*عدنان حسين أحمد
تُوحي ملاعب الغولف بأنها البقع الأكثر أناقة وجمالاً في جسد الطبيعة، لكن ثمّة وجهاً معتماً لهذا الجمال لا يستطيع المشاهد أن يكتشفه من النظرة الأولى. فجمال هذه البقع يحمل جرثومة الموت التي تشبه تماماً السُمّ المدسوس في قارورة عسل شديدة الحلاوة والإغراء.
يندرج فيلم «الجانب المُعتم من الخُضرة» (2015) للمخرج البريطاني أنتوني باكستر ضمن باب الأفلام الوثائقية الاستقصائية، التي يحاول فيها المخرج أن يصل إلى الحقيقة الكاملة أو إلى القسم الأكبر منها في الأقلّ. وهذا ما فعله باكستر على الرغم من بعض «الإهانات» التي تحمّلها أو الدفْعات القويّة التي تلقّاها في صدره من بعض الشخصيات المُحاوَرة، التي لا تتورّع عن استعمال العنف اللفظي أو البدني.
تتمحور ثيمة الفيلم على ملاعب الغولف وتأثيراتها الخطيرة على توازن البيئة المحلية والناس المقيمين فيها، ولَعلّ الجملة الاستهلالية المخطوطة بالأصباغ على جدار مخزن صفيحي كبير في مزرعة مايكل فوربس تقول كل شيء دفعة واحدة: «لا لملعب الغولف» و«كفى لأكاذيب ترامب» وهو يقصد البليونير الأميركي دونالد ترامب الذي يخطط لإنشاء ملعب غولف ومنتجع سياحي على ساحل مدينة أبردينشير الأسكتلندية.
لم يكنْ الفلاح فوربس هو الشخص الوحيد الذي يقف ضد هذا المشروع، وإنما تقف إلى جانبه الغالبية العظمى من السكّان المحليين الذين يعتزون ببريّتهِم ولا يسمحون بتلويث أجمل الكثبان الرملية في القارة الأوروبية وتشويه منظرها الطبيعي البِكر الذي يخلب الألباب. قفز اسم فوربس إلى الأضواء حينما رفض بيع منزله المتواضع وأرضه الزراعيّة إلى دونالد ترامب على الرغم من المبلغ المغري الذي قدّمه هذا الأخير وشكا غير مرّة بأن هذا البيت المهلهل سوف يشوّه المنظر من فندقه الجديد الذي ينوي بناءه بعد أخذ الموافقات الرسميّة.
البنية المعمارية
لابد من الإقرار بأن هذا الفيلم مبني بطريقة رصينة تقوم على طبقات مُتعدّدة تحيط المتلقي بمعلومات كونية تمتد من أسكتلندا إلى أميركا، وتمرّ بكرواتيا والصين، وتنتهي بالإمارات العربية المتحدة وآيرلندا، وكأنّ المخرج يغري المتلقين باصطحابهم إلى بيئات متنوّعة تُدهشهم وتزوّدهم بالمعلومات العلمية التي تميط اللثام عن مخاطر ملاعب الغولف، التي تجاوز عددها 30 ألف ملعب يقع نصفها بالضبط في الولايات المتحدة الأميركية.
وبغية التنويع وعدم السقوط في فخ الرتابة والملل، ينتقل المخرج أنتوني باكستر من أبردينشير وسواحلها العذراء إلى مدينة دوبروفنيك الكرواتية التي تُعدّ من المواقع التراثية العالمية المهمة في أوروبا الشرقية، وتتميّز بإطلالتها الساحرة على بحر الأدرياتيك، وقلعتها القديمة، والسور الذي يطوّق المدينة برمتها. ومن خلال الناشطة الكرواتية رومانا هانصال نتعرف إلى جوانب أخرى من مدينة دوبروفنيك لأن أهل مكة أدرى بشعابها من الآخرين. فهذه القلعة الجميلة لما تزل تحمل آثار القنابل خلال حصارها في الحرب الكرواتية عام 1991، ولكنها الآن أصبحت مقصداً للسياح من مختلف أرجاء العالم.
ينتقل بنا المخرج فجأة إلى منتجعات الغولف في صحراء نيفادا ولاس فيغاس ليؤكد لنا بأن هذه المشكلة عالمية، وإن اقتصرت الاحتجاجات على موقعين مهمين فقط وهما أبردينشير الأسكتلندية ودوبروفنيك الكرواتية. أما الصين فقد اُعتُبرت هذه الهواية غير قانونية، كما أن الإمارات العربية لم تبالِ بالمبالغ المادية الكبيرة التي أنفقتها على تنفيذ ملاعب الغولف في صحرائها القاحلة، ولا بكميات المياه الهائلة التي تكفي لإرواء أكثر من ثلاثة أرباع سكّان الكرة الأرضية. أما رحلة ترامب الأخيرة إلى آيرلندا فهي أشبه بالصعقة التي تحفِّز المُشاهد على الاحتجاح واتبّاع كل السبل القانونية التي تمنع تغوُّل الأثرياء وتحدّ من أحلامهم الوحشية المدمِّرة.
يعتمد البناء الداخلي لهذا الفيلم على معركتين احتجاجيتين وقانونيتين، إن صحّ التعبير، فمعركة أبردينشير الأسكتلندية «تنجح» لإصرار المحتجين من جهة، وذوي العلاقة المباشرة من جهة أخرى وعلى رأسهم الفلاح البسيط فوربس. أما معركة دوبروفنيك فإنها «تفشل» لا لقصور المحتجين من أبناء المدينة، وإنما بسبب الفساد المالي والإداري والسياسي، إضافة إلى قصور القانون في تغطية بعض الثغرات التي تتعلّق بحماية البيئة في هذا المكان الجميل في العالم. ومع ذلك فإن اليونسكو قد ضيّقت من مساحة الفشل الذي مُني به المحتجون حينما أجبرت الشركة المنفذة على تقديم تعهّد تلتزم فيه بعدم إلحاق أي ضرر بيئي في مدينة دوبروفنيك، وضمان عدم تسرُّب المواد الكيماوية إلى الينابيع والمياه الجوفية أو إلى نهر أومبلا.
التشويق والإثارة
يمتلك هذا الفيلم الكثير من عناصر التشويق والإثارة فقد نجح المخرج في اختيار العديد من الشخصيات المهمة والمثيرة للجدل وأبرزها السياسي، ورجل الأعمال الشهير دونالد ترامب المرشح الرئاسي في انتخابات 2016. تكشف كل اللقاءات التي أجراها المخرج مع ترامب أن شخصية هذا الأخير مُتعجرفة، وأنّ أنويته مُتضخمة جداً إلى الدرجة التي يعتبر نفسه فيها خبيراً في السياحة والبيئة والاقتصاد، وها هو يطرح نفسه كمرشح للرئاسة الأميركية المقبلة التي قد تؤهله لاتخاذ قرارات خطيرة تهمّ كوكبنا الأرضي الذي يحتضن ثمانية مليارات من البشر.
أما الشخصية الثالثة التي تنطوي على غرابة في سلوكها أكثر مما تحمله من الإثارة فهي شخصية رئيس بلدية دوبروفنيك أندرو فلاهوزيك، زعيم حزب الشعب الكرواتي، ووزير صحة سابق في كابينة إيفيكا راكان الثانية. فهو لا يتورّع أن يصف سؤال المخرج بالغبي، أو ينعت القانون الكرواتي كله بالغباء. ولا يجد حرجاً في إنهاء اللقاء مع المخرج بطريقة مهينة تفتقر إلى الذوق والكياسة.
وعلى الرغم من أهمية الشخصيات الأخرى إلا أننا سنكتفي بشخصية الممثل الأميركي أليك بالدوين الذي يتحدّث بكل جديّة عن مخاطر البيئة، وهو النجم المتألق الذي عرفناه في «مطاردة أكتوبر الأحمر»، «أشباح مسيسيبي»، و«عربة اسمها الرغبة» وغيرها من الأفلام التلفازية والسينمائية التي نال عنها جوائز الغولدن غلوب ونقابة ممثلي الشاشة. إن حضور هذه الشخصيات السياسية والفنّيّة، إضافة إلى الأكاديميين والمتخصصين قد عزّز الفيلم بعناصر القوة والنجاح والأصالة، كما أن المُشاهِد بطبعه ميّال إلى معرفة الجوانب السلوكية والنفسية للشخصيات السياسية والفنّيّة المثيرة للجدل.
يعوِّل المخرج كثيراً على آراء الناس البسطاء الذين يعيشون في أحضان الطبيعة ويحتكون بها يومياً مثل عائلة الفلاح مايكل فوربس وزوجته شيلا وأمه مولن، والسيدة سوزان مونرو التي لم تعد ترى الثعالب والغزلان في البرية المحيطة بمنزلها. أو كارين بيتيزا التي تحب دوبروفنيك ولم تعتد على مكان آخر غيره. وهي تشبه والدها الذي يعتبر نفسه جزءاً أساسياً من هذا المكان الحميم الذي عاشت فيه ثمانية أجيال من عائلته وهو يرفض كلياً إحداث أي تغيير في بيئة مدينته وأنه يرى في ملعب الغولف الذي يُزْمَعُ إنشاؤه تطفلاً على جسد المدينة وتغييراً قسرياً لبيئتها الجميلة. كما أن الأخرين يرون في ملاعب الغولف الخضراء المترفة كأنها مُستعارة من مناطق أخرى في العالم وهم يقصدون في الأعمّ الأغلب أميركا الشمالية التي توفر هذه الملاعب لحفنة صغيرة الأثرياء الذين لا يهمهم تشويه الطبيعة أو تدميرها بالمواد الكيماوية التي تتسرّب إلى التربة والمياه الجوفية فتلحق في خاتمة المطاف ضرراً كبيراً بالبيئة والإنسان في آنٍ معاً.
وعلى الرغم من الاستفتاء الذي أُجري في دوبروفنيك وعارض إنشاء المشروع ٪85 من سكّان المدينة إلّا أن الاستعدادات كانت جارية على قدم وساق لتنفيذه شرط ألّا يؤثر على بيئة المدينة ولا يلوّث مصادر مياهها، فالمشروع- بحسب رئيس البلدية- يحتاج إلى مليون متر مكعب سنوياً.
أما في أسكتلندا، فقد رفض البرلمان الموافقة على تنفيذ مشروع دونالد ترامب، الأمر الذي دفعه للذهاب إلى آيرلندا للبحث عن أمكنة أخرى لا يعترض سكّانها على مشاريعه السياحية التي تلبّي رغباته وحاجاته الشخصية قبل أن تستجيب لحاجات السكّان المحليين.
___
*الدوحة
___
*الدوحة