لعبة الأقنعة في رواية أمبيرتو إيكو الجديدة ‘العدد صفر’



رشيد اركيلة

لعل من يسمع مصطلح “الرأي العام” يعتقد أنه رأي عامة الناس، لكنه في الواقع رأي من له القدرة والوسائل لتبليغ رأي ما إلى عامة الناس. فالرأي العام تصنعه إذن وسائل الإعلام، جمعيات المجتمع المدني، الحكومات وتكتلات أخرى حتى لا نقول لوبيات. هنا يتوجب الحذر، فقد «تتحول الأفكار إلى قوة مادية حين تسيطر على عقول الجماهير» حسب تعبير لينين. ولكن للصحافة خطوط حمراء وأخرى معتمة يحدثنا عنها أمبيرتو إيكو بالدليل والبرهان في روايته الجديدة “العدد صفر”.

تدور أحداث رواية “العدد صفر” لأمبيرتو إيكو بميلانو سنة 1992، وأبطالها مجموعة من الصحفيين، خمسة رجال وامرأة شابة، تم توظيفهم من أجل إنشاء جريدة يومية مع تقديم وعود لهم بأنه سيتم تسخيرهم للبحث عن الحقيقة، لكن سيتبين أن عملهم سيكون وسيلة خالصة للتشهير والابتزاز. يُنَقبون في الماضي لإعداد صفحات «العدد صفر»، فإذا بالحاضر متفجرا في وجوههم.
يمنحنا أمبيرتو إيكو ها هُنا تراجيديا ساخرة من زمننا، فبين «طيف موسوليني، الذي اعتُبر ميتا، يهيمن على الأحداث الإيطالية منذ 1945»، ما يجعلنا نتساءل إن كان هذا هذيان صحفي معتوه؟ وإذن لماذا وجد مغتالا ذات صباح؟
كما يقحمنا في عالم من الاعتداءات، محاولات انقلاب، تسميمات، مؤامرات، تضليل، وشايات، تكتم، تعتيم، صناعة التوتر، والتساؤل حين يكون كل شيء صحيحا، أين الغلط؟
تكشف الرواية عالم صحافة الفضائح والتآمر والقتل. نتساءل من قتل رومانو براغادوسيو في زقاق بانييرا، الأقل إضاءة والأشدّ ضيقا بميلانو «وكأننا في لندن جاك السفاح»، حيث يمكن لأيّ شخص أن ينسلّ من الظلام ويغرس هذا السكين في ظهره. لكنه كصحفي متخصص في “كشف الفضائح”، من الوارد أن يكون له العديد من الأعداء، وقد كانت تفتنه نظريات المؤامرة. حتى اسمه، الذي ينمّ في اللغة الإنكليزية عن شيء من التبجح والمفاخرة، يوحي بالدسائس. على كل حال، فقد قال ” الدكتور” كولونا (الراوي) لمفتش الشرطة إنه لا يعرف عنه شيئا سوى أنه كان منشغلا بتحقيق عن الدعارة.
شخصيات فاشلة
كولونا، الذي نجهل اسمه الشخصي، كان من المفترض أن ينهي رسالة الدكتوراه حول هاينه، لكن بما أنه كان يعرف الألمانية من قبل حيث تعلمها عند جدته بمنطقة أديج العليا، فقد فضل أن يجري ترجمات ويعمل كمشرف ومدقق لغوي في دور النشر، كقارئ أو كاتب بالوكالة. لقد كان في الخمسينات من عمره، ويمكن عدّه من أولئك “الخاسرين” الذين قدّر لهم أن يصرفوا نبوغهم في «توسيع المدارك والتبحر في العلم». وعندما عرض عليه سيماي الوظيفة الجديدة بالجريدة، قبل.
سيماي هو المدير وكولونا مساعده. أعضاء التحرير الآخرون ـ جميعهم تقريبا يحملون أسماء برنة الخط المطبعي ـ تم تجنيدهم على عجل: هناك براغادوسيو، مايا فريسيا، امرأة تبلغ 28 عاما «تكاد تحصل على الإجازة في الآداب» قادمة من مجلة شعبوية، كامبريا، هاوي “الأنباء الطرية” التي يمكن الحصول عليها من مخافر الشرطة، ولوسيدي، الذي لم يكن أحد يعرف أيّ صحيفة كان يساهم بإعدادها، وكوستانزا، مصحح مطبعي، وبالاتينو، الذي كانت له سيرة مهنية طويلة في جرائد أسبوعية للألعاب والكلمات المتقاطعة.
مموّل الصحيفة المستقبلية التي يعدها هؤلاء هو “دوماني”، وهو القائد فيميركات، الذي يتحكم بـ«أكثر من عشرة فنادق على ساحل البحر الأدرياتيكي، والكثير من منازل الراحة للمتقاعدين والعجزة»، كما يتحكم بباقة من المحطات التلفزيونية المحلية «التي تشتغل فقط بمبيعات المزاد والمقتنيات عبر الإذاعة، وبعض عروض الأزياء الصغيرة»، وزهاء عشرين من المنشورات، تضم “توم المتبصر”، “الجريمة المصورة”، ومجلات أخرى للبستنة أو السفر.
لعبة العدد صفر
لا يريد المستثمر أن يصدر صحيفة أشبه بنيويورك تايمز أو كورييري ديلا سييرا، بل فقط جريدة تخول له «ولوج الدوائر المالية لصفوة الشخصيات»، تمنحه الرؤية الواسعة والنفوذ. وسيعهد لسيماي وفريق التحرير المفبرك مسؤولية نسج الأعداد صفر لـ”دوماني”، لكنه لا يتوق (والمحررون يجهلون ذلك) بأن تصدر الصحيفة حقا بالأكشاك، بل فقط بأن يجعل ذوي النفوذ، خصومه السياسيين، حتى أصدقاءه، المنافسين وبقية العالم، يوقنون بأن صدور الصحيفة بات وشيكا وأنها ستبهر الجميع، بأنها قد تكشف معلومات وأنباء حية من المرجح أن تعمل على تلطيخ سمعتهم، ويعمل بذلك على ترهيبهم، واستدراجهم في قضايا مشبوهة، وكان كل جهده أن تكون الصحيفة المستقبلية باختصار، آلة لصنع الوحل جاهزة للتشغيل.
هذه هي لعبة العدد صفر، آخر رواية لـ”أمبيرتو إيكو”، التي ربما لا توازي “نبض الخيول” أو تعقيد “اسم الوردة”، و”بندول فوكو” أو “مقبرة براغ”، ولكنها فور صدورها، أصبحت الرواية الأكثر مبيعا في إيطاليا، مع ترجمات في جميع أنحاء العالم، وقد قدّمت في معرض فرانكفورت بعنوان “هذه هي الصحافة، عزيزتي”! استنادا إلى عبارة همفري بوجارت في “لتسقط الأقنعة”. نجد، بطبيعة الحال، “العلامة الإنتاجية” للكاتب وعالم الإشارات الإيطالي، فنجد بصمته المعتادة كالفكاهة والسخرية، والغمزات الذكية، والأقوال المأثورة الخفية والأمثال المدسوسة، ونجده يخوض حتى في ماركات السيارات، ولمسات اللغة الصحفية، وترتيب الأوسمة الشرفية، وتقارير التشريح. كأن أمبيرتو إيكو يصوغ إشارات إلى الأحداث الراهنة. وهناك أيضا المواضيع المحببة لدى إيكو، كترسيخ بنية الزائف، والمزج بين العادي وغير الطبيعي، والخيال والواقع، والتاريخ والمحاكاة الساخرة.
في الواقع، يمكن قراءة “العدد صفر” كرسالة عتاب أو كقصيدة هجاء لصحافة التضليل، هذا عن الصحافة المكتوبة، لكن يمكن إسقاطه بكل سهولة على مواقع الإعلام/أو التعتيم بالشبكة العنكبوتية.
سيماي يلقّن فريق التحرير أن «الصحافة ليست للنشر ولكن لتغطية الأخبار» وكان يعلّمهم كل تقنيات تعبئة وتكييف القارئ، كاستخدام المزدوجتين وعلامات الاقتباس الذي تحول إلى أمر واقع أي رأي تم استطلاعه من شاهد ما، حتى لو كان مبتكرا، والتذكير، عند وقوع كارثة ما، بكل الكوارث المماثلة، لتحريك العواطف، وتسليط الضوء على تفاصيل تلمّح مثلا إلى أن ذلك القاضي، المكلف بالتحقيق حول رجل سياسي مهم، قد تكون له حياة مزدوجة، إذا تمت مصادفته يتجول شاردا في حديقة، يدخن سيجارة بعصبية وهو يرتدي حذاء رياضيا خفيفا مع «جوارب زمردية أو خضراء فستقية»، فيركزون على ذلك لتكون صورته على الصفحة الأولى.
كما يلقن سيماي فريقه لعبة العناوين التي تلمّح دون أن تسيء إلى ذوي النفوذ، مثلا في حالة اشتباه حصول التجمع الديني الساليسي على أموال قذرة، يكتب بالعنوان الكبير “الساليسيون ضحايا الاحتيال؟”، كما يدربهم على المعالجة التصغيرية للأحداث مع كونها قد تكون جد خطيرة «إذا كان أحد يتحدث عن وفاة القاضي فالكوني، لا بد من الحديث عن المافيا، عن قصور قوات الأمن ونقصهم العددي، وأشياء من هذا القبيل. فنثمن ضرورة تدعيم الشرطة وتعزيز عناصر الدرك وكوزا نوسترا، لست أدري إن كان هذا سيروق للراعي”…” لندع التظلم، السخط والشجب لصحف اليسار، فهذا اختصاصهم».
لكن في خضمّ فرقة التحرير الفاشلة هذه، والتي ينبغي أن تجعل الناس يظنون بأن لديها ملفات عن الجميع، هناك براغادوسيو الذي يشتغل على ملف، قابل للانفجار «لديّ قنبلة، وهو ما يكفي لبيع مئة ألف نسخة من ‘دوماني’» لكنه لم يتحدث في الموضوع سوى مع كولونا.
وقائع مريبة
في ميلان بين أبريل ويونيو 1992، حين بدأت فضيحة الرشاوى “تانجونتوبولي” تتفجر وتجرف معها كل الطبقة السياسية الإيطالية. فساد اعتقالات، وقضايا بقيت غامضة. لكن براغادوسيو يعرف كل شيء، وبمنطقه المجنون -الشبيه بالجزم أنه لا وجود لطائرة ما في أيّ وقت مضى اصطدمت بالبرجين التوأمين في نيويورك- يقول بأن باستطاعته فك كل الألغاز وإعادة بناء كل التشابكات والمؤامرات التي ميّزت تاريخ إيطاليا ما بعد الحرب إلى بداية التسعينات.
لقد حصل من مصدر مريب لا يمكن البوح به على معلومات مفادها أنه في الواقع موسوليني لم يُقتل في أبريل 1945، وأن شخصا يشبهه قتل عوضا عنه، وأنه حظي بمساعدة قداسة البابا والحلفاء -الذين كانوا يخشون أن «يكشف أسرارا محرجة»- حيث احتمى في الفاتيكان ثم هرب إلى الأرجنتين. من ثمة استمر في سحب الخيوط لينسج من جديد الخطط الماكيافيليكية التي جعلت كل الذي كان غامضا وبعيدا عن التصور ممكنا: مؤامرات السي آي إي، التنظيم المسلح «stay behind» لشبكة ” غلاديو”، لمنع وصول الشيوعيين إلى السلطة، التمويهات التي تقوم بها أجهزة المخابرات، “استراتيجية التوتر”، الاتفاقيات بين المافيا والدولة، القنابل، الهجمات، القضاء على البابا يوحنا بولس الأول، «المقصورة ب 2»، محاولة الانقلاب التي أثارها اليمين المتطرف، محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني، اغتيال ألدو مورو، الألوية الحمراء.. وغيرها من الأحداث المريبة.
يعتقد كولونا أن زميله لديه الكثير من الخيال، ولكن التفسيرات «الرسمية» التي قُدّمت حول هذا الجزء من التاريخ الحديث لإيطاليا هي أيضا أغرب من الخيال، هي بين أقنعة الحقيقة، وحقيقة الأقنعة.
في النهاية يعثر حارس ليلي لدى عودته إلى المنزل على متن دراجة، على جثة براغادوسيو بالزقاق، الذي قتل في قضية مشبوهة. وتشرع الشرطة في التحقيق. يتسرّب القلق إلى فيميركات الذي يتصل بسيماي ليأمره بتوقيف الأعداد صفر، ودفع تعويضات نهاية الخدمة للمحررين «بالدولار، من المصرف السويسري». ولن يعود وجود لصحيفة اسمها “دوماني” بعد ذلك.
______
*العرب

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *