*صالح العامري
• كأن المسألة برمتها كما يكتب أنسي الحاج: «سيطير عصفور حزين من القفص ليعود إلى القفص عصفور حزين».
• في غابر الأيام كان يدخل بكلّيته في القرية الصغيرة، والآن لا هو بداخل ولا هو بخارج، مثل عوّامة معطلة لا عمل لها، عالقة في أعلى الخزّان، عوّامة عاطلة عن العمل، بفعل الصدأ أو التقادم أو الصناعة الرديئة.
• الطريق ثقب مجنون، يولج فيه لسان ظهيرته الملتهبة.
• شيء ما، لا يشبه الحصان أو الطبل، يصهل في ذاكرته، ينتفخ في ماضي أيامه، يصيبه بالعدوى الآن، يستدرجه إلى الصهيل والانتفاخ. شيء ما يدخل فيه، يعزفه، يذهب به إلى أقصى اللحن، إلى أعماه الراقص إلى راقصه الأعمى. لعله الخواء المسلّح، أو السرخس البدائيّ الذي ينهض كقنفذ أو شجرة، أو الليل الذي يعوي كذئب أو مطفأة سجائر.
• همز الكرة الأرضية بمنخاس الأمل، عرّى لها سرّتها الرطبة لكي تقع عليها الشمس، أخذها إلى زاوية حلمه الصغيرة وقام يفك أزرار عباءتها السوداء، حرض ناهديها لكي ينداحا بنعمة اللوز والخمر والحليب. كانت عندئذ البلدان والخرائط الدائخة تقود عقربه إلى قبة السماء، وكانت الشهوات الماكرة تتنازع دبّه القطبيّ الذي يتراكض بين الغيوم.
• لن يحسده أحد بعد الآن، حين يكتشف الأهالي أن جميع ذئابه وكلابه وخرافه قد تساقطت في المرعى بفعل سمّ غادر، بينما بقي له تيس أوحد في داخله، سرقته منه راعية الأغنام في مرج الطفولة. إن داخله هناك، إن خارجه هنا.
•لسنا مهمين لأنفسنا ولا لغيرنا، مثلما أنّ الداخل مفقود والخارج مفقود أيضا.
• يدرك أنه يخطئ دائما، وأنه يجانب الصواب، ثمّ إنه لا يفقه ما هي الحقيقة. ومع ذلك يستطيع المجازفة بأن الفرق بين اللاعدميّ والعدميّ، إنّ اللاعدميّ يحكّ مصباح علاء الدين بعد أن يموت، فيخرج المارد بلهفاته الموعودة. بينما العدميّ هو علاء الدين المطروح أرضا، وقد سُلِبتْ أنفاسه وسُرِق مصباحه وقُتِل مارده.
• مكتوب على الصفحات البيضاء بحروف لا مرئية، تقطر شبقا: تقدم أيها الأخرس، تنيّأ أيها المطبوخ، تعر أيها المستور، تدفق أيها المحتجَز، تهتّك أيها الرصين، تحطم أيها الفولاذ، تدلع أيها القاسي، ترنّح أيها الجبل، تكدسي أيتها القطرة، تبخر أيها المحيط، تكسر أيها القيد، تصوبن أيها الصابون، انقلبي أيتها العصا إلى أفعى، انفجر أيها الجرح، اخرج أيها الجنين الماكث في الأعماق لكي تشتعل وليداً شقياً على الأوراق.
• اللعنات السائبة التي تطارد الكاتب هي التي تخلقه، هي التي تعجنه بمائها وملحها وحقيقتها، هي التي تدخله في فرنها النهم، فاتحة وهج أرغفته الذهبية وتلظيات زمنه الهائج: على الصفحات الجائعة، على الأوراق التي نفد صبرها من الرعشة والانتظار والتوسّل.
• ماذا يريد القلقون من العالم مادام أصما وأخرسا؟، ما الذي ينتوون أن يفعلوه بوساوسهم الخرقاء وارتياباتهم المنتصبة في صدورهم؟. ما الذي يحاولونه بثقوبهم وتجاويفهم وشقوقهم وأخاديدهم وتشظياتهم الممزقة؟. لعلهم في ذلك يتقمصون دور طائر الزقزاق الذي ينظف أسنان التمساح. لعل غددهم تفرز تلك المادة الدهنية التي تقي الإوز والبط من التبلل بالماء. لعلهم يودون أن يرتكزوا على قلقهم كما يرتكز القندس على ذيله أو يسبح بمجدافه. لعلهم يحاولون اصطياد الثعبان أو اقتلاع عين الصقر الذي يسكن في الأعالي. يفعلون ذلك ربما لأنهم يكترثون أكثر ما يجب، أو لأن حكتهم مؤبدة وصداعهم يسيل في جنبات الكون وأمراضهم الداخلية لا يمكن نشرها على حبال غسيل الصفاقة الساذجة واليقين القذر.
• ماذا فعلت بنفسك أيها الكائن؟، من الذي ألقى في روعك أنك السيد وأنت الوضيع؟ الثري وأنت الفقير؟ الشجاع وأنت القتيل؟ السخيّ وأنت الذي تشح فيك الحيَل وتنفد فيك القوى؟. عجيب أمر داخلك وخارجك، أمر باطنك وظاهرك، أمر قدومك وذهابك. عجيب أنك حين تتحدث: تجر على لسانك ميراث الأرسان والمحاريث، وحين تكتب: تأخذ الكتابة بخناقك وأنت تظنها خلاصك، وحين تفسد أحشاؤك ويتفسخ جوهرك: تزعم أن روحك هي التي تصعد وأن بريق أثرك المتلاشي هو الذي يضيء. عجيب أيها الكائن المتنطع الذي يختلط فيك المسخ والملاك، الجوهرة والبعرة، الخسيس والنفيس، والذي يتصارع فيك الديك الملعون مع الديك المأفون.
• قليلاً وسأخرج إلى الشرفة مطلاً على الكارثة. قليلاً وستكون لدي أعياد في أصابعي وعند ركبتيّ. قليلاً وسأتصبب بالعَرَق الفاخر في دخولي الشهيّ. قليلاً ويخرج الرجل الأزرق من قميصه وبنطاله المشقِّقين راكضاً نحو النور أو المقبرة.
• «الداخل أنا، والخارج أنا»، هكذا يقول المجنون اللطيف، هكذا تنتصر المائدة.
________
*جريدة عُمان.