*طلال حمّاد
خاص ( ثقافات )
ـ في السجن التقينا ـ
حدّثتني عن زمن سيأتي، وعن أمَلٍ لم يخب في صدرك الجريح، منذ المرّة الأولى، التي اعتقلْتَ فيها، وفي هذه المرّة الثانية.
حدّثتني، وقد صمتّ أنا، لأستمع إليك.
ـ في السجن التقينا ـ
ـ أيّ سجن؟
ـ لا يهمّ. لا يهمّ. وهل يُهِمُّ السجينَ أنْ يكون السجنُ الرملة أو عسقلان أو بير السبع أو النفحة أو الدامون أو بيت ليد.. وفي كلّ مدينة سجنٌ، وكلّ البلاد في آخر المطافِ، سجنٌ كبير؟
قلت لي بأنّ الموتَ كانَ، في كلّ مرّة، قريباً، وأنّه كانَ أقرب إليْكَ، من ظلِّكَ، أو من طُرْفَة عينك. لكنّنا، ها نحنُ نلتقي الآنَ، بعْد عاميْنِ من المرّة الثانية التي ترصّدك فيها الموتُ ولم يُفْلِح. مات الموت خلالهما، وهاأنذا أمامك حيٌّ مثلك، أنصِتُ إليْك، وأنت تحدّثني، وتذهب بناظريْك إلى نافذة الغرفة، في العنبر الكبير، من السجن.
قضيت معك، وقريباً منك، بعضاً من عامين، وأنت تقولُ، وفنجان القهوة لم يحضر بعد: ” غداً موعِدُنا. غداً، حين يكون الأمر أمراً آخَرَ، وتتبدّل معه الأشياء”.
كنت أريد أن أصدِّقَكَ، لكنّني قرأتُ في عينيك شيئاً آخَرَ، غير تبدُّل الأشياءِ، فينا، ومن حولِنا. فقد كان البريقُ فيهما يدُلُّ عليه. شَغَفٌ في أنْ تموتَ شهيداً ويحيى الوطنْ. فما يشي به الحالُ لا يستقيمُ، فإمّا الحياة الحرّةُ وإمّا الشهادَةُ، إن نبلُغِ الظفر.. بالنصر.
وقبلَ أنْ أجمَعَ نَفسي لأمضي عنْكَ، كنْتُ أجْمَعُكَ في عينيّ. كانَ اللونُ الأزرَقُ فيهما، يعكِسُ أزرَقَهُ في الأشياءِ، فيكَ، ومن حولِكَ. كانَ يصبُغُ فيكَ أنحاءً منْكَ، رغم مرور الأعوامِ على اعتقالك، جنْباً إلى جَنْبٍ والدمِ المُتَخَثِّرِ فوقَ جراحك، وبقايا عصا السجّانِ، الذي لم يقهرك.. باديَةٌ على أعضائك عُضْواً عُضْوا.
وحينَ أغمَضْتُ عينيَّ، على صورَتِكَ المُخَضَّبَةِ بالألوانِ، كيْ لا تَضيعَ من ناظِرَيَّ، قلْتُ لِنَفْسي، في نَفسي: ” سأتَّكِئُ، على مخَدَّتي، بعضاً من ساعتيْنِ، هما ما تبقّيا لي، إلى أن يبْزُغَ الفَجْرُ”. لكنّني لم أنَمْ. ولم تنَمْ. فلقد كانَ لديْكَ حديثٌ كثيرٌ.
وعندَما وقَفْتُ، قريباً مِنْكَ، لأودِّعك، وقد حان وقتُ الفِراقِ، والحارِسُ الذي هزَّ مفاتيحَهُ في يَدِهِ وناداني، أطبَقْتَ صَدْرَكَ، على صَدْري، لكَيْ أسْمَعَكَ، وأنْتَ تَهْمِسُ لي: ” سَنَلْتَقي يا رَفيقُ. سَنَلْتَقي”، كانَتِ الجُدْرانُ التي تَعَوَّدَتْكَ، تُطْبِقُ عَليْكَ داخِلَها، وتُطْبِقُ عَلَيَّ ـ بِدَوْري ـ خارِجَها. ومِنْ وراءِ القُضْبانِ، أو منْ أمامِها، نَظَرْتَ إلَيَّ، ونَظَرْتُ إليْكَ، والسجّانُ يَجْذِبُني من ذراعي، لِيأخُذَني بَعيداً عَنْكَ، ويَدْفَعُني نَحْوَ باب السِجْنِ الذي أجْبَرَنا أنْ نَبْنيهِ بِأيْدينا. وفي لحْظَةٍ كَلَمْحِ البَرْقِ، رأيْتُ مؤبّداتِكَ التي تُكَبِّلُكَ، فأبْرَقَتْ في عيْنَيَّ دَمْعَةٌ، بينما ابتَسَمْتَ أنْتَ، ورفَعْتَ يَدَك مودّعاً، ولَحِقْتَ بي بِصَوْتِكَ، مُرَدِّداً: ” سنلتقي. سنلتقي يا رَفيقُ”.
أرسلتُ لك سلاماً. وكلاماً. وانتظرتُ لأعْرِفَ إنْ كان سلامي، وكلامي، قد وصلاك، في كلّ مرّةٍ أرسلتُهما لك. كما انتظرتُ ذلك الغَدَ الذي وعدتَني به أنْ نلتَقي به.
بعد ثلاث سنواتٍ من فراقنا، أنا خارج الجدرانِ والقضبانِ، وأنْتَ داخِلَها، وَهَبَكَ الرفاقُ ” نورَسَةً”، فرِحْتُ بها، وفرِحْتُ لِفَرَحِك. فقد أطْلِقَ بها سراحُكَ، لكنْ خارِجَ حدودِ الوَطَنْ. إلى لُبْنان. وهكذا تباعَدَتْ بَيْنَنا المسافاتُ. ولم يَعُدْ من السهْلِ عليَّ أنْ أرسِلَ لكَ، سلاماً، وكلاماً، كما كانَ مُمْكِناً منْ قَبْل.
حتّى حملت لِيَ الأخبارُ، وكم كانت قاسية، مِنْ بَيْروتَ المُحاصَرَةَ، بالأعْداءِ، وبالرَصاصِ والدَمارِ، والقنابِلِ، عُنْقوديِّةً، وفسفوريَّةً، في بيانٍ للاتِّحادِ العام للكُتّابِ والصُحُفِيِّينَ الفِلِسْطينِيّينَ، أنَّكَ استُشْهِدْتَ في ساحَةِ القِتال. وأنّكَ تَرَكْتَ قَلَماً وورْقَةً، كانا في يَدِك. بينما أخَذَتْني أنا المنافي، في تفاصيلَها القاتِلَة، وفي يدي قَلَمٌ وورقَة. قلَمُ رَصاصٍ، وورقَةٌ من دفْتَرٍ حَمَلْتُهُما مَعي، مِنَ القُدْسِ. كلُّ ما استَطَعْتُ أنْ أفْعَلَهُ، أو أكتُبَهُ، لَحْظَةَ بُلوغي الخَبَر، هو اسمُك: سَميرْ. الرَفيقُ سَمير. سَمير دَرْويش.
( سمير درويش ابن عم الشاعر الكبير محمود درويش. أطلق سراحه في عملية تبادل للأسرى بين م ت ف و”إسرائيل”. عملية النورس، التي بدأت في 9 آذار/ مارس وانتهت في 14 منه عام 1979. استشهد في بيروت المحاصرة خلال الغزو الصهيوني لبيروت)
_________
مونبيلييه ـ فرنسا
سبتمبر/ أيلول 1982