*عبده وازن
لم يعد معرض بيروت للكتاب في طليعة المعارض العربية. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها. النادي الثقافي العربي، منظِّم المعرض منذ عقود، يحاول دوماً تجاهل هذه الحقيقة. بضعة معارض عربية تمكّنت خلال أعوام من أن تصبح عالمية حقاً، ومعارض أخرى كانت صغيرة استطاعت أن تنجز خطوات لافتة في عالم الكتاب والاحتفاء به. معرض بيروت تراجع عما كان عليه سابقاً. يمكن أن يقال إن فقره كان السبب الأول في هذا التراجع. والفقر ليس فقراً مادياً فقط، بل هو فقر في روح المبادرة والتحديث وفي المخيّلة الخلاقة أيضاً. هذه السنة مثلاً، لم يدع المعرض كاتباً عربياً واحداً، فالكتّاب العرب الذين زاروا المعرض لبّوا دعوة الناشرين لهم وجلّهم من الشباب، ومنهم على سبيل المثل الروائي العراقي أحمد سعداوي، الفائز بجائزة البوكر العربية. النادي الثقافي العربي بات يؤثر المعرض محلياً أو أهلياً. هذه صفة يرتاح إليها وتريحه من أعباء كثيرة هو غير قادرعلى المضي بها. ولعلّه نجح في هذه الصيغة، فالمعرض محلّي تماماً وأهلي ولبناني تلتقي فيه كل الطوائف والفئات…
لم يغب بعض الناشرين العرب عن المعرض، وفي مقدّمهم الناشرون السوريون وهم باتوا يسمون صفته العربية، وقلة من الناشرين العرب يحضرون عبر «الوكالة» كأن يعهدوا الى ناشرين لبنانيين مهمة عرض كتبهم عوض أن يتكبدوا خسائر المشاركة، فهم يعلمون أن معرض بيروت ليس سوقاً للبيع ولا للصفقات، ولو أن بيروت ما زالت خير مطبعة عربية. غير أن اشتراك بعض الناشرين العرب لا يعني أن المعرض عربي، فهؤلاء يشاركون أصلاً في كل المعارض أو معظمها. ولعلّ ما يمنح المعرض صفة عربية حقيقية هو البرنامج الثقافي الذي يرافقه والضيوف الحقيقيون الذين يدعون إليه ليشاركوا في ندواته ولقاءاته وأمسياته… ولطالما تفرّد معرض بيروت بهذه البادرة حتى في سنوات الحرب الأهلية. لم يعد النادي يعير الضيوف العرب أدنى اهتمام. قبل عامين، دعا الشاعر عبداللطيف اللعبي، ولم يحضر الأمسية سوى عدد قليل جداً، سبعة أو ثمانية أشخاص. حتى الشعراء غابوا عنها. صحيح أن الإعلان عن الأمسية كان ضعيفاً، لكنّ المأزق هو مأزق الجمهور الذي ما برح يتضاءل في بيروت. لم يبق في بيروت جمهور حر يؤم الندوات من تلقائه. هذه ظاهرة لافتة ومخزية. لا تنجح في بيروت، إلا الندوات التي يتم «التجييش» لها، والتي يملك أصحابها علاقات، أياً تكن. أما الندوات الحرة والتي تفتقر الى «التعبئة» فلا. هذا ما يمكن أن نلاحظه في المعرض. الجمهور في لبنان أضحى في «مكان» آخر، مكان من السهل تحديده في بلاد تعيش حالاً من التناقض الرهيب وتقف على حافة الحياة والموت معاً. في أحيان، تتمكن شاعرة مبتدئة من جمع جمهور غفير في حفلة داخل المعرض، وبعض الموقعين كتبهم تشهد حفلاتهم زحمة غير مألوفة بين الأجنحة. أحد الموقعين مرة، جلب أهل قريته جميعاً وكان كتابه في مقدّم لوائح الأكثر مبيعاً. إنها النزعة الأهلية – المحلية.
لا يحسن النادي الثقافي العربي اختيار المنتدين والمشاركين في اللقاءات، وبرنامجه يكون غالباً هزيلاً ومدعاة للهزء أو الشفقة. يتهاون النادي كثيراً في هذا الاختيار، ويفتح الباب على مصراعيه أمام دور النشر وكتّابها. والناشرون لا يهمهم سوى الترويج لكتابهم مهما بلغ انحطاطهم. ومن يقرأ البرنامج يسأل نفسه: من هم هؤلاء الكتاب الذين تقام لهم ندوات مدائحية؟ من هم هؤلاء المنتدون المتنطحون الى منابر معرض الكتاب؟ والمستهجن، أن النادي يقيم ندواته ويتيح للجميع أن يقيموا ندوات بحرية تامة ومن دون شروط. حال من الفلتان تجتاح منابر المعرض وصالاته حتى ليصبح أشبه بـ «البازار» المفتوح أمام كل ما هبّ ودبّ… وهذا يسيء أكثر ما يسيء له.
قد يكون ممكناً غضّ الطرف عن تخلّف المعرض تقنياً وتكنولوجياً ولوجيستياً، وعن فقره وضعف مراسه وتضاؤل أثره، لكن يصعب، بل يستحيل الصمت حيال هذا الفلتان الثقافي الذي يجتاح المعرض. وكم من ندوات مهمة فعلاً تفقد وهجها في جريرة هذا «البازار»…
لم يعد معرض بيروت معرضاً عربياً إلا اسماً، ويحتاح فعلاً الى استعادة صفته هذه، والى رد الهالة التي كلّلت رأسه طويلاً بصفته معرضاً عريقاً وسباقاً. لكنه بات يشبه بيروت، هذه المدينة المضطربة التي تناقض نفسها بنفسها، والتي لم تعد تميّز بين الحقائق والأوهام.
_______
*الحياة