*د. هدى درويش
«ذات ليلة، في ساعة متأخِّرة، لعلها واحدة من ساعات النهار الأولى، تجمَّدت أطرافي، فقلت في نفسي: ها قد انتهت اللعبة الجميلة، وانتهت قصّة حياتي… وبعدها، كنت ما أزال حيّاً، وذلك يعني أنّ العالم مازال مضطراً لأن يعاني منّي».
شرّ البلية ما يضحك… نفحات لملمها عزيز نيسين (تمرّ هذا الشهر مئويّة ميلاده)، بالتواتر بين حقبات وتجارب متعدِّدة. حين تقرأ له، تشعر كأنك تجول في مدينة ساحرة بهيجة الأسرار. تميَّز بموهبته البارعة في تسجيل قصص الحياة الواقعية والمريرة، ويكاد يكون الوحيد، بين قصّاصي تركيا، وكتّابها، الذي بلغ هذه الدرجة الكبيرة من الجمال والكمال. ينتمي إلى ذلك الجيل الإبداعي الذي شهد نهوضاً ملموساً بأدب تركيا، شرقيّ الجوّ والروح والهوى. شخصيّة تفرّدت في بنائها النفسي، والاجتماعي، والسياسي، تعامل مع الأحداث بدقّة وحساسية، حياته كانت حزمة من المفاجآت، كان سيّد الهروب والمواقف الخفيّة، الكلمة سلاحه الأقوى، ومرتبطة نهاية عمره بالإقلاع عنها، فقد حمل حرفه ما يكفي لإشعال ثورة، ومن الألفاظ والشتائم ما يكفي لخذلان أمّة، تغنّى بالوجع على أفواه الجماهير، ففاقت شهرته الآفاق. حاز جائزة السعفة الذهبية من إيطاليا لعامين متتاليين 1956 و1957، وجائزة القنفذ الذهبي من بلغاريا، ثم جائزة التمساح الأولى من الاتّحاد السوفياتي لسنة 1979… إلى جائزة اللوتس الأولى من اتّحاد كتّاب آسيا وإفريقيا، لسنة 1975، وأخيراً جائزة المجمع اللغوي التركي، مع أنّ عطاءه كان أكبر من جائزة صغيرة كهاته، في لفتة الوطن لابنٍ مبدع، لكن ذلك لم يكن سوى الضريبة اللاذعة التي دفعها حقّ قلم زاخر الآلام، ساخر الأسلوب، بجرأة عالية المستوى، وبروح مسؤولة؛ مما جعله يعيش في ضمائر الناس، محتّلاً روح التمرُّد والعصيان.
جهنّم الحمراء كانت ملك قبضته، ملك ابتسامته التهكُّمية، ونتاجه الأدبي مثّل تجسيداً حقيقياً لشواهد المستحيلات البائسة التي تركض الشعوب وراءها، وتنتهي في دوّامة الإعدام واللا أمل، ومع ذلك تبقى إرادة الانتفاضة لا تقبل المزاح. ماذا نقول عن كاتب جعل أصعب مقاصد نصوصه الأدبية دعوة إلى إلغاء فترة النوم من حياة الإنسان؟! قال إنّ الإنسان يقضي ثلث عمره في النوم، ويبذّر الباقي منه في اللاوعي حين ينتمي إلى أحزاب سياسية، ويدخل قاعات عجيبة تتاجر بأحلام الأبرياء، ويعتلي منصّة من النار، ويجلس على عرش ملتهب، وفي الأخير، يحترق العالم لمجرّد تفاهة تخطر في بال قائدين لم يتّفقا على ابتسامة مشتركة، عجزت كأس «الشامبانيا» التي شربا منها عن أن تهديها إليهما، وإلى العالم.
هو ذلك الذي لا يبحث عن التفلسف والتصنُّع، يدقّ جميع الأبواب دون قفّازات، ويضطرّ، أحياناً، إلى تغيير بعض الحفّاظات الفكرية، والتغيير لبعض الجروح المتعفِّنة، الصدئة أيضاً.
بحسب «عزيز نيسين»، الكتابة شيء بسيط جدّاً، هي أن تكتب عن الماء، والهواء، والعواء، وعن هذا وذاك… عن أمور عاديّة تدمّر حياتنا اليومية، ونحن في غفلة عنها… السرّ في البساطة إذاً!!
هو خير مثال للكيفية التي يتحوّل فيها الكاتب- بمجرّد أن يمتهن الكتابة- إلى «مشتبَه به»، يحاكمه القارئ والنقيب والرقابة والعرف والسلطة والصالح والفاسد «النيّة المجردة». إنّ هذا الكاتب هو الذي رأى أنّ الإنسان هو المسؤول الأوّل عن تحويل الحياة إلى جحيم متحرِّك حقيقي، بل إلى خازوق مدبَّب معلّق على جسر ضيّق مهترئ، وعن أن المثقَّف هو أقرب الأجساد إلى السياط، بلا منازع، يجلده الجميع، دون رحمة، في سجن الأفكار المؤبَّد، ويخفِّفون حكمه، بعد مداولة أو شفقة، بيومين ونصف اليوم!
هو محمد نصرت، وُلِد في العشرين من ديسمبر/كانون الأول، سنة 1915، في إحدى الجزر القريبة من إسطنبول، والواقعة في بحر مرمرة، لعائلة فقيرة. دخل الكلّيّة الحربية سنة 1935 وتخرّج فيها سنة 1937، برتبة ضابط في الجيش، وخلال الفترة نفسها درس، بوهج وعمق، في كلّيّة الفنون الجميلة.
يقول عزيز نيسين عن بداياته : «كنت عسكرياً في قارص، وكنت أكتب الشعر والقصص القصيرة، ولمّا كانت كتابة العسكريين غير مستحَبّة استعملت، منذ ذلك الوقت، اسم «عزيز نيسين» المستعار، وصرت أنشر قصصي، بهذا الاسم، في مجلّة «الأمّة» اليمينية، التي كانت تصدر في أنقرة، ثم صدرت هذه القصص، فيما بعد، عن دار «الرجل الجديد»، أما أشعاري فكنت أنشرها باسم «وديعة نيسين»، في مجلّة «الأيام السبعة»، وبسبب سجني سُرِّحتُ من الجيش، فجئتُ إلى إسطنبول، وعملت في مجلّة «يودغون»، وكانت تلك بدايتي الصحافية الحقيقية»…
عَمِدَ بعدها إلى إصدار مجلّة أسبوعية خاصّة به باسم «السبت»، ولم تدم أكثر من ثمانية أسابيع، وفي سنة 1946 تمكَّن- بالتعاون مع الأديب التركي «صباح الدين علي»- من إصدار جريدته الشهيرة «ماركو باشا»، التي تضمّنت، ذات يوم، مقالة نقدية بحقّ الرئيس الأميركي آنذاك «هنري ترومان»، فلاحقته الحكومة التركية، ونالت منه خلال أشهر، وحكمت عليه بالسجن، وبالمنفى لاحقاً.
عُرِف عن «عزيز نيسين» تمرُّده الذي يصل إلى درجة الجنون، حيث إنه كان يلاعب الموت، ويعبث بالنار، ومهما اكتوى منها لا يبالي، فبعد إغلاق «ماركوباشا» وسحب تصريحها الإعلامي، عاود الكاتب، بعد خروجه من السجن، التأسيس لأفكاره نفسها في جريدة أخرى بعنوان «معلوم باشا». وهكذا، راح «عزيز نيسين» يعاود إصدار الجريدة بتغيير اسمها في كلّ مرّة يتمّ فيها اعتقاله… من «معلوم» إلى «مرحوم باشا»، ثم «علي بابا»، ثم «باشانتا»، ثم «ماركو باشا الحرّ»، ليصدر، أخيراً، جريدة «مَدَد»، التي لم تدم طويلاً.
من الصعب أن يبقى الحرف ثابتاً كحربة جاهزة العطاء، وكأنه، لو عاد إلى هذا العالم، سيفعل الأشياء نفسها، يغوص في أعماق الوجع منتحراً، ليلتقط مادّة كتابته.
«لا تنسَ تكة السروال، أسفل السافلين،الطريق الطويل، الفهلوي، مجنون على السطح، صراع العميان، آه منّا نحن معشر الحمير، قطع تبديل للحضارة، الحمار الميّت…» كلّها أعمال حملت اسمه، وخلّدته شعلةً في تاريخ الأدب العالمي الساخر. رائد الكوميديا السوداء، رجل تاه بين بدلته العسكرية ولغته الساخرة وفراره الكثير، فعاقبه الوطن، ولم ينل منه أقلّ تقدير، لكنه ظلَّ كبيراً، صاحب بصمة تجعل منه تركيبة فريدة، بكلّ تناقضاتها وعجائبها.
________
*الدوحة