كن أخطبوطا


هدى حمد

يُمكنك جديا أيّها الكاتب أن تقرأ مقالا نقديا كتبه الناقد عنك قبل النشر، ليس لأن الناقد مُهتم كثيرا برأيك حول ما كتبه عنك، وليس لأنّه ينوي استشارتك في نقطة ما أشكلت عليه في نصك، ولكن يحدث ذلك جديا لكي يُصبح المقال النقدي المكتوب لائقا بك، لذا لا ضير أن تكون أنت – أيها الكاتب الجدير- أول من يقرأه، فمن المهم جدا أن تكون المادة وفق هواك الشخصي، وأن تذهب حيث يذهب خيالك وتصوراتك عن النقد. 

ولا تقلق، إذ يُمكن للناقد أيضا أن يُخفي المادة النقدية من الوجود، ويُمزقها إربا إربا ويضعها في أقرب سلّة مُهملات، لمجرد أنّك أبديت بعضا من الامتعاض حولها. يُمكنك أن تُزيح جُملة من هنا أو تتملق بإضافة جُملة أخرى هناك، وأن تتصرف كيفما تشاء في مادّة الناقد، ليتعدى الناقد بذلك فكرة تبعيته للنص، فيُصبح أكثر تبعية للكاتب وراحته واطمئنانه… يحدث ذلك عندما يستحوذ الكاتب على فسحة كافية من المديح الجاهز. 
وأبعد من ذلك سيطلب منك الناقد أن تختار الصحيفة التي تنشر فيها المادة النقدية، بل قد يُوصيك أن تتصرف فيها كيفما تشاء وأن تنشرها حيث تريد. سيتركها في عُهدتك، لأنّه يثق بك، ولأن الأشياء ينبغي أن تكون مُبهجة بالنسبة لك أيها الكاتب. لذا يتوجب عليك لاحقا أن تستغل كل علاقاتك الجيدة بالصحف والصحافيين ومُحرري المجلات الممتازة لنشر المقال المكتوب عنك وفق ذوقك الخاص، بل أنّك أنت أيّها الكاتب من ستتكبد مشقة الإلحاح على جهات النشر، لكي يُسرعوا عملية النشر. 
وقد تكبرُ المساومة بينكما قليلا ويُضافُ بند جديد للاتفاق، فينبغي أن تتدبر لهذا الناقد الملول «سفرة» خاصة تزيحُ عن كتفيه تعب السنوات وشقائها، ومجددا ستبحث في كل المهرجانات والمواسم الثقافية والأمسيات والندوات ومعارض الكتاب عن ثغرة صغيرة تزجه عبرها، وستحرصُ كل الحرص على أن يأخذ مُكافأة «محرزة»، لتضمن تدفق قلمه أو تدفق قريحته على «كيبورد» جهاز الكومبيوتر، ذلك التدفق المُهم الذي يضمن لك ازدياد مبيعات كتابك، وازدياد مُعجبيك، بل إنّ ذلك التدفق حول تجربتك «التي ستغدو بقدرة قادر مُهمة ولامعة ومدهشة… الخ»، سيُعطيك تأشيرة الخروج من جغرافيتك الضيقة إلى الوطن العربي وربما إلى العالم.
فقط ينبغي عليك أن تحافظ بدقة على تلك المسافة بينك أيّها الكاتب وبين الناقد، تلك المسافة التي تنهضُ على مبدأ «انفعني لأنفعك»، وإلا ستجد نفسك على الهامش تماما، لأنّك لا تدرك أدوات التواصل الحديثة مع الآخر. ستبدو مُهرجا منبوذا ولن يلتفت إليك ولا إلى كتاباتك أحد، لأنّك لا تفهم لغة تسويق الكتابة اليوم.
كيف لا أيها الكاتب، وهو الذي رفع اسمك الصغير إلى سماء شاسعة، وبات يسمعُ عنك من لم يعرفك في حياته كلها. فكم أنت مدين أيّها الصغير والذي لا يُرى إلا من حسبة «تبادل المنفعة» المستمر. 
ليس من المهم أن تكون كاتبا جيدا الآن. لقد وضعت قدميك وكُتب عنك في أهم الصحف والمجلات العربية. الآن عليك فقط أن «تُضَبِط» الكثير من النقاد وحسب، ليكتبوا عنك أكثر، لكي يصنعوا من حَبتِك الصغيرة والتافهة أحيانا «قُبة» ضخمة، وهم بالمناسبة – هؤلاء النقاد أعني – كُثر، «وعلى قفا من يشيل»، وهؤلاء تحديدا لا زالوا يظنون أنّك لا بد أن تملك إمكانيات أخرى عدا أن تكتب نصا جيدا أو أن تضيف للمكتبة العربية كتابا مهما. بالتأكيد لديك المزيد من الألاعيب السحرية التي يمكن أن توفر فوائد أخرى. 
فقط لو أنك تحاول أن تكون أخطبوطا، كلما كثرت أذرعك صرت أكثر أهمية. 
وعليك أيضا ألا تستخف أبدا بكل النقاد الذين يطلبون صداقتك في وسائل التواصل الاجتماعي، ويطلبون بلهفة الحصول على أعمالك، وكأنك الكاتب «الفلتة» الذي لا يتكرر، ثم ستهطل الكتابات عليك كالسيل، لكي تتدبر أمرها… ولمَ لا تفعل ذلك، والكتابة تخصك والعناوين الصاخبة تعنيك أنت دون غيرك؟ 
يزيد شغفك أيها الكاتب المجنون بالزهو بنفسك، فإذا بك تحلم أن يتحول هذا الناقد الشاطر إلى وسيط جيد بينك وبين المترجمين، «ولمَ لا»… وإذ بك تُصبح مُترجَما فجأة للغات شتى من العالم، فما الذي قد يمنعك من ذلك وأذرعك الأخطبوطية الماهرة تكبر كل يوم؟ أظن أنّ هذا الشكل الفج من تنميط العلاقة بين الكاتب، ورؤيته من خلال أذرعه ووساطاته الممكنة، وتنميط الناقد ورؤيته من خلال شنطة النقد، فوتت علينا الكثير جدا من الجدية والالتزام بين الطرفين. وعلى وجه الخصوص في علاقة الكاتب الخليجي بالناقد العربي تحديدا. من جهة أخرى لا يُمكن أيضا أن نُبرئ شراكة هذا الكاتب في رسم هذه الصورة النمطية والمتداولة عنه، فالبعض للأسف قدّم نفسه كمُتسلقٍ أو كعدّاء في سباق المجد، وكراكبٍ لموجة الشهرة المسلوقة، وكساكبٍ لقروشٍ لا يعنيه أين يصرفها، فالتف حولّه المرتزقة، وليس النقاد الحقيقيون على أي حال. 
لكن هذه الصورة الجاهزة بالمجمل، لا تعني من جهة أخرى أنّ الكاتب الخليجي لا يملكُ إمكانيات كتابة جيدة، كما لا يمكن أبدا أن نُورط كل النقاد العرب في تهمة نقد الشنطة الجاهز، ولكن في الحقيقة هنالك تواطؤ من الطرفين، لتوريط مستمر في هذا التنميط. بالتأكيد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نُطالب الناقد أن يكتب ويجتهد لإخضاع المادة لمشارطه النقدية، ويُعمل فكره ووقته، ومن ثم نقول له إفعل ذلك لوجه الله. ينبغي أن يحصل الناقد على مُقابل جيد لجهده وتعبه، ولكن من جهات النشر وليس من الكُتاب طبعا. ينبغي أن تحصل عملية النشر بشكل مستقل وبمعزل عن سلطة الكاتب، وعن تضخم ذاته وأنانيته في بعض الأحوال، وعلى الكاتب من جهة أخرى أن يحتمل النقد الجاد الذي ينتج نصه الخاص ورؤاه وحيويته المتماسة دائما وأبدا مع الكتابة.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *