إبراهيم خليل
في الصفحات الأخيرة من روايتها «سماء قريبة من بيتنا» ـ ضفاف 2015، تستعيد شهلا العجيلي لبطلتها جمان بدران عافيتها بعد عام ونصف العام من العلاج الكيميائي والشعاعي (الليزر) في المركز الوطني للسرطان، على يدي الطبيب يعقوب. لكن هذه العودة إلى الحياة من جديد ترتبط أيضا بمأساة فهانية (هانوي) الفلسطينية التي استعادت هي الأخرى عافيتها من السرطان تسافر إلى بكين على متن الطائرة الماليزية المغادرة من كوالا لمبور لتختفي بطريقة غامضة، ولم تعرف أسرار اختفائها حتى كتابة الرواية، ويعد ركابها الذين يتجاوز عددهم المئات في عداد الموتى أو المفقودين.
وإذا كانت النهاية تقول لنا بمعنى من المعاني من لم يمت بالسرطان مات بغيره، فإن الصفحات الـ 342 تمتلئ بالحكايات التي لا تخلو من الإشارة إلى الموت، فمن لم يمت بذلك الداء الخبيث مات بالقصف العشوائي، أو بالبراميل المتفجرة، أو بالشظايا المتناثرة من القذائف، أو بالذبح بالسكاكين أو بالتعذيب في المعتقلات. فجمان ذات الـ33 ربيعا ابنة المهندس المعماري سهيل بدران، تلتقي مصادفة بناصر العامري، وهو شاب فلسطيني ـ أردني درس في أمريكا، وعاد إلى عمان بعد أن انفصل عن زوجته (كورين) تاركا أبناءه، ابنين وبنتا واحدة (سارة) ليواصل حياته العملية تارة في دبي، وطورا في المركز الجغرافي الملكي في عمان. وهذا اللقاء يؤدي دور المحفز لبقية الأحداث التالية. فعندما ظهرت على جمان أعراض السرطان، الذي أصاب غددها اللمفاوية، لم تجد ـ وهي ابنة الرقة المقيمة في عمان غريبة وحيدة ـ من يقف إلى جانبها غير ناصر هذا. فقد نشأت بينهما صداقة عميقة ترقى إلى درجة الحب الحقيقي، بسبب ذكريات مشتركة قربت بين القلبين. فأمه شهيرة بنت بهجت بيك الحفار، أحد وجهاء حلب، وقد كانت له – أي لناصر – زيارات متكررة لحلب التي أقامت فيها جمان ردحا طويلا في منزل جدها علي بدران وفي الجامعة لاحقا. وهذه الذكريات المشتركة أتاحت لكل منهما التعرف على ماضي الآخر، طفولته، دراسته، نانا أم بشار وولديها بشار وفاتح. والأسرة بصفة عامة، أسرة جمان، المهندس سهيل بدران، والعم يوسف، والشقيقتان سلمى وجود، والعم فيصل الذي تزوج من إيطالية (ناتاليا)، وانقطاع أخباره بعد مغادرته للعراق بسبب الخلافات الشديدة بين قيادتي (البعث) القومية والقطرية. أما ناصر فهو سليل الكرمل هوم تقاذفته المنافي من حيفا إلى بيروت وإلى حلب فعمان وكاليفورنيا.
وتقودها قدماها إلى مخيم الزعتري، لا بهدف الزيارة والوقوف على أحوال أشقائها السوريين الذين قذفت بهم الأحداث ليتحولوا بين عشية وضحاها من مواطنين، إلى لاجئين، ينتظرون المساعدات من الأمم المتحدة، وغير المتحدة، وإنما لضرورة تمليها طبيعة العمل الذي تمارسه. والوظيفة التي تشغلها في المؤسسة. ومن المفارقات الغريبة التي واجهتها جمان ظهور علامات الإعياء، وضيق التنفس، وأمارات الإصابة بسرطان الغدة اللمفاوية، بعد تلك الزيارة مباشرة، وقدوم ناصر الذي كانت تعتقد أنه نسيها، وتخلى عنها أثناء وجوده في كاليفورنيا، ليقف إلى جانبها بشهامة قل نظيرها بلا ريب.
وتسلط العُجيلي الضوء على معاناة جمان، سواء تلك التي تسببها جرعات الكيميائي وما يعقبها من أعراض كتغير ملمس البشرة، وتساقط الشعر، وفتور الأعصاب، وضمور الجسم، والضعف العام ، والأرق، إلى جانب القلق النفسي خشية الموت وحيدة غريبة في مدينة لا أهل لها فيها، ولا وطن. في الأثناء، وعلى عادة الكاتبة في روايتها السابقة «سجاد عجمي» (2013) تروي الساردة حكاية أخرى عن جون دراير الأمريكي الذي عرفته في طفولتها صديقا لأبيها.. زار الرقة وأقام لديهم مدة، وفي أثناء الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول (1973) تصدى له رجل أمن سوري وأراد مصادرة آلة التصوير التي التقط بها صورا لمسيرة الاحتفال، وقد وقعت بينهما مشادة انتهت بجمان إلى التحقيق معها بتهمة سلاطة اللسان. ومن هذه الحكاية تنبثق حكاية أخرى. حكاية الدكتور يعقوب. الطبيب الذي أثنى عليه كثيرون بمن فيهم هانية التي أفلتت من السرطان على يديه، مثلما أفلت كثيرون.. وقد تراءى لها ـ أي لجمان- أنها رأته من قبل، وأن وجهه ليس غريبا عنها، فاعتصرت ذاكرتها وراحت تفتش في الصندوق الأسود لتكتشف أنها رأت يعقوب في بلدة بورتو فينو، التي زارتها مع الأسرة بدعوة من السيد بوتشيلي المدير التنفيذي لشركة فيات الإيطالية. وليس هذا هو المهم، إنما الأهم هو أن ذلك الصبي الذي شاهدته، وتحدثت إليه، وقدمت له بعض الحلوى، شاء القدر أن يكون الطبيب الذي أنيطت به مهمة الإشراف على علاجها من الألف إلى الياء.
وشخصية تؤدي هذا الدور لبطلة الرواية، والساردة المشاركة فيها، لا ينبغي أن يفوت الكاتبة الوقوف على التفاصيل التي تجذب إليه الانتباه. لهذا جاء الفصل الموسوم بعنوان أحلام البرتقال كما لو أنه مخصص لحكاية يعقوب.
فمن الحوافز التي تشجع الساردة على الوقوف عند حكايته تلك المريضة بالسرطان (هانية) التي شفيت على يديه، مثلما تقول، وعادت إلى حياتها الطبيعية تمارس الرقص في النادي الملحق بفندق الريجنسي في عمان، كأي فتاة لم يسبق لها أن أصيبت بالسرطان أو بغيره. والبداية بالطبع من عام 1948 عندما شرد الإسرائيليون سكان اللد عبر البراري، وضاع طفل صغير (يوسف) من ذويه وعثرت عليه عائلة الشريف نائما بين الحشائش، وعندما لم يجدوا له أهلا يدفعون به إليهم تبنوه، وأطلقوا عليه الاسم الذي عرف به يوسف الشريف. هذا هو والد يعقوب، تزوج يوسف الشريف هذا من نبيلة ابنة الحاج أليف علم الدين من يافا، وأنجبت له يعقوب عام 1970. استقرت أسرة الشريف في عمان، وتوفي يوسف مبكرا لتمتنع نبيلة عن الزواج بعده، لا وفاءً لذكراه فحسب، ولكن لتتفرغ لتربية ابنها الذي أبدى عبقرية ونبوغا في الدراسة من صغره، علاوة على ميول أبداها للقراءة والاطلاع. والتحق بعد الثانوية بكلية الطب في الجامعة الأردنية، وحين أنهى دراسته مُنح بعثة لمتابعة دراسته العليا في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس. وفي أثناء دراسته للبكالوريوس مرت أمه بتجربة عاطفية كادت أن تعصف بعلاقتهما الحميمة، فقد وقعت في حبائل مدرب موسيقى ألماني- من أصل صربي – اسمه فلاديمير بيركيتيش، واستمرت علاقتها به سنة، اكتشف يعقوب تلك العلاقة التي تعمقت بينهما جدا في تلك الأثناء، فأظهر لها تبرمه وضيقه بذلك الموسيقي عن طريق الغمز واللمز تارة، وتارة بمغادرة البيت، وعدم العودة. وقد جاء سفر بيركيتيش لينهي تلك العلاقة النزوة. بيد أنها، وهو في لوس أنجليس، أغرمت بطبيب التجميل العراقي رشيد شهاب، وإذا كان هيامها بذلك الألماني نزوة تعدتها، فإن عشقها لهذا الطبيب الستيني انتهى بزواجهما زواجا رسميا لا ينقصه أي شيء. وتشاء الأقدار ألا يمتد العمر بهذا الطبيب سوى ثلاث سنوات أصيب بعدها بالسرطان وعهد ليعقوب بعلاجه، ولكنه توفي في وقت قصير، قبل أن يأخذ العلاج، فيما يُظنّ ضربًا من الموت الرحيم.
وعلى الرغم من أنَّ الساردة كانت قد أشارت في بداية الرواية لأختيها سلمى وجود ولأفراد العائلة وانقطاع أخبارهم عنها، بسبب وقوع الرقة تحت سيطرة «داعش» وانقطاع الاتصالات الهاتفية انقطاعا شبه تام، وانقطاع الإنترنت، إلا أنها عادت في فصل «ملح القراصنة» والذي يليه لحديث الاختين؛ فالأولى لها حكاية مع القرصان إبراهيمو، وقد انتهت حكايتها العجيبة تلك بقدوم القرصان إلى حلب ليخبروه بأنها تزوجت من نسيب وأنجبت منه ابنتين في ثلاث سنوات. إلا أن انسحاب النظام من الرقة وتركها لتنظيم الدولة «داعش» بصورة ما يبدو أنه انسحاب تكتيكي أو هزيمة عسكرية، أغرق العائلة في مستنقع الإرهاب، واستولى الجهاديون على فيلا سلمى ونسيب، وجعلوها مقرا لهيئتهم الشرعية، مثلما تسمى. وجاءت براميل النظام المتفجرة لتحبط الآمال باستعادة الفيلا بعد مغادرة الجهاديين. وقد اختلفت سلمى ونسيب فهو يريد مغادرة سوريا لاجئا إلى بلد أوروبي بعد أن فقد كل شيء، وهي تفضل الموت في الرقة على التحوّل إلى لاجئة.
أما جود التي حظيت (بتدليل) عمتها ليلى، فقد نشأت على طباع غريبة نوعا ما، غرابة وقوع طفلة في السابعة من عمرها في حب المطرب اللبناني السابق ربيع الخولي. درست بعد أن أتمت البكالوريا في جامعة حلب، وتخصصت في مجال صناعة مستلزمات الأسنان وعندما أحبت زميلا لها في الدراسة عُرف أبوه بوصفه مديرا لدائرة حكومية ترعى الفقراء والمحتاجين، وقف والدها سهيل بدران ضد هذا الزواج، لأن والد الشاب الذي يدعي الوجاهة تخلى عن أبيه الذي قضى حياته متسولا لصدقات أهل الخير، في حين أنه ـ أي والد الشاب- يدعي الإنفاق على الشؤون الاجتماعية وإعانة المعوزين باسم الحكومة. وفيما خاب أملها في الزواج من ذلك الشاب كانت الرقة تقع تحت رحمة الجهاديين، الذين لا يُعرف من أين جاءوا.
وكعادة المؤلفة التي ألفناها في روايتها «سجاد عجمي»، لا بد للحكاية من أن تحتوي حكاية أخرى فرعية، ولا بد أن تروي لنا الساردة – تبعا لذلك – حكاية روح الأمين الذي ولد بعد تأسيس بن لادن تنظيم «القاعدة» 1988.
وما تروية له علاقة بالآتي.. فقد جاء هذا المدعو روح الأمين خاطبًا (جود) بردائه الطالباني، وذقنه الكث الذي يمتد بضع سنتمترات على صدره، وبحرص لافت على الاستخفاف بما يراه في القصر بما في ذلك صورة العائلة التي قلبها لتغيب وجوه من فيها في الرخام. في الأثناء تبدي جود التي انشقت عن الأسرة وارتدت العباءة والحجاب والنقاب موافقتها على الزواج، على الرغم من معارضة سلمى والأب.. الذي رأى ألا بد من الرضوخ ما دام هؤلاء الدواعش يستطيعون الزواج بقوة السلاح، فما الذي يجنيه من الاعتراض، وقد ابتلاه الزمن بهؤلاء القادمين من قندهار ليفسدوا كل شيء.
من اللافت للنظر تناولُ المؤلفة العجيلي لمأساة جمان المزدوجة: المرض الخبيث والبعد عن الأهل وعن الوطن، الإحساس العميق بالغربة والوحدة، انقطاع الاتصالات بينها وبين مدينتها التي تحب، ولكن ثمة جسور وعلاقات من نوع العلاقة بينها وبين ناصر العامري، أو بينها وبين يعقوب الطبيب، أو بينها وبين هانية التي سبقتها إلى الآخرة. على أن هذه المأساة تقابلها على الجانب الآخر مأساة السوريين، لا اللاجئين في الزعتري، أو في الفضاء الأوروبي، بل أولئك الذين ُتركوا ليلاقوا مصيرهم ذبحًا على أيدي الدواعش، أو قصفاً على أيدي النظام والدخلاء من غير السوريين الذين تجمعوا من كل أنحاء العالم. والمأساة أيضا ليست وليدة الحاضر، بل هي ممتدة في الماضي، منذ بهجت بيك الحفار، وأعضاء الكتلة الوطنية، ومسيرة التأميم، والجبهة التقدمية، والخلاف مع العراق، والقيادتان القطرية والقومية، وشيوع نماذج من المفسدين، وصغار المنتفعين، والمخبرين. مزيج من مصادر المعاناة تتخلل هذه الرواية التي لا تخلو من آليات تطفو على السطح، كاستخدام الحوافز، وتعدد الشخوص، واللجوء إلى تقنية التحول، والانقلاب، والتعرُّف، واستعادة الماضي بما يوهم بهيمنة تداعيات ضمير المتكلم على النسق السردي. علاوة على إدارة شبكة من العلاقات يتنقل بها القارئ من عمّان إلى تونس، والدار البيضاء، فإلى باريس، ولندن، وكاليفورنيا، وبوسطن، وبورتوفينو، وحلب، والرقة، والعراق، ويافا، وحيفا، واللد، في دوامة من الزمن لا تقف عند تاريخ معين، بل تنبثق الأحداث من مفاصل متعددة، ومحدّدة: خمسينيات القرن الماضي تتلاقي بالعقد الثاني من القرن الحالي. وهذه الرقعة الفسيحة من الزمن تحتاج إلى تقنيات سردية مركبة تركيبًا معقدًا للإفلات من تشتت المحكيّ، وهذا ما اقتدرت عليه الكاتبة في هذه الرواية التي تغرُف فيها من الحاضر والماضي، ومن العام والخاصّ.
______
*القدس العربي