محمد عيد إبراهيم.. بين الترجمة والخيانة في العالم العربي




علي عبيدات*


خاص ( ثقافات )

محمد عيد إبراهيم، برز هذا الاسم في سبعينيات القرن الماضي كشاعر بالكاد شق طريقه أمام نخبة الشعر والأدب في مصر التي كانت وقتذاك تضج بالأسماء الكبيرة ولا يقف فيها إلا صاحب قدمين ثابتّتين، وفي كلية الصحافة والإعلام بجامعة القاهرة تجلّت قصيدته بين أقرانه وشهد لها أساتذة جيله، ليؤسس هو وبعض أبناء جيله جماعات شعرية صارخة، على غرار الأعلام المصريين الذين اشتهروا بالجماعات والسجالات الأدبية، فكانت جماعة “أصوات” وبعدها جماعة “الكتابة السوداء” وغيرها، وفي سلسلة “آفاق للترجمة” التي تتبع هيئة قصور الثقافة بالقاهرة أصدر محمد عيد 54 عملاً فكرياً بمعيّة النخب المصرية والعربية عندما كان مديراً للتحرير فيها.

وكذلك سلسلة نقوش للفن التشكيلي وإدارته لتحرير “مكتبة الدراسات الشعبية”، وعمله في المشروع القومي للترجمة، على هامش عمله في أكبر الصحف العربية ومشاركاته في المهرجانات العربية والدولية للشعر والترجمة، ولمحمد عيد 12 ديواناً شعرياً وأكثر من 54 عملاً مطبوعاً في الترجمة، بين الشعر والأدب الروائي والقصصي والنقد والمسرح وقصص الأطفال.

التقت ثقافات الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم، للحديث عن مشاكل وحال الترجمة في عالمنا العربي والإلمام ببعض من جوانب سيرته الإبداعية، وتالياً نص الحوار:


(1) كمترجم من جيل السبعينيات ترجمت أربعة وخمسين عملاً وأفنيت أجمل سني عمرك بين النصوص والثقافات المختلفة، هل نملك – كعرب – مشهداً صحياً للترجمة يفي باستيراد وتصدير المعارف والآداب والعلوم من وإلى العربية؟ وهل ثمة ترجمة أم ما زالت جهوداً فردية لمترجمين يعملون ضمن مشاريعهم الإبداعية الخاصة؟

لا يوجد أيّ نوع من التعاون بين المترجمين في الدول العربية سوى في بعض المراكز المؤسسية في بعض الدول التي لديها مشاريع ترجمة (مثل المركز القوميّ للترجمة في مصر، وسلسلة عالم المعرفة في الكويت، المنظمة العربية للترجمة في بيروت، ومشروع كلمة في أبوظبي، وغيرها)، ولهذا تشتمل حركة الترجمة العربية عن اللغات الأجنبية على قدر كبير من الفوضى والتخبّط، حيث لا نزال نرى على سبيل المثال كتباً تُترجم عدة مرات، حتى ليظن المرء أنه لا يوجد غيرها، إلخ. 

(2) تشير الإحصائيات التي تصدرها منظمة اليونسكو حول عدد الكتب المترجمة من أهم 20 لغة في العالم، وفي هذا التقرير نجد الترجمة العربية خجولة ومتواضعة مقارنة باللغات الأخرى، ومن هذا أن اللغة العربية تأتي في ترتيب متأخر ولم تتقدم إلا على ثلاث لغات “الهنغارية والبرتغالية والعبرية”. وغيرها من الأرقام والإحصائيات الصادمة، أين الخلل، ألا نملك مترجمين أم العيب في هيئات عليها أن تتبنى المترجمين وتدعمهم ليترجموا؟

أرى أن المشهد العام للترجمة في الوطن العربي حالياً تكتنفه عوامل تفكك وانهيار عامة، علاوة على العوامل الخاصة، فمعظم المترجمين أصحاب مشروعات محدودة يغيب عن معظمها التنسيق أو أي وجه من التعاون، كما أنه على الرغم من وجود عدد كبير من المترجمين فإنه لم يعد كافياً في ظل المتغيرات الحالية، وهم لا يغطون أيضاً مجالات الحياة المختلفة، فمترجمو العلوم الحديثة مثلاً أو الفلسفة لا يتعدون العشرات، بينما ينبغي أن نتوفّر على أضعافهم حتى نواكب المتغيرات الجديدة التي تحدث في العالم بين كل دقيقة وأخرى. 

ولا ننسى جهود الناشرين العرب، وهي مسألة خلافية لا يجب أن نخضع لها، حيث إنهم يقبلون بعض الكتب ولا يقبلون غيرها، مع أن ما يرفضونه قد يكون ذا فائدة عظمى، حيث لا يتقبلون تحمّل الخسارة من ترجمة بعض العلوم الحديثة التي ينبغي أن نعممها على أكبر عدد من القراء والدارسين، لتعمّ الفائدة. 

مشروع الترجمة العربيّ عموماً حتى الآن مشروع خصوصي إلى حد كبير، يخضع لأمزجة وأهواء المترجمين ومدركاتهم الجمالية للنصوص التي يقومون بالترجمة عنها. وفي ظني أنه لا بدّ من وجود هيئة عربية عليا للترجمة يتم استشارتها قبل الشروع في إصدار أية ترجمة، حتى لا يحدث تضارب بين النصوص التي تُترجم في عدة أماكن دون أن يعرف بعضها الآخر ويُفاجأ كلّ منها بوجود الآخر. 

مرة أبلغني مدير دار “ورد” السورية أنه بصدد ترجمة لرواية كونديرا “فالس الوداع”، فأخبرته أني قد ترجمتها من قبل وصدرت في دار الهلال بمصر ودار علاء الدين في سوريا، لكني بعد عام وجدته قد نشر ترجمته للرواية نفسها تحت عنوان “الترجمة العربية الأولى”، مما جعلني أفكّر: أما من هيئة عربية تسعى لتقليل حجم الفوضى في الترجمة، حتى نوفّر جهود المترجمين لنقل نصوص أخرى لم يعرفها العرب وتفيدهم فكرياً وإبداعياً وجمالياً؟ 

(3) أهم ما يتوارد إلى ذهن المتلقي وهو يسمع كلمة “مترجم” هي الخيانة وفق المثل الإيطالي “المترجم خائن”، أو أن يتداعى إلى الذهن سائق مركبة أجرة يحمل بضاعته وينقلها من مكان إلى مكان، فالمترجم ليس بريئاً من جهة ومن أخرى ليس خلاقاً، فهل هذا إجحاف في حقه أم أن الترجمة عمل أدبي ليس من الدرجة الأولى؟

ـ الترجمة فعل خيانة أصلاً وتذكّر ثانياً وتنوير ثالثاً. هي فعل خيانة لأن النص المترجم يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً عن النص الأصليّ. وهي فعل تذكّر لأن المترجم يفعل هذا مع نصّ جيد على الأقلّ فيحييه في مكان آخر ولغة أخرى ووسط بيئة اجتماعية أخرى. كما أنه فعل تنوير لأن النصّ المترجم في لغته وبيئته الجديدة يقوم بدور رائد في وعي من يقرؤه.

وأرى أن الترجمة هي عملية تأويل شخصيّ خاصة بكلّ مترجم، حيث تتعدّد قراءات النصّ الأصليّ بتعدّد ترجماته، لكنّ عملية التأويل هذه تحتاج لوعي كامل بنظريات الأدب واللغة من طرفيها الأصلية والمنقول إليها، مع الإلمام بأطراف المعرفة الموسوعية أو شبه الموسوعية على الأقل حتى يتمكن المترجم من الفهم الجيد للنص واستيعابه مع إضافة الهوامش المناسبة التي تُغني النص وتُثريه بالفعل. 

عملية الترجمة كما قلت هي نوع من التأويل لا أكثر، لكن عملية إزاحة النص من لغة إلى أخرى حسب السياق الثقافي والاجتماعي لا تُعدّ خيانة، بل على العكس هي محاولة للتنوير ودفع المجتمعات إلى الأمام عن طريق نشر المعرفة لأن المعرفة ينبغي أن تكون بلا حدود، وكما العلم بدون حدود ينبغي للترجمة أن تكون بدون حدود أيضاً. لا بدّ من تشجيع ترجمة الشعر بدفع مكافآت مجزية للمترجمين لأن كثيراً من دور النشر تنهب المترجمين وترى أنها تتفضل عليهم بالنشر بينما تضرب الصفح عن المكاسب التي تهلّ عليها من بيع هذه الكتب وتسويقها. 

(4) بعد عمر مع الشعر والنثر نلاحظ تناقضاً ما في اختيارات محمد عيد للنصوص التي يترجمها، فمثلاً، ترجمتَ رباعيات مولانا جلال الدين الروميّ تزامناً مع ترجمة ديوان (قصائد حبّ) للأميركية آن سكستون، والبون شاسع بينهما، فأنت تخاطب مشربين إبداعيين وذائقتين مختلفتين، هل كنت تتحدى وحدة التأمل في النصوص كمترجم وترجمت ضديّتين أم أن الترجمة لا تتقولب وبوسع المرء أن يترجم ما يريد في آن، واسمح لي أن أستحضر مقولة شعبية من عندكم تقول “الجمهور عايز كده”؟

ـ في رأيي أن ما يجعل الترجمة مختلفة من مترجم إلى آخر هو الجهد اللغوي الذي تتم به عملية الترجمة، فالسمات الأسلوبية هي الأساس الذي تختلف به أيّ ترجمة عن أخرى، حيث لكلّ مترجم أسلوب، وتظهر أهمية الترجمة وجمالها حين يحاول المترجم أن يلبس قفازاً حريرياً في ترجمته فيخفي سماته الأسلوبية لصالح السمات الأسلوبية الأخرى التي يراها لدى المؤلف الأصليّ. وهنا يمكنني أن أطلق على عملية الترجمة الناجحة “الخيانة الأمينة”، حيث ينبغي على المترجم أن يظلّ أميناً للنصّ الأصليّ محافظاً على روحه دون إهدار جماليات اللغة الأخرى المنقول إليها النصّ، وتصبح الترجمة عملية نقل من وسيط اجتماعيّ معين إلى وسيط اجتماعيّ آخر، وعليه فينبغي أن تخون النص لكن بأمانة. 

أما فيما يخصني فإني أعتمد على ذوقي الخاص ومعرفتي الواسعة بالأدب في اختيار النصوص التي أترجمها، ومقياس الترجمة عندي كالتالي: أدباء مشهورون أصحاب جوائز (مثل: توني موريسون، هاروكي موراكامي، مايكل كننجام، هارولد بنتر، ترانسترومر، د. هـ. لورنس، جيمس جويس، ميلان كونديرا)، أدباء لم يُترجم لهم من قبل (مثل: آن سكستون، الماركيز دو ساد، مرجريت أتوود، دون ديليلو)، تجارب روحانية كبرى (مثل: رباعيات مولانا جلال الدين الرومي، رواية بنت مولانا، شعر الهايكو ورحلة حجّ بوذية)، أدباء مهمّشون (مثل: أشعار الغجر، روايتان هنديتان، أدب كوريّ، أدب أفغانيّ)، أدباء طليعيون أو ما بعد حداثيين (مثل: ألن جنسبرج، بيير ريفردي، تيد هيوز، روبرت بلاي، أندريه بروتون، جورج باتاي، تشارلز سيميك)، وغير ذلك مما يعنّ لي أحياناً. 

في البداية، وقبل أن يتّسع الخرق على الراقع، كما قيل في المثل العربيّ، كنت أتوجه للترجمة على أنها ستُفيدني شعرياً، حيث طريقتي في الشعر غامضة نسبياً ولم يكن يستسيغها الكثير، فجرّبت أن أترجم نماذج إبداعية وتنظيرية تفيد في التعامل مع الغامض في الأدب عامةً والشعر خاصةً، حتى لا يدّعي أحد أن الشعر لا بدّ أن يكون واضحاً كالماء، لا عميقاً كالعدسة. 

(5) لم يتوقف الشعر في مسيرة محمد عيد الطويلة وتزامن الشعر مع الترجمة منذ أن أصدرت ديوان “طور الوحشة” عام 1980 حتى “خضراء الله” 2014، فهل أثرت الترجمة سيلك الشعري أم تبرأت من مخزون القصيدة المترجمة وكنت تكتب قصيدتك وحدك دون أدنى تأثير، فطول مخالطتك لعشرات الدواوين التي ترجمتها قادر على خلق شيء من التشويش بين هذه المشارب المختلفة، وأيهما أقرب إلى محمد عيد، المترجم أم الشاعر (إذا جاز الفصل)؟

ـ الشعر ذاكرة داخلية، والترجمة ذاكرة خارجية، ولا رابط بينهما إلا حامل المشعل، الذي يقوم بتوجيه النور إلى الداخل مرة، حسب ما يهبه الشعر لحظاته، وإلى الخارج مرة، حسب ما يريد ويرغب في ترجمة ما يريد أن يعربه ليصل إلى القارئ، أي قارئ، بروح أخرى تراعي الفروق بين المجتمعات لكأنه صار نصاً عربياً بعد الترجمة، لا نصاً مترجماً، وفي هذا يكمن نجاح أي نص مترجَم، عسى أن أكون اقتربت منه. أما شعري فهو طبعاً يؤثر ويتأثر بكل ما أترجمه، فحامل المشعل ذو هيكل إبداعي واحد، ولا ضير في ذلك، فأنا أكتب شعراً بلغة مركبة قليلاً ساهم في نشرها ما ترجمته من شعراء ذوي لغات مركبة أيضاً. أما اختلاف الأذواق كأن أترجم شعراً حسياً ومعه شعر صوفي، فكل منا يملك هذا التنوع، كل منا داخله العاهر والقديس، النار والنور، المرأة والرجل، بالحسّ اللغويّ أقصد، ولذلك لست غريباً في هذا، المهم أن تروا النص في النهاية له قيمة إبداعية أم لا. 

*شاعر ومترجم من الأردن.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *