عن مائة عام من العزلة


ترجمة: ميادة خليل


من كتاب “أنا مشهور قبل أن يعرفني أحد”، وهو كتاب يستعرض حوارات أجريت مع الكاتب بين عامي 1971- 1997، اخترت لكم الأسئلة والأجوبة حول رواية “مائة عام من العزلة” لأن هذه الرواية، اسمها، موضوعها وشهرتها ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالكاتب وحياته، كما قال ماركيز نفسه عن الرواية. لخص الكاتب في أجوبته حول هذه الرواية بالذات الكثير عن كتاباته، أسلوبه، وحتى شخصيته، ففي سؤال وجهه له جان بروكين عام 1981: لماذا كتبت “مائة عام من العزلة”؟
قال ماركيز: لأن الكتاب كان في قائمة الأنتظار. لم أتمكن من كتابة أي رواية أخرى قبل أن أكتب “مائة عام من العزلة”، كان أول كتاب في رأسي وبدأت بكتابته في 1951 وكان اسمه “المنزل“.
وبعد الرواية وشهرتها تغيّرت حياة ماركيز بالكامل. لم يختر عزلته، ولم يتمكن من العيش لمائة عام، لكنه استطاع أن يحيا في كل كلمة كتبها أو قالها الى الأبد.
(ميادة خليل)
***********
حوار أجراه معه إرنستو غونزاليز بيرميجو – 1971 ، برشلونة.
بيرميجو: سيد غارسيا ماركيز، ما هو رأيك برواية “مائة عام من العزلة“؟
ماركيز: كانت مفاجأة كبيرة قبل كل شيء. أنظر، بعت من كتابي السابق آلاف النسخ، إذا جاز لي أن أعتبر بأن مقياس نجاح الكتاب هو: المبيعات. “الأوراق الذابلة” كانت متاحة من عام 1955. اعتبرت هذا الكتاب نقطة انطلاق وافترضت أن “مائة عام من العزلة” سوف يبيع 5.000 نسخة.
بيرميجو: هل تثق بهذا الكتاب؟
ماركيز: عندي ثقة كاملة بهذا الكتاب. أنا متأكد من أنه سيحقق نجاحاً ساحقاً.
بيرميجو: لكن ليس من أكثر الكتب مبيعاً.
ماركيز: لا، ليس من أكثر الكتب مبيعاً. لكن أول 5.000 نسخة قد نفذت خلال اسبوعين، عن طريق البيع في مدخل محطات المترو في أماكن مختلفة في بوينس آيرس. مطبعة “أمريكا الجنوبية” طبعت 8.000 نسخة على أمل أن تباع بين يونيو وديسمبر 1967. وفجأة ليس لديهم كتب.
بيرميجو: القرّاء كانوا أهم المروجين للكتاب؟
ماركيز : أجد هذا مثيراً. الكتاب في أمريكا اللاتينية، هنا في أسبانيا، وفي كل مكان، بيعَ من خلال القرّاء. لقد بيع من خلال الأعلان عنه عن طريق: الكلام عنه من أحدهم الى الآخر، راديو بيمبا، كما يقولون في كوبا.
بيرميجو: هل يخيفك نقد الكتاب؟
ماركيز : توقفت منذ عدة سنوات عن قراءة النقد حول رواية “مائة عام من العزلة” زوجتي تحتفظ بهذه المقالات وسوف أقرأها عندما أنتهي من الكتاب الذي أكتبه الآن. يأتي وقت تدرك فيه أن النقد يكتشف أشياء ويسأل عن أشياء لا تعرفها وبالتالي لا يمكنك الإجابة عن أسئلة النقاد. أعتقد أن الخطر يكمن في إيجاد تبرير للبيع الجيد لرواية “مائة عام من العزلة“. لكن هذا فضول؟ أليس كذلك؟ حتى سائقو التاكسي في برشلونة يقرأون “مائة عام من العزلة“.
بيرميجو: أين ظهرت أفضل قراءة لرواية “مائة عام من العزلة“؟
ماركيز: أجد من المزعج أن أقول هذا، ولكن أفضل قراءة لروايتي نشرت في الولايات المتحدة. هناك مهنيين، قرّاء مهتمين متدربين بشكل جيد، بعضهم تقدمي، وبعضهم رجعي كما تتوقع، لكن كقرّاء هم رائعون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار أجرته ريتا غوبيرت – 1971، برشلونة.
غوبيرت : كيف أثر نجاح “مائة عام من العزلة” على عملك؟ أعرف بأنك قلت في برشلونة: “لقد اكتفيت من أن أكون غابرييل غارسيا ماركيز“.
ماركيز : لقد غيّر حياتي بالكامل. أحدهم سألني ذات مرة، لا أتذكر متى كان ذلك، ما الفرق بين حياتي قبل وبعد هذا الكتاب: أجبته بأن حياتي أنضم لها 400 شخص بعد نجاح الكتاب. أعني بذلك، أني قبل أن أكتب الكتاب، كان لدي بالطبع أصدقاء، ولكن بعد نجاح الكتاب الكثير من الناس يرغبون في لقائي والحديث معي، صحفيون، أكاديميون، قرّاء. الغريب أن أغلب القرّاء لا يسألون، هم يريدون فقط الحديث عن الكتاب. هذا الأهتمام بحد ذاته رائع، لكن تحول كل شيء الى مشكلة. أريد أن أرضي الجميع، لكن هذا بالطبع مستحيل، يجب أن أكون صريحاً… هل فهمتي؟ مثلاً قالوا بأني تركت المدينة، بينما أنا أنتقلت الى فندق آخر. هذه الأشياء تصنع نجومية أيضاً، أكره ذلك، لا أريد النجومية على الأطلاق. بالأضافة الى تأنيب الضمير عندما أتجاهل و أتخطى أحدهم. لكن يجب أن أحافظ على حياتي الخاصة، لذا لا أتردد في الكذب أحياناً. ولهذا رغبت ذات مرة في أن أتحدث بخشونة أكثر من حديثي معك الآن، تحت مسمى: “أنا غارسيا ماركيز، ولقد سئمت، سئمت جداً.”
غوبيرت : أفهم ذلك، لكن ألا تعتقد أن موقفك هذا في النهاية سوف يحبسك في برج عاجي، حتى لو لم ترغب في ذلك؟
ماركيز: أدرك هذا الخطر وأفكر فيه كل يوم. لهذا منذ عدة أشهر ذهبت الى الساحل الكاريبي ومنها الى جزر الأنتيل الصغرى، جزيرة بعد جزيرة. أدركت من خلال هذا الهروب بأني تعرفت على أربعة أو خمسة أصدقاء، أصنع الصداقات أينما أذهب. في برشلونة، على سبيل المثال، أخرج دائماً مع أربع أو خمس مجموعات، لدينا الكثير من الأشياء المشتركة. بالنسبة لحياتي الشخصية وشخصيتي أجد هذا رائعاً، أجد هذا رائعاً جداً، لكن في وقت ما أدركت أن أسلوب الحياة هذا قد أثر على عملي. وصلت الى ذروة حياتي في برشلونة: أصبحت كاتب محترف، وأدركت فجأة أن هذا مؤذ جداً. أن أعيش حياة كاتب محترف.
غوبيرت : وكيف يبدو ذلك، حياة كاتب محترف؟
ماركيز: أنظر، سوف أخبرك كيف أقضي يومي. أستيقظ مبكراً، الساعة السادسة صباحاً. أقرأ الصحف في الفراش، ثم أنهض، أشرب القهوة وأستمع الى الموسيقى على الراديو، الساعة التاسعة، عندما يذهب الأولاد الى مدارسهم، أجلس للكتابة. أكتب دون توقف حتى الساعة الثانية والنصف ظهراً، ثم يعود الأولاد، يصبح البيت صاخباً للكتابة. لا أرد على المكالمات التلفونية، زوجتي تفعل ذلك، ترد هي بالنيابة عني. نتغدى بين الساعة الثانية والنصف والثالثة. إذا كنت قد ذهبت متأخراً الى الفراش الليلة السابقة، أنام حتى الساعة الرابعة. وبعدها أقرأ وأستمع الى الموسيقى حتى الساعة السادسة، أستمع كثيراً الى الموسيقى، عدا وقت الكتابة لأنها تجعلني مشتتاً. ثم أخرج، أشرب القهوة مع شخص ما، وفي المساء يزورنا الأصدقاء. الآن، هذا يوم مثالي لكاتب محترف، هذا ما يسعى إليه دائما. لكن عندما يتحقق له ذلك، يشعر بالملل وبأن الأمر شاق جداً. لاحظت أني أعيش وجوداً عقيماً، على العكس تماماً مع حياتي كصحفي، وهذا أيضاً بسبب الرواية التي كنت أكتبها، لأنها تتناول تجربة مملة (لا تهمني بعد الآن) بينما رواياتي غالباً ما تتناول قصص قديمة أدمجها مع تجارب جديدة. لهذا السبب أذهب الى بارانكويلا حيث البلدة التي ترعرعت فيها ويسكن فيها أصدقائي القدامى. لكن… زرت كل جزر الكاريبي، لا أكتب، لا أفعل أي شيء هناك، أقضي يومين هنا، أقضي يومين هناك.. وأسأل نفسي: “لماذا أنا جئت الى هنا؟” لا أعرف بالضبط ماذا كنت أفعل، لكن أعتقد أني حاولت ملأ الماكينة التي تعطلت بالوقود. لديك بالطبع الرغبة الطبيعية في أن تكون مدنياً وأن تغلق على نفسك في برج عاجي بمجرد أن تتغلب على المشاكل المادية، لكن لدي إصرار وفطرة للهروب من هذه الحالة، يوجد هناك صراع في داخلي. حتى وأنا في بارانكويلا ــ حيث أقضي هناك إجازة قصيرة، لأني قبل كل شيء لا أريد أن أكون منعزلاً ــ ألاحظ أني فقدت الرؤيا وسط هذه المساحة الكبيرة التي تشغل اهتمامي، وهذا يحدث نتيجة ميلي الى أن أكون ضمن مجموعة صغيرة من الأصدقاء. لكن هذا ليس خطئي، هذا خطأ الظروف المفروضة عليّ، وعليّ أن أحمي نفسي. وهذا سبب آخر لعدم رغبتي في التهويل لكن من مصلحة عملي أن أقول: “أنا غارسيا ماركيز، ولقد سئمت، سئمت جداً.”
غوبيرت : كتب النقاد الكثير عن أعمالك. هل توافق على معظم ما قيل عنها؟
ماركيز : لست شاكراً لذلك وأعرف أن هذا يصعب تصديقه، لكني لست مهتماً جداً بالنقد. لا أعرف لماذا، لكني لا أقارن أفكاري مع ما يقولون. لذا لا أعرف أن كنت أوافقهم أم لا…
غوبيرت : لست مهتماً بآراء النقاد؟
ماركيز: في البداية كنت أهتم كثيراً للنقد، لكن الآن لا أهتم بهذه الدرجة. أعتقد بأن ليس لديهم جديد ليقولوه. في وقت ما توقفت عن قرائتهم لأنهم يفرضون عليّ ما أكتب في الكتاب القادم. ما أن تدخل النقاد في عملي، اكتشفت كل الأشياء التي لا يمكنني أن اكتشفها. أصبح عملي أقل بديهية من جراء ذلك.
غوبيرت: ميلفن مادوكس من “لايف” قال عن “مائة عام من العزلة“: هل أن شخصية ماكوندو تمثل نوع من السيريالية لتاريخ أمريكا اللاتينية؟ أو هل أن ماركيز قدم الشخصية كأستعارة للأنسان المعاصر والمجتمع المنحرف؟.
ماركيز : على الأطلاق. أردت أن أروِ قصة عن عائلة طوال مئة سنة فعلت كل شيء لتمنع ولادة ابن له ذيل خنزير. حبكة القصة والمتاعب حول الرمزية… ولهذا ما قاله ليس صحيحاً. شخص ليس ناقداً قال أن أهمية الكتاب في وصف الحياة الشخصية لعائلة من أمريكا اللاتينية لأول مرة… أنت كقارئ تجلس في غرفة النوم، الحمام، المطبخ، وفي كل زاوية من البيت. لم أقل لنفسي: “سأكتب كتاب يكون مهماً لهذا السبب…” لكن الكتاب قد كُتب بالفعل وهذا ما قالوه عنه، أعتقد أن من الأفضل للكتاب أن يكون ما قاله صحيحاً. على أي حال هذه فكرة مثيرة، ليس كل هذا الهراء صحيح عن مصير الناس والخ…
غوبيرت: أعتقد أن ثيما العزلة حاضرة بقوة في أعمالك.
ماركيز: هذا هو الموضوع الوحيد الذي كتبت عنه، من كتابي الأول وحتى الكتاب الذي أكتبه الآن، هو نوع من التأليه لموضوع العزلة. السلطة، التي هي من وجهة نظري عزلة تامة. كتبت منذ البداية عن العزلة. القصة عن الكولونيل أوريليانو بوينديا، وعن الحروب التي خاضها وكيف وصل الى السلطة، هي في الحقيقة قصة عن الوحدة. ليس كل فرد من أفراد عائلته وحيداً، مثلما قلت أكثر من مرة في الكتاب، ربما أكثر من اللازم، لكن هناك أيضاً حديث عن عدم التضامن حتى بين الأشخاص الذين يتقاسمون سريرأ واحد. النقاد الذين نادراً ما يصيبون الهدف، توصلوا في النهاية الى أن كل فوضى ماكوندو ، وهي فوضى عالمية أيضاً ــ جاءت نتيجة عدم التماسك، نتيجة العزلة الناشئة من أن كل فرد يفكر بنفسه فقط. هو موضوع سياسي أثار اهتمامي على هذا النحو: منح العزلة مفهوماً سياسياً.
________
*مدونة “أصوات” للمترجمة ميادة خليل

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *