السّيرة الداجنة


*خيري منصور

المقاربات التقليدية للسيرة الذاتية في الثقافة العربية غالبا ما تراوح بين التواطؤ المتبادل، باعتباره القاسم المشترك بين المنتج والمتلقي، وبين الرّيبة المزمنة بحيث لا يتوقع القارئ على اختلاف منسوب الوعي، كشفا للذات واعترافات غير مشوبة باعتذارات غير مباشرة.

وربما لهذا السبب تبقى السّير الذاتية تعاني من نقصان ما، خصوصا في ما يتعلق بالطفولة وهواجسها والجسد وشجونه المبكرة، فهذا النوع الأدبي الذي أصبح جاذبا للقراء، محاصر بشروط قد يتعذر تجاوزها، كما انه يتطلب قدرا من التسامح لا نتصور أنه موجود في ثقافتنا المقيدة بأعراف وتقاليد منها ما تحرسه القداسة، ويحظر الاقتراب من خطوطه الحمر.
وحين اختار أندريه مالرو لسيرته عنوانا مفارقا للسائد، وهو المذكرات المضادة، فذلك لأنه لم يشأ أن يتخلى عن كونه روائيا وساردا من طراز رفيع، لأن المبدع عندما يشرع في التذكر لا يصبح شخصا آخر، ويبدل أدواته أو يرتدي أقنعة تناسب المقام. لكن ما لم يقله مالرو هو في الصميم من مكوناته النفسية على الأقل، ومن انحدر من عائلته أوشك الانتحار أن يكون من تقاليدها قرّر ألا ينتحر، بعكس إرنست همنغواي الذي أطلق النار على نفسه ببندقية أبيه.
وكما جاء في كتاب هوتشنر بأن الرجل المعافى والحائز جائزة نوبل وذا البنية الجسدية الصلبة، أنهى حياته وهو في ذروة الحيوية، ربما لأنه لا يطيق شيخوخة باردة أو احتضارا بطيئا، وقد لا يكون همنغواي بالتحديد بحاجة إلى كتابة سيرة ذاتية لأنها مبثوثة في أعماله، كما تقصّاها فيليب يونغ، فما يقال منسوبا إلى ضمير الغائب يعفي الراوي من عبء الاعتراف، وقد يكون ما كتبه يونغ عن همنغواي مناسبة للكلام عن دور السيرة الذاتية في أعمال الكاتب على اختلاف مراحل العمر، فهو إن أفرغها في كتابه البكر سيجد أنه بدد كنزا، بعكس من يسعون إلى ترشيد استثمار السيرة الذاتية، بحيث تواصل إضاءتها للذاكرة على امتداد التجربة.
وحين تناول بعض المستشرقين السيرة الذاتية في الثقافة العربية أوشكوا على الإجماع على أنها تعاني من التدجين وتخفي أضعاف ما تعلن، لأن المجتمع لا يملك من الحريات وحق الاختلاف ما يكفي لأن يعفو عن أفراد يغردون أو ينعقون خارج السّرب، إذ سرعان ما يفردهم كالعنزة السوداء في القطيع أو البعير الأجرب في القافلة.
ونذكر للمثال فقط أن كاتبا فرنسيا علّق على سيرة طه حسين الذاتية بعنوان «الأيام» قائلا، إنها خضعت لجراحات استأصلت منها ما يخدش الحياء، أو ما هو وثيق الصلة بالطفولة، وربما كان الضرير أكثر من سواه تعرّضا لما يتعلق بحاجاته العضوية وطفولته ومراهقته.
إنها إذن سيرة وقورة وبمعنى آخر ناقصة والمحذوف منها بإرادة كاتبها وليس رغما عنه يفتح الباب على مصراعيه لمراجعة عشرات السير والمذكرات التي كتبها أدباء وساسة وناشطون في العالم العربي، فلو كان هناك تسامح اجتماعي مع الاعترافات لما عوقب محمد شكري، سواء بمنع الرقيب لسيرته أو بالتشهير الاجتماعي بشخصه، وتكرر ذلك مع سهيل إدريس رغم أنه لم يذهب بعيدا، بل تخطى أحد الخطوط الحمراء في ما يتعلق بالجسد. ومن يتحدثون عن مذكرات جان جاك روسو أو القديس أوغسطين أو شاتوبريان وهنري ميلر وآخرين، باعتبارها نموذجا في البوح وعدم الإخفاء، يفوتهم ما يقوله التحليل النفسي عن هذه الاعترافات، خصوصا ما تعلّق منها بمذكرات روسو، فالكاتب يسلط الإضاءة على موقف ما في حياته حتى لو كان من التابوات كي يبقي مواقف أخرى في الظلام، خصوصا أن الجرأة في الاعتراف اقترنت بالجنس فقط، بسبب تاريخه في حياة البشر ودوره في رسم تضاريس المسموح به والممنوع، مما دفع هربرت ماركوز إلى القول بأن تاريخ الإنسان هو تاريخ قمع جسده، وكرّس لهذه الإطروحة كتابا هو «الحب والحضارة»، وقد يمضي وقت طويل علينا كعرب قبل أن نصل إلى مرحلة التسامح مع الاعتراف وعدم استثماره للتقليل من شأن المعترف، وبالتالي تحويل فضيلته إلى رذيلة.
والقول المأثور الذي نتداوله أحيانا في حياتنا اليومية وهو الاعتراف بالحق فضيلة يبقى كلاما مجردا وممنوعا من الصرف، فالاعتراف حين يكون صادقا هو من الحقوق وليس من الأخطاء.
إن السيرة الذاتية في أي مجتمع هي ما يكشف، وأحيانا يفضح الشيزوفرينيا المتفشية في نسيجه. وما يعاقب عليه المعترف نمارسه جميعا بشكل أو بآخر، لكننا لا نريد البوح به، لأنه يفسد الصورة ويُسقِط القناع.
إن المفارقة التي تستوقفنا في هذا السّياق هي ما يعجّ به الواقع من سوريالية وجنون وما تقدمه المشاهد السياسية والاجتماعية من كوميديا متعددة الألوان، ومقابل ذلك، تقف اللغة على استحياء خارج المدار ويزداد الأدب وقارا وعقلانية مُصطنعة وفي المسافة بين المشهد والشهود تبتلع دوامات الرمال حقائق ووقائع فتبقى طي الكتمان. هكذا أصبحنا أمام خيانتين لا فرار منهما، خيانة الواقع ومنه نحن بكل المكونات النفسية والاجتماعية والتربوية، أو خيانة النصّ بحيث يجرّد من الجرأة على التعبير ويتم إفراغه من دسمه الآدمي. ولدينا أمثلة عديدة على تحوّل الشيزوفرينيا من إصابات متفرقة إلى وباء، لكن السيرة الذاتية الناقصة هي الأمثولة وليست المثال، فمن يقرأ عن جيلنا من خلالها قد يغبطنا على التماسك والاتزان والتناغم مع الذات، والحقيقة غير ذلك تماما، لأننا نكتب بكامل ثيابنا وزينتنا، كما لو كنا جاهزين لالتقاط الصّور ونمسك بممحاة تتدلى من الأصبع الشاهد لحذف ما هو محظور وغير مرغوب فيه، والحصيلة هي هذا التضاد بين المشهد والشاهد.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *