* د. حورية الظل
خاص ( ثقافات )
يؤكد الواقع التاريخي بأن الفوضوية أو اللاسلطوية، حرية سبقت الحكم المنظم، وأن أصل المصطلح يعود إلى اليونانية (أناركيسموس)، ومعناها الحرفي (بدون حكام)، والفوضوية وجدت من يؤيدها، كما جعلها اسمها هدفا سهلا للانتقادات، باعتبارها زارعة للفوضى والفتن؟ فأي الرأيين صحيح؟ هل أحدهما، أم الإثنين؟
ذلك ما سنحاول توضيحه من خلال النبش في تاريخ الفوضوية السياسية التي سادت في الغرب في نهاية القرن التاسع عشر وأيضا الجمالية الفوضوية التي ترتبت عنها، فهل كانت الأولى تنظيم إرهابي أم مجرد إيديولوجية تحررية؟ وكيف استطاعت الثانية أن تكون وسيلة للتحرر من التقليد والجمود الذي فرضته المدارس السائدة فانبثقت عنها مذاهب وحركات فنية وإبداعية وفكرية تثمن الفردية كسبيل للتحرر. إذن هل الفوضوية الدموية العربية الراهنة بقيادة داعش ستكون طريقا سالكة للتحرر الفكري والفني، وهل سيعلن المثقف العربي عن فوضويته المضادة التي ستؤسس لغد عربي أرقى وأجمل وأنظف.
الفوضوية السياسية بين الغرب والعالم العربي:
للفوضوية أسس فلسفية في الفردية والذاتية والإرادية، وأول من نظر للفوضوية الفرنسية بيير جوزيف برودون (1809 – 1865)، الفيلسوف والسياسي الفرنسي، الذي جعل منها حركة تحررية قائمة على تعاون المنضوين تحت لوائها خارج سلطة أية حكومة، ونادى بالحرية والتعاقد في إطار توافق طوعي بين أشخاص أحرار متساوين في الحقوق والواجبات التي لا بد أن تكون متبادلة، الأمر الذي يؤسس بالنتيجة للعدالة. لكن ما أسباب الفوضوية السياسية التي هزت الغرب؟ وهددت الدول؟ لقد كان السبب اقتصادي بالأساس، وناتج عن التفاوت الطبقي الذي أضحى سائدا في أوربا آنذاك، حيث أفلست مشاريع البورجوازية الصغيرة التي عجزت عن مواجهة غول الاحتكار الذي مارسته الشركات الكبرى، كما أن العمال عانوا من ساعات العمل الطويلة وقلة الدخل وبالمقابل تركزت الثروة في يد قلة قليلة ، وأصول الفوضوية تعود لبداية الثورة الفرنسية (1798م)، وانتشرت بعد ذلك في الجوار، فشملت إيطاليا وإسبانيا خلال القرن 19 عشر واستمرت إلى حدود الحرب العالمية الأولى، وأسست هذه الفوضوية لمبادىء هدفها مقاطعة الحكومات وقطع دابرها إن أمكن، لأن لا مكان لها في قواميسها فهي حجر عثرة أمام الحرية، وانضوت تحت لوائها العديد من الإيديولوجيات وكان الجامع بينها هو مناهضة الدولة وسلطتها، لكنها بخلاف الإيديولوجيات الأخرى لم يكن هدفها الاستيلاء على السلطة أو على مقاليد الحكم لأن ما سعت له هو إلغاء الدولة.
وعرفت الفوضوية مرحلتين، الأولى كانت لنشر أفكارها واستقطاب مؤيديها، فمارست دعاية قوية من خلال الصحف والمجلات فنددت بالتفاوت الطبقي والثانية تمثلت في الانتقال من القول إلى الفعل حيث عرفت باريس العديد من التفجيرات بين سنتي 1892م و1894م وقد استهدفت القنابل المؤسسات والأفراد، فتم إدراجها ضمن المنظمات الإرهابية، وما مارسته من إرهاب لم يكن دمويا بدرجة كبيرة حيث لم يتجاوز عدد الضحايا في باريس، مركز الفوضوية، اثني عشر قتيلا، وما جعل خيارها هو العنف، كونه البوصلة التي تجعل الأمور تتجه لما فيه مصلحتها وتروض من خلاله الدولة لترضخ أو تزول، لكن التناقض الذي سقطت فيه أنها رفضت عنف الدولة لكنها تبنته، وكان هذا من الأمور التي جعلتها عرضة للنقد. وقد وجدت الطبقة البورجوازية الأوربية نفسها في مأزق نتيجة تعرض مصالحها لتهديد أكيد، لكن رد الحكومة طمأنها لأنها سنت قوانين صارمة تركت أثرها السلبي على الحريات المدنية والقانونية.
ولا زالت بعض فسلات الفوضوية السياسية الغربية مغمورة هناك، كلما أتيحت لها فرصة النمو عرشت، ومع تغير الظروف أضحت تنتج ثمارا إيجابية في الغالب، والفوضويون الجدد ينضوون تحت لواء جمعيات أو منظمات تقف بالمرصاد لكل ما تقوم به الدول الحديثة من تجاوزات وخروقات للمواثيق الدولية ولحقوق الإنسان، كما يحمّلون الرأسمالية الجشعة مسؤولية ما تعرفه البيئة من تلوث وما يعرفه العالم من حروب ومجاعات.
وقبل الانتقال لتناول تأثير الفوضوية السياسية الغربية على المشهد الثقافي والفكري آنذاك، لابد من التعريج على الفوضوية السياسية العربية الراهنة التي بدأت خلاقة مع ثورات الربيع العربي والتي كان من المفروض أن تسهم في تحرر الشعوب العربية لو أعطت ثمارها المرجوة، وقد واكبتها بوادر جمالية فوضوية على مستوى الإبداع والفن من خلال الفن الكرافيتي والملصقات والأشعار التي كانت من متطلبات الثورة، لكن ما حدث أنه تمت سرقة هذه الثورات قبل أن تزهر، فتحولت إلى إرهاب دموي، الأمر الذي جعل الفوضوية السياسية التي عرفتها أوربا في نهاية القرن التاسع عشر تبدو بئيسة مقارنة مع الفوضوية السياسية العربية الحالية التي تقودها داعش وبوكو حرام والقاعدة وغيرها، وتمارس فضائع في حق الإنسانية فتستهدف وحدة الأمة العربية وحضارتها وتقتل الأبرياء باسم الإسلام الذي كرم الإنسان.
ورغم أن المنظمات الإرهابية عمرها قصير وتعتبر ظاهرة تاريخية محدودة في الحيز الزمني، كما هو حال كل المنظمات التي تتبنى القتل والتدمير شريعة لها، فإننا سنطرح سؤالا مشروعا، هل ستواجه الفوضوية الإرهابية العربية فوضوية مضادة يقودها المثقفون والمفكرون العرب فيعملون على النكوص إلى ذواتهم لإعادة بنائها وتحريرها من التقليد والعمل على اقتحام مفاوز جديدة عبر تبني مشاريع ثقافية حقيقية ومساءلة التراث وهي أمور ستسهم في تطوير المجتمع العربي وتنويره كما ستسهم في بناء شخصية عربية سوية بعيدة عن التطرف. وإيجابيات الجمالية الفوضوية تتأكد من خلال ما حققته هذه الجمالية في الغرب، فجعلت المفكرين والفنانين والمبدعين يقتحمون فضاءات أوسع وأرحب وأكثر حرية، وأعمالهم كانت خلخلة للمسلمات وللواقع وحققت النتائج المرجوة منها.
الجمالية الفوضوية في الغرب:
تأثير الفوضوية على الفن والأدب ليس ناتج عن صور محددة أو شخصيات عامة، ولكن يمكن اعتبارها اقتراب من التحرر الكلي للخيال، وقد عُرف في الغرب فنانون شقوا لأنفسهم طريقا للتغيير وتحقيق الذات فألهموا الأجيال اللاحقة لأنهم رموا حجرا ثقيلا في بركة الفن والإبداع الآسنة آنذاك، الأمر الذي مكنهم من التحرر من الحركات والمدارس الفنية التقليدية فأبدعوا بطريقتهم الخاصة، متبعين رؤاهم بدل السائد ومحققين خصوصيتهم بدل التقليد، ولخص مالارميه هذه الحرية بقوله: ” ينزوي الشاعر إذن في ركن ما يعزف اللحن الذي يحلو له”، أما غوته فأوصى الشعراء بضرورة بحثهم عن الإيقاع الذي يستجيب لقناعاتهم في إمبراطوريات روحهم البعيدة الغور. ويُحسب مالارميه (1842 – 1898) الشاعر الرمزي على الجمالية الفوضوية أيضا ومما قاله: ” لا أعرف قنبلة أخرى غير الكتاب”. أما فردينان سيلين، مفكر وكاتب فرنسي يميني فوضوي ناصر النازيين، فلم يسلم من هجوم الكتاب الفرنسيين لكن إبداعاته الفوضوية لقيت هوى في نفوسهم فجعلت سارتر يتخلص من طريقته الفجة في الكتابة، وما قالته سيمون دي بوفوار عنه: “فوضى سيلين كانت تبدو لنا شديدة القرب من نزعتنا الفوضوية، هو أيضا كان يهاجم الحرب الكولونيالية والتفاهة والأفكار السائدة” أما رامبو فيعود للسريالية الفضل في الكشف عن رؤاه التحررية والتي تمثلت في قصيدة “القارب السكران” والتي كانت التبرير الأكثر إقناعا لتنظيرات السرياليين وثورتهم على مذهب العقلانية الجافة في الأدب والفن والحياة، والسريالية مذهب فرنسي هدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق حسب ما جاء به منظرها أندريه بريتون ومن تم تثوير ما هو شخصي وثقافي واجتماعي وسياسي، ومن أهم أقطاب هذه الحركة الفنان سلفادور دالي. ثم المدرسة الوحشية التي ازدهرت في باريس ورأت في الفوضوية الحل الأمثل لما تتخبط فيه فرنسا من مشاكل، ومن روادها هنري ماتيس، وتمتاز أعمال هذه المدرسة بالألوان الصاخبة مع تحطيم المنظور وتسطيح الشخصيات، وقد وصلت مبالغة بعض النقاد إلى درجة وصف أحدهم لضربة فرشاة الرسام أندريه ديرين بأنها “مغموسة بالديناميت” كما تأثرت بالفوضوية أيضا التكعيبية والدادائية.
لقد رأى الفنانون والمبدعون الغربيون آنذاك بأن أعمالهم قادرة على التغيير لتكون بذلك الجمالية الفوضوية إعادة بناء وإعادة خلق تصور جديد للعالم. وبالنتيجة خلفوا تراثا فخما من الإبداع والفكر لا يزال تأثيره ساريا إلى اليوم في بعض المدارس الإبداعية كالواقعية السحرية بأمريكا اللاتينية.
إذا تجاوزنا كون الفوضوية السياسية الأوروبية قصيرة العمر منظمة إرهابية، فإننا سنخلص إلى أثرها الإيجابي على الفكر والإبداع والفن، لكن الذي يحدث في العالم العربي أنه يرزح حاليا تحت نير فوضوية سياسية دموية، ويبدو أن الإرهاب الدموي الداعشي ما هو إلا كابوس مرحلي أثبت فشل المشروع السياسي العربي، فأضحت مسؤولية تغيير الواقع العربي ملقاة على عاتق المفكرين والمثقفين والمبدعين العرب ومفاتيح المستقبل بأيديهم. فهل سيكونون في حجم المسؤولية المنوطة بهم؟ أم سيفضلون المكوث في الأبراج العاجية مؤثرين السلامة؟