*بسمة النسور
في زمان عجيب، شديد التناقض والالتباس، بلغت فيه البشرية أقصى درجات التوحش والقسوة، وانعدمت فيه مظاهر العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتعمقت الفوارق بين البشر، وكشّر رأس المال المتوحش عن أنيابه، فاتكاً بهذه الكرة الاستهلاكية..
وسط هذا الفضاء الكوني بالغ القبح، وفي مفارقةٍ تستدعي التأمل، يحظى اختصاصيو التجميل بمرحلة بالغة الازدهار، حيث الإقبال في ذروته على ارتياد عياداتهم، سعيا وراء محض وهم، ينهض على السعي بالشباب الدائم غير القابل للزوال. وهذا أمر ليس ليس مستهجناً، بل إنه منسجم مع طبيعة البشرية القائمة على التشبث بأسباب الحياة والإنكار والرفض لحتمية التقدم في العمر، باعتباره العتبة الأكيدة للموت.
وبحسب الأسطورة البابلية، توصل جلجامش إلى عشبة الخلود التي تضمن له الصبا والجمال، في ظل أبديةٍ، لا يصيبها موت أو مرض، تأتّى له ذلك كله، بعد عناءٍ كبير، مدفوعاً بسؤاله الطائش المضني حول الوجود، قبل أن تسطو على العشب الكنز أفعى عابرة، أنهكها الجوع. وبمجرد أن تناولت تلك العشبة، بدأ جلدها القديم في الانسلاخ، لتمنحها الطبيعة جلداً جديداً فتياً نضراً خالياً من التجاعيد وعيوب البشرة وعلامات الشيخوخة، فتترك جلجامش مهزوماً ومستسلماً بالضربة القاضية لاشتراطات الوجود.
لم تكفّ البشرية بطبيعة الحال عن ممارسة ألاعيبها المضحكة، في مواجهة جدية الأقدار وحتميتها منذ ذلك الحين. وعليه، فإن كل الصناعات التجميلية التي حققت عبر العصور أرباحاً طائلة، قائمة على الوهم نفسه الذي قاد جلجامش نحو اقتحام المجهول والغامض، في محاولةٍ يائسةٍ، مصيرها سوف يكون على الدوام فشلاً ذريعاً. في الوقت نفسه، هناك من يدافع عن حق أي شخص في اللجوء إلى عمليات التجميل المتاحة بسهولة ويسر (على الرغم من الكلف المادية الباهظة) إذا ما ارتأى أنها سوف تضفي تحسناً على مظهره، سينعكس على نفسيته، بحيث يصبح أكثر إيجابية وانفتاحاً وقدرة على التعاطي مع محيطه، على الرغم من الإقرار بصعوبة البت في نقاش كهذا، ومع ضرورة احترام خصوصية الفرد في هذا الشأن، إلا أن تلك المحاولات الآنية تظل، في جوهرها، تطاولاً على الحقيقة، واعتداءً سافراً على الأصل، وانتهاكاً غير موفق، في حالاتٍ كثيرة، لمسلمات الطبيعة، حيث التقدم بالعمر مصير حتمي، لن ينجو أحد منه سوى بالموت.
لذلك، فإن امرأة جميلة، مثل مارلين مونرو، ستظل في أذهاننا شابة، لأنها ببساطة رحلت قبل أن تغزُو وجهها تجعيدة واحدة، فظل فتياً نضراً، وظلت رمزاً جمالياً مثيراً عابراً للأزمان، غير أن علينا الإقرار بأن أحدا لا يشتهي ميتة مبكرة، مهما بلغ قلقه الوجودي من فداحة.
لأننا نظل متعلقين بأسباب العيش، مهما عزّت، بفعل غريزة البقاء التي تتحكم في وجودنا، ويظل هاجس التشبث بالجمال والصبا متمكناً فينا، معبراً عن سطوته علينا، عبر العصور بوسائل شتى.
وثمّة نماذج لنساء في منتصف العمر مستعدات لبذل آخر فلس، في سبيل أشهر معدودات مستعارة من حقن “البوتكس”، شائعة الاستعمال التي تقوم، بحسب اختصاصيين، على مبدأ شل عضلات الجبين، فترتخي وتنبسط، وتذهب التجاعيد. ولكن، إلى حين، لأن العودة آتية في غضون أشهر معدودات. ويعتقد بعضهم أن جل زائري عيادات التجميل من النساء، غير أن الواقع يؤكد أن رجالاً كثيرين يتسللون خفية إلى تلك العيادات، باحثين عن أفضل السبل للتغلب على هجمة مظاهر التقدم بالعمر على وجوههم المهدّدة بالتهدل الوشيك. ومن يمكن اعتباره محظوظاً، في هذا السياق، ذلك النموذج النادر غير المصاب بلوثة العمر والسعي إلى الصبا الدائم، ذلك الصنف البسيط المتصالح مع نفسه، غير الميال إلى طرح أسئلة عبثية، المنسجم والمتقبل والراضي بعبور مراحل العمر المختلفة، بامتنان كبير، منهمكاً في العيش البسيط، حيث السعادة وراحة البال التي تكمن في الرضا والقبول، وتثمين هبة الحياة الإعجازية، غير القابلة للتفسير في جميع الأحوال.