق
مرة قال فوكنر إن «الماضي لا يموت. بل إنه لا يمضي»، وفي مائة عام من العزلة جعل جارثيا ماركيز حضور الماضي شرط حياة في ماكوندو، شأن الفقر، أو الظلم. على مدار سبعة أجيال يبقى خوسيه أركاديو بوينديا ونسله حاضرين بلا هوادة، بأسمائهم الموروثة، ونوبات الغضب والغيرة التي تنتابهم، ونزاعاتهم وحروبهم، وكوابيسهم، وتيار زنا المحارم الساري فيهم، قوةً تجعل التشابه العائلي لعنة والانجذاب الجنسي قوة تنبغي مقاومتها، وإلا فإنك وحبيبتك (وهي أيضا قريبتك) ستنجبان طفلا له ذيل خنزير.
صارت «الواقعية السحرية» هي المصطلح الذي يصف خروج جارثيا ماركيز على قوانين الطبيعة بالفن. ولكن سحر الرواية، في المقام الأول والأخير، يتمثل في القوة التي تجعل بها آل بوينديا وجيرانهم ماثلين أمام القارئ. فتشعر وأنت تقرأ الرواية أنهم أحياء، وأن هذا حدث.
ثمانية آلاف نسخة بيعت في الأسبوع الأول في الأرجنتين وحدها، وهو رقم غير مسبوق لرواية أدبية في أمريكا الجنوبية. قرأها العمال. وربات البيوت، وأساتذة الجامعة، والعاهرات: يتذكر الروائي فرانشيسكو جولدمان أنه رأى الرواية على كمدينو في بيت دعارة على الساحل. سافر جارثيا ماركيز إلى الأرجنتين، وبيرو، وفنزويلا ممثلا لروايته. في كاركاس، جعل مضيفيه يكتبون لافتة بخط اليد نصها: ممنوع الكلام عن مائة عام من العزلة. قدمت النساء أنفسهن له، إما بأنفسهن، أو من خلال الأوتوجرافات.
اجتنابا للتشتيت، نقل أسرته إلى برشلونة. والتقى به نيرودا هناك، وكتب عنه قصيدة. وفي جامعة مدريد، كتب ماريو فارجاس يوسا ـ الذي كان معروفا وقتها بروايته «المنزل الأخضر» ـ أطروحة دكتوراه عن كتاب جارثيا ماركيز الذي حصل على جوائز أدبية في إيطاليا وفرنسا، وبات يعد الكتاب الأول الذي وحَّد الثقافة الأدبية للناطقين بالأسبانية بعد طول انقسام بين أسبانيا وأمريكا اللاتينية، وبين المدينة والقرية، وبين المستعمِرين والمستعمَرين.
اشترى جريجوري راباسا الكتاب في منهاتن وقرأه في افتتان وبلا توقف. كان أستاذ اللغات الرومانسية في كلية كوينز، وكان قد ترجم أخيرا رواية «لعبة الحجلة» لخوليو كورتاثار ونال عنها الجائزة الوطنية للكتاب. كان قد سبق له العمل في حل الشفرات مع مكتب الخدمات الاستراتيجية أثناء الحرب، والرقص مع مارلين ديترتش Marlene Dietrich عندما حضرت للتسرية على الجنود. وكان يعرف الشيء الأصيل حينما تقع عليه عيناه.
«قرأتها بدون أدنى تفكير في ترجمتها» هكذا يقول راباسا في شقته بشارع 72 الشرقي. هو الآن في الثالثة والتسعين، ضعيف البدن لكنه حاذ الذهن، لا يزال يحضر لقاءات قدامى المحاربين الذين خدموا في مكتب الخدمات الاستراتيجية. «كنت معتادا على مناهج الحكي المجرَّبة المضمونة. أوه … كنت عملت على كورتاثار. وكنت أعرف أعمال بورخس. وتضع الاثنين معا فيكون لديك شيء آخر: يكون لديك جابرييل جارثيا ماركيز».
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *