الكتابة والرياضيات




ألكسندر نازاريان ترجمة: آماليا داود


خاص ( ثقافات )

ماذا تعني الرياضيات للكاتب؟ 
هناك بعض الكتاب الذين كانت لهم علاقة على مستوى كبير مع الرياضيات مثل لويس كارول، وتوماس بينشون، وديفيد فوستر والاس، وكانوا كثيري الابتكار ويعتمدون على بناء الجملة.

وهناك علاقة وثيقة بين الرياضيات وفن اللغة، فكل منهما يبدأ بالتلقين الأصم للأساسيات؛ قواعد النحو وجداول الضرب. مع مرور الوقت يصبح النحو ليناً على حساب الفكرة، أما الرياضيات تتحول لصالح الخوارزميات حول نطاقات التفاضل والتكامل.

عندما تكبر كفاية لتقود سيارة عندها يكون من المرجح أنك سوف تقرر أي أجزاء من الدماغ سوف تستخدمها في حياتك والأجزاء التي لا تريد أي علاقة بها إلا الحد الأدنى الذي يطلب استخدامه المجتمع الحديث، وهذا ينطبق على الكتابة.

الشعراء كانوا أكثر الماماً بالرياضيات من كتاب الرواية، لأنهم يولون الانتباه إلى الصفات العددية للكلمات، والشكل المرئي النهائي لما يكتبون، ليس فقط ما يكتبون كما أشاد وردزورث “الشعر والحقيقة الهندسية” لـ”امتياز عالٍ لحياة أبدية”، في حين علق سانت فنسنت ميلاي إدنا أن “إقليديس وحده من بحث عن الجمال العاري”.
نادراً ما أعرب كُتاب الرواية عن مثل هذا التقدير لجمال الرياضيات، وهذا أمر مؤسف، لأن الدقة الرياضية والخيال يمكن أن يكون البلسم الشافي للأدب الذي يمكن أن يغرق باللغة والموضوع، كتب أرنست همنغواي عام 1945 إلى ماكسويل بيركنز “قوانين كتابة النثر هي ثابتة مثل تلك الرحلة، الرياضيات، والفيزياء”.

حتى لو لم نكن علماء في الرياضيات نحن نفهم الانضباط اللازم لحل المعادلة، أنا شخصياً أفضل مقاطع لهمنغواي تتسم بالتعقيد الرياضي من النمط الهندسي المتكرر: صيغة تبدو بسيطة وفي تكرارها تحدث تغيرات طفيفة لكنها حاسمة مع مرور الوقت، على سبيل المثال الانسحاب الشهير من كابوريتو في “وداعاً للسلاح”.

البساطة هي وسيلة لتعقيد المعنى، والاستعجال السردي الذي يرتبط بالتكرار، كما أشار هادري “الرياضيات مثل الرسم والشعر، صانع نموذج” ونموذج عالم الرياضيات كنماذج الشعر والرسم يجب أن تكون جميلة، الأفكار مثل الألوان والكلمات يجب أن تتناسق معاً بطريقة متناغمة.

الجمال هو الاختيار الأول، لكن الجمال الذي لا يفعل شيئاً سوى اتباع القواعد هو الحساب البارد، على الرغم من ذلك هناك العديد من “الحرفيين” يطلق عليهم النقاد “جواهر النثر”، لكنهم برغم ذلك لا يقتربون من تحطيم البحار المتجمدة في داخلنا.
قال عالم الرياضيات تيرينس تاو إن دراسة الرياضيات لديها ثلاث مراحل: “قبل الملتزمة” حيث يتم تعلم القواعد الأساسية، ومرحلة النظرية “الملتزمة” وأخيراً والأكثر إثارة للاهتمام، مرحلة “بعد الملتزمة” حيث يبدأ الحدس فجأة بلعب جزء منها. 

وكما يضيف تاو: “ما هي إلا مزيج من الاثنين معاً، التمسك بالشكليات الملتزمة والحدس الجيد الذي يُمكن المرء من معالجة المشاكل الرياضية المعقدة، ويحتاج المرء للتعامل بشكل صحيح مع التفاصيل الدقيقة، وهذا الأخير للتعامل بشكل صحيح مع الصورة الكبيرة، من دون هذه التركيبة، سوف ننفق الكثير من الوقت متخبطين في الظلام”.

في الأدب الصورة الكبيرة تعني أن تكون قادراً على قراءة الناس، والتي يمكن أن تشكل خطراً كبيراً كما هي المكافأة المحتملة على سبيل المثال، عندما كان ويليام ستايرون يحاول كتابة صوت العبد المتمرد نات تيرنر، سرعان ما اكتشف ووصم نفسه بالعنصرية.

في أواخر القرن العشرين ما بعد الحداثة بجميع تجاوزاتها، على الأقل فهمنا أن العالم بعيد عنا، ويجب على الخيال أن يصل بقيمته إلى ترددات هذا العصر، وجاء ديفيد فوستر والاس في منتصف القرن الماضي ليجد هذا التردد العالمي على الرغم من أن رواياته ليست الأكثر مبيعاً لكنها تتسم بالقلق من الهوة بين ذواتنا الصغيرة والمنفصلة والعالم بصورته الكبيرة.

كان والس متميزاً في الرياضيات في صغره وانتقل بعدها إلى الفلسفة، كما يصف د. تي ماكس في السيرة الذاتية الجديدة لوالاس “كل قصة حب هي قصة شبح” فعلى الرغم من عدم إكماله لدراسة الرياضيات إلا أنه لم يترك روح الانضباط، فلو قلنا إن همنغواي هو خوارزمي في دقته، فإن والاس هو حساب التفاضل والتكامل؛ الانضباط يجعلنا نفرض ضرائب على الخيال بطلب تصور الأشياء التي لا تُرى، كما تُغير الوظائف عملها من خلال المكان والزمان، وبذلك يجب أن نوظف ذكاءنا الخاص لتصور الأشكال، كما حصل مع أفلاطون، فأعماله عالمية ولا تموت مع الوقت، وهذا ليس شيئاً سهلاً لتصل إليه.

في عام 2000 كتب والاس مراجعة نقدية لروايتين رياضيتين في مجلة العلوم: “مزيج خاص من العقل ونشوة الإبداع التي تميز ما هو الأفضل في العقل البشري”، ويضيف: “ممارسة الرياضيات فن، ويعتمد بما لا يقل عن الفنون الأخرى على الإلهام والشجاعة والتصميم”.

الشجاعة ليست كلمة يمكن أن أصف بها الروايات الحديثة، فغالباً ما تكون اكتشافاً فوضوياً للذات، ويمكن أن تكون النتيجة نرجسية خانقة. نقص الاهتمام بقراءة الآخر واكتشاف كل ما هو ضروري للرياضيات والأدب. في مقالة إليوت “التقاليد والموهبة الفردية” قال: “ما يحدث هو التسليم المستمر بالذات، ففي تلك اللحظة يفعل الشخص ما هو أكثر قيمة، مسار الفنان تضحية مستمرة بالنفس والانقراض المستمر للشخصية، وفي تبدد الشخصية هذا يمكن أن يُشبه الفن بالعلم”، ووصف في تلك المقالة عقل الفنان بالتفاعل الكيميائي.

على الكاتب أن يفكر بعمق وبتصميم حول تأليف الجمل وماذا يريد أن يقول، وهذا أعظم هدية يمكن أن تقدمها لنا الرياضيات.

قال عالم الرياضيات هاردي: “أنا أهتم بالرياضيات فقط كعمل إبداعي”، هذه الجملة تحتاج إلى ذكاء عظيم، لكنها لا تحل معضلات الإنسان. نفس الفروقات موجودة في الأدب، بين تحويل مسار الأشياء والجدية، وبين العادي والعالمي. في كلتا الحالتين تراكيب معينة هي علامات إرشادية تختفي كلما تسلقت الجبل، أنت وحدك مع المتغيرات، ومعادلتك الخاصة.

المصدر: newyorker.com

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *