جوري غرايم: حوَّلني الثلجُ إلى عظامٍ شفيفة


ترجمة وتقديم: محمد الحموي

طبعاً ستكون نيويورك «الباردة كتفاحة فوق الثلاجة الزرقاء» حسب وصفها، مسقط رأسها في العام 1950. وطبعاً ستكون إبنةً لصحافي ونحاتة وستقضي طفولتها في أروقة روما حيث «غيم بحجم المارد يلفّ حبيبي بوردة»، حسب وصفها في غير مكان، قبل أن تنجز دراستها للفلسفة من جامعة السوربون في فرنسا وطبعاً ستنهي سجالها مع «العقل» عبر دراسة السينما في جامعة نيويورك قبل أن تتفرغ بعد ذلك، جوري غرايم الشاعرة العميقة، إلى سجالاتها المسفوحة على الورق مع «الذات» و«العالم» وأشياء أخرى كثيرة عن «اللاماوراء».


قال في شعرها الناقد والشاعر المعروف جيمس لونغنباك (1959-) في مقالة معمارية في صحيفة «نيويرك تايمز»: «لثلاثين عاماً، استطاعت جوري غرايم أن تضم في شعرها كل عجينة الإنسانية من ذكاء وعالمية ومحلية وقيامية وأهملتْ العاطفة بمعناها الضيق الذي غالباً ما يُحْتَفَظ به للقصائد مؤمنة أن الشاعر هو صانع التجربة وليس ناقلها فحسب. إنها في مصاف ريلكه وييتس في تصنيفها للشاعر على أنه شخصية عامة تتصدى لأكثر المسائل الفلسفية والسياسية إلحاحاً في زمنها وذلك ببساطة شديدة عن طريقة كتابة الشعر». غرايم صاحبة إثنتي عشرة مجموعة شعرية أهمها «نهاية الجمال» (1987) و«منطقة اللاتشابه» (1991) و«أبداً» (2002) و«مكان» (2012) ويصدر لها قريباً جداً مجموعة «قصائد مختارة» (1976-2012) وقد ترجمت جُلُّ أعمالها إلى لغات حية كثيرة أهمها الألمانية والإسبانية والبولندية والفرنسية. تصف علاقتها بالحياة والشعر في أحدث حوار لها في «صحيفة باريس ريفيو» الصيف الفائت: يبدو أن البشر غير مرتاحين كيف أمستْ حياتهم فوق هذا الكوكب. عدم التطابق هذا بين هذه السلالة باحتياجاتها ونوازعها وبين هذا المكان المسمى كوكباً لهو فصام تراهُ في كل تفصيلة حياة. وهذا ما أصابني ويصيبني بجرح بالغٍ، بأسىً وأحياناً بغضب ثم يتبع كل هذا ذهول تام. طالما عرفتُ أن الرغبة هي علة البشر الدائمة وهي أيضاً شعلتنا الأكثر اتقاداً. وهذا بالضبط ما أستقي كتابتي ومنه وما أكتب عنه في نفس الوقت. هنا أربع نصوص للشاعرة، وتجد الإشارة أن النص الأخير نشر في العدد الجديد من «لندن ريفيو أوف بوكس».

صلاة
من على درابزون المرفأ، أنظرُ إلى أسماك المنوة بالآلافِ
تدوُّم في الماء، عضلاتٌ ضئيلةٌ، تصنعُ التيَّار من اتساقها
(تدورُ، تتداخلُ، تدخلُ وتخرجُ في اتساقٍ)، تصنعُ تيارَ ماءِ تراهُ العينُ
تياراً لا تعكِّر صفوهُ الثواني ولا خلجاتُ الماءِ
ولا حتى الدوائر التي يصنعها وصولُ قاربٍ، هناكَ
حيث ترتطم الأسماكُ بقعرٍ غائرٍ، بماءٍ تنفجر بفسها (للماءِ طبقاتهُ)
تيارٌ حقيقي إنما لا تراه العينُ يرسلُ عبر أسماك المنوة
حركةَ تفرضُ التغيير- هذه هي الحرية. هذه هي قوة الإيمان. لا أحدَ يحصلُ
على كل ما يريد. أنتَ تغيّرتَ إلى الأبد. التوق الآن هو لأن تكونَ
نقيَّاً وكل ما تحصل عليه يتغيَّر. كل دقيقية لامعة تمرُّ تنسجُ معها الخلود
وكذلك النسيان، بالطبع وترددات شيء ماء في عرض البحر. هنا يدان تقبضان على الرمل
وتتركه ينساب مع الريح، أنظرُ وأقولُ هذا ما خرجتُ به من الحياة. لكني هل أسمعُ الآنَ؟
ولمن أستمعُ إن لم أكن قد قلتُ شيئاً؟ أنا فعلتُ شيئاً عندما لم أستطع أن أختار كلمة واحدة فقط.
الآن أنا حرة تماماً أن أمضي في طريقي. وطبعاً لا أستطيعُ أن أعودَ. ليس لهذا. أبداً.
هنا ثمة شبحٌ مسمَّرٌ على شفتيَّ. هنا. أبداً.
مدينة سان سيبولكرو الإيطالية
في هذا الضوء الأزرق
أستطيعُ أن أنقلكَ إلى هناك
حيثُ حوَّلني الثلجُ
إلى عالمٍ من عظامٍ شفيفةٍ:
هنا بيتي،
حصتي من الجدار التروسكاني،
أشجارُ ليمون جيراني، وتحت الكنيسة التي في أسفل الشارع،
مصنعُ الطائرات.
ثمة ديكٌ
يصيح منذ الفجر طوال اليوم،
خلف الجدران
ثمةَ حليبٌ في الهواء،
جليدٌ فوق قشور الليمون اللزجة،
كم نظيفٌ هذا العقل،
قبرٌ مقدَّسٌ. هذه هي البنتُ قربَ بيرو ديلا فرانسيسكا
تفكُّ أزرار فستانها الأزرق،
أزرار ثوب الولادة وتدخلُ في
المخاضِ. تفضَّل يمكنكَ أن تدخلَ
قبل ولادة الرب
لم ينهض أحدٌ بعد ليزور المتاحفَ
إلى حيث يتحلَّقُ الناسُ. جثثاً
وأجنحةً. إلى السوق العام. هذا ما يفعلهُ الأحياء: يدخلون
والثوب يتابعُ الإنفتاح
من الخلود
إلى الخصوصية. بسرعةٍ.
في الداخل، في العمق
تكمن المأساة، اللحظة الراهنة
ميتة قبل أن تولد، لكن الناس يدخلون
كل نَفَسٍ زرٌ ينفكُّ
شيءٌ رشيقٌ بشكلٍ مخيفٍ تماماً
يشيرُ بالأصبع
إلى كل العوائق.
الإوزَّات
وأنا أنشرُ الغسيل اليوم أرى الإوزاتِ مرةً ثانيةً، رمزٌ طارئٌ وخلاّبٌ
تغذُّ السيرَ برؤسها الدقيقية. لأيام عبَرتْ أمامنا. نحنُ نعيشُ تحت هذه الإوزَّات
كأننا نعيشُ تحتَ مرور الوقت، أو تحتَ عنوانٍ أكثر ملائمةً.
أخشى أحياناً قربهم
أقربُ من اليد، بين الخطوطِ
تقلّد العناكبُ الممراتِ التي لا تحيدُ عنها الإوزات،
تقلدها إلى ما لا نهاية:
لن تبقى الأشياء مرتبطة ببعضها البعض،
لن تُشْفى
وستزداد ثخانة العالم من حيث المادة وليس من حيث التاريخ،
من حيث المادة وليس من حيث المكان.
بينما الخوف الصغير من العناكب
يضمُّ كل الإبر إلى الخطوط، كل الخطوط إلى الأفاريز، كل الأفاريز إلى دغل الدبابيس،
كأن، في أي لحظة، ستتهاوى الأشياء أكثر ولن ينفعها أي شيئ
بأن تستردَّ معناها. وإن نجحتْ هذه العناكب
برمي شِباكِها فوق العالم المرئي، فهل سنكون داخل الشِباك أم خارجها؟
سأختارُ أن أكون في الداخلِ. هناك ذلك الشعور الذي يمنحهُ الجسدُ للعقلِ
كأن تفقدَ شيئاً، فقراً مدقعاً، أو كأن تسْقُطَ
دون الإحساس بأنكَ تعبر عالماً واحداً،
أو كأنكَ تصلُ إلى عالمٍ ثانٍ
في أي وقتٍ. بالمقابل ما يحدثُ هو أن ما هو حقيقي
يعْبُركَ،
الآنَ جسدكَ هو الوصولُ
وأنتَ تعرفُ هذا لكنك لا تستطيع تجاوزهُ. لكن في مكانٍ ما
بين هذه الإوزاتِ تدخلُ وتلكَ العناكبُ تعود أدراجها،
هذا البطء المذهل
كل يوم
يحدثُ.
رسمٌ ذاتي في درجة حرارة 3
أنا من يتحرَّش بالترابطاتِ الممكنة -ليسَ أنتَ- مَنْ لاحظَ – إنْ كانَ العالمُ- لا-إنْ كانَ العالمُ-خُذْ العوالقَ-الذي أشعرُ بهِ لا يقوى على الحبِّ بعد الآن-خُذْ العوالقَ-ذلكَ الحبُّ الذي أحتفظُ به لوجودٍ من نوعٍ آخرَ-خُذْ العوالقَ-الوجودُ الذي هو الآنَ شكلٌ من أشكالِ الدعارةِ-لا-ماذا أقولُ-خُذْ العوالقَ- أهم أنواعِ النباتاتِ على الأرضِ-فِّكر بالحبِّ-الحبُّ الذي يشكِّلُ على الأقلِّ نصفَ انتاجِ المجالِ الحيويِّ برمَّتهِ- أنا أحبُّ هذا-أحبُّ ماذا-أقولُ إنْ لا خَيارَ لكَ-وهذا الناتجُ أكبرُ من كلِّ النباتاتِ على سطحِ هذا الكوكبِ-هذه النباتاتُ التي تبرعمُ وتكبرُ حتى ليصبحَ بمقدوركَ أن تلتقطَ صوراً لها من الفضاءِ-خُذْ كلَّ شيئٍ حيٍّ-تفضَّلْ خُذْهُ-لا أستطيعُ الإحتفاظَ به بعدض الآنِ-لا تريدهُ-لا أهتم-اِحْمله أنتَ الآنَ-أحتاجُ أن ألتقطَ أنفاسي-أريدُ أن أستلقي هنا وأصغي-خلالَ خمسين عاماً إن كنا محظوظين-أكتبُ هذا الآن في عام 2015-مثل من يرشُّ مبيداتِ الأعشابِ الضارةِ فوقَ خُضارِ العالم-أعني فوقَ موادنا الخام، فوقَ بضائعنا، الأنَ تماماً، نمرُّ بمراحلِ أشكالِ العبادةِ، هذه التي نسميها الأخبار، سنجعلُ من أنفسنا زبائنَ، لنْ ننتظرَ، بأيِ سرعةٍ سيتمُ تسليمنا إلى المنازل،سنبلغكم بكلِّ شيءٍ-يجتاجُ الأمر مراجعةً أخرى-انظرْ كانَ هناكَ ثمةَ نهراً في يومٍ من الأيامِ-ذاتَ صباحٍ أستيقظتُ وكنتُ قدْ وُلِدْتُ-
استنتجتُ أني وُلِدْتُ- كانتْ الأرضُ مكاني-حبلُ السرةِ الثخينِ المتماوجِ المتهادي يرفعْ نظرهُ إلى السماءِ التي في التربةِ هل سأتعلم كيفَ أقفُ فوقه-سأتعلم-إني أقفُ فوقهُ، انْظُرِ، أنا إمكانيةُ نمو، سأجمعُ تراكماً، سأصبحُ مُسْتَهلِكاً مضطلعاً ← مستقبلاً لا يمكنُ صرفهُ ولا شكلَ له ←على هذا النحو أغني لكَ ←وقفتُ لأولِ مرةٍ لوحدي ←في قدميَّ قوةٌ فوقَ الخيالِ، في يديَّ قوةٌ فوقَ الخيالِ ←كيفَ لا يُتَوقَّعْ مني أن ألحق الأذى ←إن أردتُ أن ألمسَ الأشياءَ حتى تنكسرَ ←أعني أن أنظرَ إلى تلكَ الاشياءِ ←إلى كلِّ نقاطِ التواصلِ، عشوائيةِ الاشياءِ، الإضمحلالِ، الضغط ثم النزع ثم النظر، التخلي ←فوقَ الخيالِ ←ثمة معنى في كل خطوة ←أغيرُ هيئتي ←هذا أمرٌ مسموحٌ بهِ ←تُثْبِتُ الريحُ أن كل شيء خطأ ←لهذا لاوجودَ لشيءٍ فوقَ الخيالِ ←اضغطْ فوقَ طاقتكَ وسيكون لكَ ما تريدُ ←الحلم ←شكلٌ من أشكالِ اليقينِ ←قوىً شاسعةٌ تتجمعُ تحتَ أشعةِ الشمسِ ←مع هذا ←أشعرُ أنَّ هذا هو الصفاءُ ←هذا هو الإكتمالُ ←شيءٌ رمي كالنشابِ إلى الحرشِ ←دون إرغامٍ إنما تحليقٌ متموجٌ يجمعُ الهلعَ بلا هوادةٍ في كتلٍ من الشعور/مما يدفعني إلى التفكير أن سنونواتِ الأشجارِ التي تنهالُ من قلبِ الشجرةِ لم تكنَ أوراقَ أشجارٍ أصلاً وحقلُ الشرائعِ هذا لا يمكن رؤيتهُ إنما للصدمةِ قانونها الخاصُ ←مفاجأة. لا فوضى. إنْ أصغيتُ: كل شيء: ترنيمةٌ لكلِّ شيء.
أقمِ هناكَ. تناسلاتٌ متقاطعةٌ مني وفراغٌ. أنظرُ في الأمر. أسقطُ هنا. أُعْطَى وصفاً. عَرّْف البيولوجيا البشرية. عَرّْف الإنسان. أينَ تجدُ نفسكَ. هل يستحق هذا الإنتظارَ. رياح. هاتِ عقلكَ معكَ عندما تأتي. جلدكَ أيضاً، يجب أن يكون قد تمَّ تزويجكَ. وابتسامتكَ. أحمقٌ ومعطوبٌ. لا تفكر بالأمر حتى. نحنا كلنا متعبونَ. نحن بحاجةِ الأدواتِ لنصنعَ الأدوات. أيضاً نحتاجُ العُمرةَ. هل سَبَقْنا عصرنا أم هل فاتنا الوقتُ؟ لا أحدَ يلاحظُ وجودنا تنطلقُ الصفَّارةُ لا تُلْحِقُ العصافيرُ أذى بأحد. أقمْ.
___________
كلمات
العدد ٢٧٥٨

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *