صدر حديثا… ” حيفا.. الكلمة التي صارت مدينة” للمؤرخ د.جوني منصور


خاص ( ثقافات )

«حيفا.. الكلمة التي صارت مدينة» هو آخر كتب د.جوني منصور، الملقب بـ«مؤرخ حيفا»، وقد أهداه إلى «أبناء ومحبي حيفا في كل مكان» وصاغه بمرجعية وطنية بهدف سبر أغوار مدينته، لتعريف القارئ المعاصر بدلالات ومضامين حياتها الماضية من جوانبها المختلفة، والتي جعلت منها واحدة من أهم مدن فلسطين والدول العربية على امتداد سنوات طويلة، لازدهارها واشتمالها على الفرص الواعدة التي أتاحتها لأهلها وللوافدين إليها على حد سواء، في مجالات العمل والعلم، ضمن آفاق واسعة من مكونات الحياة الحديثة والمعاصرة.
تستيقظ الذاكرة في هذا الكتاب الصادر عن (الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2015) على مدينة انفردت بمزايا اقتصادية وثقافية وعمرانية كثيرة جعلتها تعيش ازدهاراً منقطع النظير؛ ميزها عن كثير من المدن الأخرى القريبة منها، وجعلها مدينة مركزية بكل معنى الكلمة؛ تنبض بمظاهر انتعاشات اجتماعية واعلامية وفكرية وثقافية وفنية، وتوفر سبل عمل كثيرة متشابكة لأهل فلسطين، ولغيرهم من أبناء الأمة العربية.
فما إن بزغ نجم حيفا حتى بدأت تستقبل عائلات بكاملها وأفراداً وفدوا إليها بحثاً عن لقمة العيش الكريمة، فاحتضنت الوافدين إليها من أبناء فلسطين، ومن أبناء عدد من الدول العربية المجاورة وغير المجاورة، وتعاملت معهم بانفتاح كبير، ووفرت لهم أجواءً مناسبة لتنظيم حياتهم وتأكيد حضورهم في المجتمع الحيفاوي.
يقع الكتاب في 436 صفحة من القطع الكبير، وهو كتاب ممتع ضخم وشامل يتألق بحمولة نصية ذات قيمة متميزة، يضم بين دفتيه مجموعة كبيرة من المقالات التي تُشرع أبواب حيفا عبر الزمن، لتعريف القارئ بمشاهد ولحظات وأفكار متناغمة ومنسجمة، عن تاريخها وأعلامها البارزين ومعالمها الحضارية والأحداث الرئيسة والمصيرية التي شهدتها في ماضي أيامها، منذ أن كانت قرية صغيرة للصيادين وحتى غدت مدينة عصرية كبيرة.
ويحتوي الكتاب أيضاً على مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية، التي تُعبّر في مجملها عن علامات دلالية مهمة للمجتمع الحيفاوي، جمعها مؤلف الكتاب من عائلات حيفاوية على مرّ العقود الثلاثة الماضية، ليزود القراء برؤية استثنائية تزخر بالحيوية، وتعطي صورة حقيقية عن واقع الحياة في حيفا قبل النكبة. 
ويقدم الكتاب هذه الصور بشكل بانورامي متميز، يجمع في علاقة متشابكة بين تاريخية الزمن وجغرافية الذاكرة، بتلازم واضح ما بين الصورة والكلمة، وفق دلالات ذات صلة بكل جوانب الحياة التي عاشها أهل حيفا، وهذا يُسهل على الأجيال الصاعدة والقادمة معرفة مدينتهم، وجعلها حية في وجدانهم، وجعل ذاكرتها خالدة على مدى الأيام.
بهذا يسبر المؤلف أغوار الجوانب الاجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة تفاصيل حركية الحياة الحيفاوية في زمن مضى، يمكن للقارئ تتبع خيوطها في مسالك النص، فصلاً بعد آخر، مصحوبة بصور متشابكة معها، آهلة بشخوص من أهل حيفا وبمشاهد ولحظات تزدهي بها أيام حيفا الماضية، وهي تُقدَّم للقارئ للمرة الأولى بدرجة عالية من الشمول والعمق والامتداد.
تتتابع على صفحات الكتاب توضيحات تاريخية كثيرة، في فضاء واسع من التذكر تشكل النسيج التاريخي الخام لحيفا منذ بداياتها الأولى في العهد العثماني، ومروراً باحتلالها من قبل الإنجليز في العهد الانتدابي، ووصولاً إلى أيامها الأخيرة، عندما عمها الخراب والدمار وكل أشكال الفوضى، وتم تهجير سكانها الأصليين في نيسان عام 1948، وبدأت موجات منهم بمغادرة عروس الكرمل مع بدء تنفيذ مخططات التهجير والتطهير العرقي التي عمّت بقية المدن والقرى الفلسطينية، وتقطعت أوصالهم في ديار الاغتراب، وباتوا يحلمون بالعودة إلى مدينتهم المفقودة، حملوا حلم العودة إليها في فكرهم وعقولهم وقلوبهم، ونقلوه إلى أبنائهم وأحفادهم من الأجيال الصاعدة.
ثمة مشاهد تاريخية كثيرة تم تعريفها في إطار أحداث متشابكة في مراحل مختلفة من زمن مضى، لتشكل خليطاً تاريخياً يمتد ليشمل عرضاً واسعاً عن شخصيات كثيرة وعن أحداث متنوعة ساهمت في تشكيل حيفا بأكملها و«بناء نسيج اجتماعي موحد مؤسس على رؤية عروبية، وهذا ما ميز أهالي حيفا؛ تمسكهم بالرابطة القومية، وسعيهم إلى تثبيت جذورها عبر تاريخ مدينتهم المعاصر».
وثمة ملامح كثيرة في صور الكتاب تُبين مسيرة حيفا العمرانية؛ بيوت بالغة الأناقة مبنية بحجر أبيض مدقوق بعناية كبيرة، متناثرة في كل الجهات، تعلو أغلبها شرفات مطلة على شاطئ البحر، كما تبيّن الصورُ حيثيات البيوت من الداخل؛ تظهر حمولات دلالية كثيرة عن نمط حياة سكان حيفا، وعلاقتهم بالعصر الذي عاشوا فيه من حيث أزيائهم، ووسائل الراحة والرفاهية والفخامة الفاخرة التي توفرت لهم، بما يشير إلى علو مستوى معيشتهم.
يتسع مدى الصور، وتشتد وطأة حيفا فيها؛ تَظهر فيها مناظر خلابة للبحر والكرمل، وجوانب كثيرة من أحياء حيفا الممتدة في كل الجهات: حي وادي الصليب والحليصة وساحة الخمرة (الحناطير) ووادي النسناس وغيرها، كما يظهر شارع الملوك وغيره من الشوارع الأخرى، وثمة صور أخرى تستحضر مساجد حيفا وكنائسها وحدائقها ومسارحها ومدارسها وصحفها وأسواقها وفنادقها وأنديتها الرياضية والثقافية والاجتماعية.
وهناك في مسالك النص تفاصيل كثيرة عن شخصيات متميزة عاشت في حيفا؛ الشيخ عز الدين القسام صاحب التجربة الثورية الأولى في عام 1933، القائد الأردني الشهيد محمد حمد الحنيطي قائد حامية حيفا، المطران غريغوريوس حجار مطران العرب وأحد رموز الحركة الوطنية الفلسطينية، الكاتب عبد الله مخلص حافظ التراث العربي، الأديب عزيز سايمان ضومط ابن حيفا الذي حظي بشهرة واسعة بمسرحياته وكتاباته في ألمانيا ودول أخرى وتم ترشيحه لجائزة نوبل للآداب في عام 1936، الدكتور داهش الذي ذاع صيته في أنحاء المعمورة بفعل المعجزات التي قام بها وعجز العلم آنذاك عن تفسيرها، الشاعر جميل البحيري باعث النهضة الأدبية والثقافية في حيفا من خلال مسرحياته وكتاباته في مجال الوحدة القومية، الشاعر مطلق عبد الخالق الذي واكب مسيرة شعبه النضالية من أجل إحقاق حقوقه في وطنه.
ومن شخصيات حيفا أيضاً: محمود المغربي الحيفاوي الذي أصبح أول رئيس وزراء في ليبيا بعد سقوط الملكية، نجيب نصار شيخ الصحافة الفلسطينية وصاحب صحيفة «الكرمل» الحيفاوية التي تأسست قبل أكثر من مئة عام، رشيد الحاج إبراهيم رئيس اللجنة القومية بحيفا، سامي طه النقابي الأول للحركة العمالية في فلسطين الذي اتهمت الهيئة العربية العليا بتدبير جريمة اغتياله في عام 1947، الشاعر وديع البستاني الذي بادر مبكراً إلى تأسيس الجمعية الإسلامية-المسيحية التي تحولت إلى اللجنة التنفيذية العربية ومن ثم إلى الهيئة العربية العليا، وشدد في شعره على التمسك بالانتماء إلى العروبة أولاً وأخيراً، الفنان المسرحي إسكندر أيوب بدران عميد المسرح العربي الفلسطيني الذي ساهم في جعل حيفا في صدارة منتجي ومستهلكي الثقافة المسرحية والفنية بأنواعها المختلفة، نوح إبراهيم الشاعر الشعبي الوطني والثائر الذي تتلمذ على يد الشيخ عز الدين القسّام ورافقه واستشهد من أجل وطنه، وقد اشتهر بقصائد كثيرة منها قصيدة «دبّرها يا مستر دل».
هي شخصيات مهمة رائدة ومؤثرة من فلسطين ومن خارجها من الدول العربية المجاورة، امتزجت في تكوين حيفا البشري بتناغم رائع، ويرصد الكتاب سير تلك الشخصيات على كل الصعد المهنية والوظيفية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية، ويبين بموضوعية في فصول متتابعة، مدى ارتباطهم بالمكان وأحداثه، في سياق حكايات تشكل بمجموعها لوحة تجسد أبعاد مشاهد كثيرة مفعمة بالحيوية.
وفي إطار تعريفه للنخب الحيفاوية، يتيح الكتاب معرفة أنشطة أعمال متميزة بدأت في حيفا، وما زالت آثارها مستمرة حتى الآن، مثال ذلك تأسيس رجل الأعمال حسيب صباغ شركة في حيفا باسم «اتحاد المقاولين» في أربعينات القرن الماضي، وهي نفسها الشركة التي أعاد تفعيلها بالاسم نفسه في بيروت عام 1952، مع شريكين أحدهما من صفد والثاني من أهالي حيفا، وقد التقى الثلاثة لإعادة نشاطها من جديد في قطاعات الإنشاء والنفط والغاز، ووفروا من خلالها أماكن عمل لشرائح واسعة من العمال العرب، ومع الأيام اتسعت أعمالها في مجالات حيوية كثيرة حتى غدت من أكبر شركات المقاولات في الوطن العربي، بل حتى على المستوى العالمي، ويعمل فيها أكثر من سبعين ألف عامل، في عدد كبير من الدول العربية والأجنبية.
ومن الأعمال المتميزة الأخرى التي بدأت في حيفا، شركة الكات للمقاولات التي أسسها إميل البستاني (لبناني الأصل) في دكان صغيرة بشارع الملوك في أربعينات القرن الماضي، واشتهرت بعد ذلك وأصبحت من كبريات شركات المقاولات العربية، وهذا مثال على مآثر حيفا واحتضانها الكثيرين من ابناء الدول العربية المجاورة.
أجل كان الكثيرون يلجأون إلى حيفا للعمل؛ ينضمّون إلى سكانها، تمتلئ بهم، كانوا يأتون إليها من دول كثيرة عربية وغير عربية، وهكذا شبّت فيها أجيال من منابت ومشارب مختلفة من الوافدين إليها بعلاقات اجتماعية مترابطة مع أهل البلاد، يسودها جو من الاحترام والتعايش المشترك، عملوا في كل مراكز حيفا وأنشطتها وعاشوا كأبنائها وساكَنوا أهلها في كل أحيائها وشوارعها والضواحي القريبة منها.
وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب لا يتناول ذكر المشاهير فحسب، بل يهتم أيضاً بذكر أسماء أشخاص من أصحاب المهن العادية، وعلى وجه خاص الأسماء البارزة منهم في مجالات الخياطة والتنجيد والغربلة و«العربجة» والعتالة والحراسة، وكيّ الطرابيش ونسج الحصر ورتق السجاد وصنع السروج، والتسحير والتنجيم وقراءة الطالع والعلاج بكتابة الحجُب، وفن الخط الذي برز فيه عوض الرومي والد الفنان حليم الرومي وجدّ الفنانة ماجدة الرومي، وكان محله في شارع متفرع من ساحة الخمرة )الحناطير) بحيفا.
وخلاصة القول إن هذا الكتاب نتاج غني ومتنوع، صدر عن مؤرخ متميز، ملتزم بقضايا شعبه وأمته، تمكّن بخبرته الطويلة أن يقدم صوراً جلية مرئية عن مكونات حيفا الأعمق في الزمان والمكان، بكل ما فيها من خصوصية متميزة، والتي نحتاج إلى معرفتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، حتى تبقى حيّة باسمها وتاريخها وتراثها في ثنايا الذاكرة.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *