ألم وأمل: الباب الضيق للحياة



د.حسن مدن


في الغالب الأعم فإن الناس في بلداننا لا يفضلون الذهاب إلى العيادات النفسية، وإن فعلوا فإنهم يُفضلون أن يبقى الأمر في طي الكتمان والسرية الشديدة. الناس تعترف بالأمراض العضوية، ولكنها تتحاشى الإشارة إلى الأمراض النفسية، وتجد فيها ما يخدش الصورة العامة للشخص، على الرغم من أن العلة النفسية شأنها شأن العلة العضوية أمر يحدث مع الكثيرين وبإمكان العلاج، إذا كان الطبيب ماهرًا، أن يخفف من أعبائها وأعراضها.
منذ سنوات قرأتُ تحقيقاً في إحدى الأسبوعيات العربية عن ظاهرة النساء اللواتي يترددن على العيادات النفسية، قيل فيه إن هذا العدد في تزايد. كان ذلك في إطار حديث مسهب عن حجم الضغوط التي تتعرض لها المرأة أو تعاني منها أكثر من الرجل، كونها أكثر تأثراً بضغوط الحياة وبإخفاقات العمل أو الزواج أو التحقق المهني أو الشخصي، وتضمَّن التحقيق فيما تضمن إشارة إلى أنه على الرغم من تزايد عدد المترددات على العلاج النفسي، فإنه يظل قليلاً بالقياس إلى عدد أولئك اللاتي يفضلن تحمل المعاناة فردياً أو الشكوى إلى الصديقات المقربات على الذهاب للطبيب، خاصة إذا كان رجلاً؛ لأنهن يجدن صعوبة في البوح بالأسباب الحقيقية لمعاناتهن، خاصة وأن العلاج يقتضي في بعض الحالات طرح أسئلة غاية في الدقة والحرج التي تجد «المريضة» أو حتى «المريض» صعوبة في الإجابة عنها بصراحة.
ومن مطالعاتي لبعض «الحلول» التي يقدمها المختصون في بعض وسائل الإعلام، المكتوبة خاصة، على المشكلات ذات الطبيعة النفسية يُلاحظ سطحية الكثير من الردود وعموميتها ووقوفها عند حدود النصيحة المجردة التي يمكن لأي كان أن يقولها، وفي هذا دليل على أن الطب النفسي في بلداننا ما زال متخلفاً وقاصراً على الوفاء باحتياجات المتعبين عصبياً ونفسياً في عالم اليوم الذي يزداد تعقداً وتشابكاً ويفرز الكثير من مشاعر الوحدة والوحشة والفشل العاطفي والخواء الروحي.
حسب عرض لدراسات نشرتها مجلة فرنسية متخصصة في عدد خاص بعلم النفس، تتناول العوامل التي تدعو الإنسان إلى اللجوء إلى المعالجات النفسية، ثمة ملاحظة فحواها أن تفهم أسباب مشكلاتنا النفسية المنعكسة على صحة أجسادنا، يتطلب أن نعالجها ونتصالح مع ذواتنا ومع الحياة لنكمل الاكتشاف ونسبغ عليه المعنى، وذلك هو المسار الذي لا يخلو من الألم والأمل عند كل منعطف من منعطفات الروح.
وتقول الكاتبة ندى الحاج التي قدمت هذا العرض لدراسات المجلة الفرنسية المشار إليها إن بين المعالجات النفسية المطروحة هي كيف نحدد اختياراتنا، ولكنها تلاحظ أن الحديث يدور عن مجتمع غربي، هو فرنسا، تتوافر فيه الخيارات المتعددة، الأمر الذي لا يتحقق بالسهولة نفسها في مجتمعاتنا، خاصة في ظل النظرة المترددة أو الوجِلة أو الخائفة من الطب النفسي، على الرغم من أن المعالج النفسي هو الشخص الجدير بتوجيه الراغب في المعالجة النفسية وإرشاده إلى الطريقة المثلى عبر العلاج طويل أو متوسط أو قصير الأمد تبعاً لطبيعة المشكلة والمعطيات الشخصية والاجتماعية للشخص الذي يتلقى العلاج.
ويلاحظ أن العلاج النفسي تطور من العلاجات المعتمدة على الحوار أو التبادل الكلامي، إلى نوع من العلاجات الحديثة التي تعتبر الجسد الإنساني ولغته مدخلاً إلى الشعور بالامتلاء، وهي تندرج أيضاً في العلاجات قصيرة الأمد التي تعتمد وسائل الاسترخاء والسيطرة على الذات لبلوغ التناغم الداخلي وتسمح بالسكن الأفضل داخل الجسد والتحكم في أدوات العقل وتنفيس الضغوط، والتي لا يراد بها بالضرورة أن تكون علاجات شفائية أو تتوخى الشفاء، بقدر ما يراد لها أن تكون وسائل للتطور الشخصي وبلوغ النجاح. بعض الدراسات تؤكد أن كثيراً من ثوابتنا وعواطفنا التي خلناها محصنة معرضة للاهتزاز إذا لم نتدرب على مواجهة أنفسنا في صدق وشفافية. «تلك النفوس المجهولة تستلزم العون كلما تألمت في صمت ونطقت بها الأجساد».
في كل مرحلة من مراحلها تضع الحياة أبنائها على منعطف، يقف عنده المرء ليراجع نفسه ويستخلص من تجربته الماضية دروساً، منها ينطلق نحو المستقبل. لا تسير الحياة دائماً على إيقاع واحد، وليست الحياة طريقاً مستقيماً، وانما هي طريق بتعرجات وتقلبات. لكن الأهم في هذا كله ألا يفقد المرء حماسته. لا أعرف من هو الكاتب الذي قال مرة ناصحاً قراءه: «تذكروا أين فقدتم حماستكم؟».
إنها بالضبط تلك الدعوة التي تحث على ألا يفقد المرء حماسته، إذا حصل ذلك فعليه أن يعيد النظر في الظروف التي أدت إلى ذلك، كي يستعيد هذه الحماسة. التجربة، حتى لو لم تكن ناجحة، يجب ألا تحمل على فقد الأمل في البدء من جديد، انطلاقاً من التجربة المتحققة.
يقول الكاتب الراحل رجاء النقاش: إن كل الأطباء الكبار للنفس البشرة يقولون: إن البوصلة الوحيدة هي: العمل، لكن كلمة العمل بمعناها العام لا تكفي ولا تؤدي إلى نتيجة. وعن واحد من هؤلاء الأطباء الكبار للنفس البشرية هو أديب ألمانيا العظيم غوته ينقل «النقاش» قولاً مفاده: «إن من الخطأ أن نرسم لأنفسنا خطة ضخمة لأعمال كبيرة، وننتظر أن يتحقق ذلك بصورة مفاجئة، فإذا لم يتحقق ما كنا نحلم به أصابتنا التعاسة وامتلأت نفوسنا بالكآبة والهم، وبذا يكون الخطأ خطؤنا نحن وليس خطأ الحياة. والطريق الصحيح الذي يقودنا إلى نبع الحياة الحلو وسحرها الدافئ، هو أن يقول الإنسان لنفسه: «إن الخطة المثلى هي أن أعمل الواجب القريب مني».
والواجب القريب قد يكون هدفاً بسيطاً، متواضعاً، قد يكون حلقة ضيقة، لكن حين ننجز هذا الواجب فاننا نلج دائرة أوسع، تقترب من مهمة أكبر، فالنجاحات تتحقق بالتراكم، والصعود التدريجي، درجة درجة، هو الأجدى من القفز إلى أعلى، ففي القفز مغامرة السقوط المدوي أيضاً الذي ربما يأتي سريعاً.
يستخدم رجاء النقاش تعبير «الباب الضيق» لوصف ذلك، داعياً للدخول إلى النجاح ليس من الأبواب الواسعة بالضرورة، أبواب الشهرة والثروة، وإنما من تلك الأبواب الضيقة، فالباب الضيق هو العمل الصغير المتواضع الذي يؤدي إلى عملٍ أوسع منه، وقد يكون الباب ضيقاً خالياً من كل بريق إلا في شيء واحد هو أنه يؤدي إلى الإحساس بمعنى الحياة، والإمساك بالخيط السحري الرفيع الذي يجعل القلب مليئاً بالأمل، ويجعل العين تبصر في الحياة أشياء قد لا تراها العيون العادية.
الباب الضيق هو في كلمات طريق السعادة الداخلية العميقة، التي تجعل الإنسان متسقاً مع نفسه، والتي تجعله يكتشف المسرات الصغرى الحميمة للنجاح وهو يتحقق خطوة خطوة عبر المثابرة والجهد، من خلال التعلق بكفرة ومثال، بحيث يتذوق الإنسان طعم تفاصيل الحياة، ويتشرب الأشياء بعمق وروية، فتغدو الحياة إذاك ذات مغزى، بعيداً عن اللهاث السريع نحو أمور براقة سرعان ما تتكشف عن سراب. ذات يوم من عام 1984 كان الشاعر والأديب الراحل ممدوح عدوان في هافانا، عاصمة كوبا البعيدة، هناك رأى بغتة تمثالاً مذهلاً لدون كيشوت على ظهر جواده وبيده رمحه. إنها الصورة المألوفة لدون كيشوت، ولكن هذا التمثال كان محبوكاً من الخيزران، وقد أعطاه هذا الخيزران قوة لا يمكن توقعها. استطاعت قضبان الخيزران إظهار عضلات الحصان بشكل لم يسبق له أن رآه في أي تمثال سابق، ثم انتبه إلى الرجل الذي يمتطي الحصان، أي دون كيشوت نفسه، الخيزران ذاته الملفوف ليشكل كتفيه وزنديه وصدره وفخذيه أظهره شخصاً خيزرانياً، للمرة الأولى يبدو دون كيشوت أمامه نحيلاً وقوياً وليس هزيلاً، وكان نحوله نحول شخص كله أعصاب متوترة، وهي أعصاب توحي بالقوة والعزم والإرادة.
وبالإضافة إلى ذلك كان فيه عضل. انه العضل الذي نعرفه عند لاعبي الكاراتيه وفنون القتال، عضلات الأجسام المفتولة التي ليس فيها جرام واحد زائد. كل ما تراه من الجسم لازم له، كل ما فيه عزم وقوة وفحولة.
حين شرح ما رآه كتب: «لو أنني استطعت تصوير ذلك التمثال لفزت بأجمل صورة يمكن ان يحصل عليها مصور للرجل المثالي». وسيتخذ من ذكرى هذا التمثال في هافانا البعيدة توطئة لشرح موقفه من فكرة الرجل الذي يواجه قدره، مواجهة مستحيلة مع أخطاء العالم، وهذا ما فعله في حياته كلها، وما فعله بخاصة منذ ان أخذ يصارع الموت، هو الذي جبل على حب الحياة.
راوي هذه الحكاية بهذا الوصف البديع، أي ممدوح عدوان نفسه، ظلَّ حتى رمقه الأخير على خط الدفاع الأمامي، على جبهة الثقافة، منافحاً عن فكرة المقاومة. بل كان مقاوماً للهزيمة، هو الذي يدرك شأنه شأن اي مبدع كبير، بما يملك من رهافة حس وبصيرة يقظة، ان هزيمة النفس، هزيمة الذات هي الهزيمة الحقيقية التي تجعل من الهزيمة الشاملة قدراً لا راد له.
لذا فإنه كان يعمل من موقعه: مسرحياً وشاعراً وكاتباً للدراما ومترجماً للآداب العالمية. من أجل الانتصار للحياة، من اجل ان يظل الأمل باقياً، ليس فقط لأن الأمل آخر ما يموت، كما تقول حكمة روسية، وإنما من أجل بلوغ تلك الحال التي لا يعود بوسع الأمل فيها أن يموت، وهو في هذا يعلمنا درساً كذاك الذي بسطه رجاء النقاش وهو يحثنا على فتح منافذ الأمل في الحياة، رغم كل المثبطات.‏
_________
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

الكتابة الابداعية كما أراها: 23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف

الكتابة الابداعية كما أراها:  23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف*  يحيى القيسي   بدأتُ الكتابة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *