سليم البيك
ليست الحقوق المدنية مُنالة بوسائل تكون حصراً مدنية وسلميّة. هذا هو الحال على الأقل في ما يخص حق النّساء في التصويت، والحديث هنا عن أكثر من مئة سنة من الآن، وفي بريطانيا، والحديث تحديداً عن اتّحاد نسائي علني في وجوده وسرّي في بعض أنشطته، اسمه «سوفراغيت»، وهو اسم الفيلم البريطاني (Suffragette) الذي أخرجته سارة غافرون وافتتح مهرجان لندن السينمائي الشهر الفائت.
الفيلم، إنتاج بريطاني فرنسي مشترك، ينقل سير تطوّر هذه الحركة ونضالها من السلمية إلى العنف لنيل حقوق مدنيّة للنساء، لم تكن المطالب بحقوق متساوية مع الرّجال بل فقط بحقّ النساء في التصويت، في لندن في 1912، لكنّ الفيلم كذلك، ومن خلال السياق التاريخي والاجتماعي الذي تمر به أحداثه، ينقل المحرّضات لهذا الانتقال، أو المبررات الطبيعية له في مجتمع وصلت فيه الذكوريّة في التعامل مع النساء حد العبوديّة.
كلّ ذلك تتم روايته من خلال الحكاية الشخصية لمود واتس (كاري موليغان)، وهي شخصيّة روائية غير واقعية ضمن سياق واقعي وتوثيقي يتم نقله روائياً. مود أولاً امرأة وثانياً عاملة، أي أن القضية التي ينقلها الفيلم، أو قضية الاتحاد النّسائي سوفراغيت، لا تخصّ النّساء بالمعنى الجندري فقط، بل تخصّ النّساء العاملات، بنات الطبقات الفقيرة، أو لنقل البروليتاريا النسائية، كوننا نحكي عن مجتمع صناعي يشكّل فيه العاملون طبقة واضحة المعالم. فلا يقتصر اضطهاد مود على المسألة الجندرية، كعنوان لهذا الاضطهاد، والمُمثَّل بالشكل الأكثر مباشرة بزوجها الذي يمنعها، بحق القانون كما قال، من رؤية ابنها لا ليعتني هو به، بل ليمنحه لعائلة تتبناه، بل يتعدى الاضطهادُ ذلك إلى حدود مرتبطة بعموم المجتمع والدولة.
لكنّنا أمام تحالف بين ثلاثة أنواع من السلطات: الرجل والدولة ورأس المال. وإن كان الأول يمثله زوجها، فإنّ الدولة تمثّله الشرطة وبربريتها في التعامل مع النساء الناشطات في هذا الاتحاد، من الضرب إلى الاعتقال إلى التغذية القسرية، من خلال الأنف، وهو ما تعرضت له مود. ورأس المال يمثله ربّ عملها في المغسلة. نعرف أن مود عملت هناك منذ كانت صغيرة وفي ظروف استعباديّة، وتعرضت كأخريات كثر للعديد من الحوادث والمضايقات، فربّ عملها، الرّجل، تعوّد التحرّش بالعاملات لديه. وطبيعة العلاقات الرأسماليّة في مجتمع صناعي ذكوري في بدايات القرن العشرين، وانسجام هذه الطبيعة مع قوانين الدولة، أدّت لأن تكون ممارساته هذه، بالنسبة له وحتى لنساء خاضعات، حقاً يمارسه بين فينة وأخرى، من دون أن تتجرأ إحداهن على الاعتراض كي لا تخسر عملها أولاً ولأنّها تعي صعوبة اختراق التحالف بين الذكورية والدولة ورأس المال ثانياً.
لكن وعيا آخر وجد في الأنحاء، بين نساء يجتمعن بشكل سري، يخططن لمظاهرات وأساليب احتجاج سلمية، بدأ يجذب إليه نساء كمود التي صوّر الفيلم أساليب الكفاح من السلمية إلى العنف من خلالها، من خلال تدرّج اقتناعها بضرورة التغيير بأساليب غير المناداة بالحقوق عبر اليافطات. في حديث مع إحداهن وفي بداية تفاعلها مع اتحاد النساء، قالت مود لرفيقة لها بأن على الأساليب أن تتكيّف مع القوانين، أن تحترمها، فردّت تلك قائلة «كي تحترمي القوانين، لا بد من جعلها جديرة بالاحترام».
لكن العنف الممارس من قبل السلطة، الشرطة من ناحية والرجال في البيوت من ناحية أخرى، يقنع النّساء بالانتقال إلى شكل غير سلمي للكفاح، إلى العنف غير المؤذي، غير المسبب لضحايا، بعدما رفض البرلمان الإنكليزي شهاداتهنّ، وكانت آخر فرصة لهن، التي أُدليت في قضيّة الدفاع عن مطالبهنّ في الحق بالتصويت. تطوّرت الأحداث لتصل إلى قرارهن باتباع وسائل تجبر الحكومة على منحهن هذا الحق، منها كان وضع عبوات ناسفة في صناديق البريد، وصولاً إلى تفجير منزل رئيس الوزراء بعدما تأكّدن من خلوّه، وأخيراً، وللفت نظر الملك والعالم، قامت إحداهن بعمليّة انتحارية هي القفز إلى مضمار سباق للخيول، أمام الكاميرات، ليرتطم حصان مسرع بها ويرديها قتيلة، فتُثار قضيّتهن.
كانت هي الشهيدة الأولى للاتحاد والقضية، وكان هذا ما تخوّفت منه الشرطة، أن يكون لهنّ شهيدة أولى فتأخذ مطالبهن أبعاداً أخرى ووسائل أكثر تهديداً لاستقرار سلطة المجتمع الذكورية.
ينتهي الفيلم بمشاهد أرشيفيّة لمظاهرات السوفراغيت وبلائحة بسنوات نيل النساء حقوقهن في التصويت في العديد من بلدان العالم. الفيلم روائي خيالي توثيقي، يعيد الاعتبار لمجموعة من النساء يعود جزءٌ من الفضل لهن في ما استطعن النّساء اليوم، في 2015، تحقيقه، ويعود كذلك لأسلوب الكفاح غير السلمي الذي اتبعنه في نيل حقوق مدنية. لكن، رغم ذلك، لم تنل النساء مساواة في الحقوق تامة مع الرجل، من بين ذلك ما أُثير في حفل الأوسكار الأخير وما تلاه في الصحافة بخصوص تفاوت أجور الممثلين بين النساء والرجال، وكانت الأمريكية ميريل ستريب من بين الفاعلات في إثارة المسألة، وستريب، كذلك، تقوم بدور قصير في الفيلم كرئيسة السوفراغيت.
_______
*القدس العربي