بماذا يؤمن برتراند راسل


*لينا هويان الحسن

قراءة برتراند راسل تلهمنا في صراعنا ضد الفاشيات والعنصريات وضد الأفكار المتعصبة الجامدة، كما أن قراءته تحضنا على ان نملك الجرأة والشجاعة على التفكير الحر

«أنا أدين بساعات من السعادة لا تعد ولا تحصى لقراءتي أعمال راسل»، يقول ألبرت اينشتاين عن أثر هذا الفيلسوف الذي يتمتع بمكانة فريدة لا يضاهيه فيها أحد، باستثناء ديفيد هيوم ربما. أثَّر راسل في كامل التراث الفلسفي الذي أطلق عليه اسم «التيار التحليلي»، الذي ساد في انكلترا وأمريكا، مقابل الفلسفة التي سميت بفلسفة القارة التي سيطرت على اوروبا. هذا التقسيم لمفهومين مختلفين في الفلسفة بدا مع بدايات القرن العشرين ومازال سائدا حتى اليوم.
مجموعة من أهم مقالات ومحاضرات برتراند راسل ضمها كتاب قام بترجمته، د. عدي الزعبي، صدر حديثا عن دار ممدوح عدوان.
لماذا يجب أن نكتب عن راسل؟! لماذا علينا قراءته، خطوة جريئة لو قرر سكان هذه الأرض تعميم الفلسفة في المناهج الدراسية، كيف لا؟! ونحن نعيش في خضم ظروف استثنائية وحشــية نعيشها اليوم. نحن بأمسِّ الحاجة إلى فكر يلهــمنا في معاركــنا مع الفاشــيات. دفاع راسل الواضح عن حرية التعــبير للجــميع، ونقاشه العقلاني للدين، وعقلانيــته الفلســفية، ستتيح لنا أن نفكر بظــروفنا، وأن نســعى إلى غرس قيم العقلانية والتحرر والتسامح، مهما اشتدت الظلمات.
كان لراسل تأثير هائل في معظم مدارس التيار التحليلي، من الوضعية المنطقية إلى العقلانية النقدية لكارل بوبر، إلى فكر نعوم تشومسكي الفلسفي والسياسي، وانتهاءً بالتيارات الفوضوية اليسارية. كتب في المنطق والرياضيات وتاريخ الفلسفة وعلم اللغة والميتافيزيقيا وعلم العقل والأخلاق والسياسة وتاريخ العلم وغيرها.
سُجن لمعارضته دخول بريطــانيا في الحــرب العالمية الأولى، كما سجن مرة أخــرى في الستــينيات لمعارضته البرنامج النــووي البريطاني. قــاد إحــدى أكبر حملات معارضة حرب فيــتنام، وهي الحملة التــي انخرط فيها جان بول سارتر وتشومسكي الشاب من بعده.
الحرية أولا
كان رسل وريثا لليبرالية جده الروحي وصديق والده، جون ستيوارت مل، دافع طيلة حياته عن حرية التعبير بغض النظر عن القوة القامعة. كان يخشى ان تقمع الحريات الفردية باسم الديمقراطية. أصر راسل أن حرية الفرد مقدسة. لم ير راسل في انتشار القوميات والحكمة الجمعية السبيل لتحقيق الحرية، لذا كان معارضاً لحملات التخوين التي تتم باسم روابط جمعية مختلفة من الدين إلى القومية إلى الاشتراكية.
انتقد راسل قمع البلاشفة للمؤمنين، كما انتقد قمع المتدينين للملحدين. موقفه من الدين ينبع من التزام مبدئي بحرية التعبير والايمان.
موقفه الشخصي من الدين يتوزع على نقطتين: قراءة عقلانية للدين، وقراءة للنتائج العملية للايمان الديني. القراءة العقلانية تجعل راسل يصر على اللاأدرية في ما يتعلق بوجود الله أو الآلهــة بالمجــمل. راســل يدافــع بشدة عن حق الجميع من ملحدين ومؤمنين في التعبير عن آرائهم. ويرفض كل أشكال قمع حرية التعبير.
موقفه الشخصي من الدين أنه ايمان لا عقلاني، ولكنه ليس بملحد طالما أن الالحاد كالايمان لا يستند إلى أي دليل عقلاني. دافع عن العقلانية طيلة حياته، ورفض الايمان بأية قضية أو رأي لا تدعمهما الأدلة بشكل عقلاني واضح. وبنفس الوقت يرى راسل ان للعقل حدوداً وأن الموقف العقلاني يقتضي بأن نسلم بأن فهمنا للعالم محدود بحدود العقل.
نحن لا نكوّن رأياً جيداً عن البشر، إلا عندما نفكر بشكل مجرد على أرض الواقع، يعتقد معظمنا أن الغالبية العظمى من البشرية سيئة للغاية. تنفق الدول المتحضرة أكثر من نصف دخلها على قتل الدول المتحضرة الأخرى. فلنفكر بالتاريخ الطويل من الممارسات التي ألهمتها الحماسة الأخلاقية: التضحية بالبشر، وشتى الاضطهادات.
الاتهام بالهرطقة، البرامج التي تؤدي إلى الإبادة الكاملة بالغازات السامة.
راسل يفضل البوذية لأنها الديانة التي مارست أقل اضطهاد ممكن مقارنة بالديانات الأخرى.
حول الشجاعة
الشجاعة في القتال ليست الشكل الوحيد للشجاعة، وربما ليس الأهم. هنالك الشجاعة في مواجهة الفقر، الشجاعة في مواجهة السخرية، الشجاعة في مواجهة عداء الجمهور الذي ينتمي إليه المرء. في هذه الحالات، غالبا ما يفشل أشجع الجنود بشكل مؤسف. وفوق كل شيء هنالك الشجاعة في التفكير بشكل عقلاني، وهادئ في مواجهة الخوف، وفي التحكم بدوافع الخوف المستعر والغضب المستعر. تساعد التربية بالتأكيد على امتلاك هذه المزايا. ويصبح تعليم كل اشكال الشجاعة اسهل بوجود الصحة الجيدة، الجسم الصحيح، التغذية الملائمة، والانطلاق الحر للدوافع الحيوية الأساسية. إن الشجاعة التي يتم حث الطبقات الفقيرة من المجتمع عليها هي شجاعة بناءً على الأوامر، وليست من ذلك النوع الذي يتضمن المبادرة والقيادة. عندما تصبح المزايا التي تمنح القيادة متوفرة للجميع، لن تجد قادةً وأتباعاً، وسنصل إلى الديمقراطية أخيرا.
مقالات للجميع
تتوزع المقالات في هذا الكتاب على أربعة أقسام، تتداخل وتتقاطع بشكل كبير.
القسم الأول يحتوي على كتيب راسل الصغير «ما الذي أؤمن به؟»، والذي يشرح فيه رؤيته الفلسفية للأخلاق والانــسان والطبــيعة بطريقــة مبسطة وأخاذة.
القسم الثاني مخصص لمقالات الدين، ويحتوي على ست مقالات: «لماذا لست مسيحيا؟»، «هل قدّم الدين مساهمات مفيدة للحضارة؟»، «من هو اللاأدري؟»، «هل ننجو من الموت؟»، «ايمان العقلاني»، والمقال الأدبي «عبادة الانسان الحر».
القسم الثالث مخصص لقضايا الحرية، يحتوي على مقالين اثنين: «التفكير الحر والبروباغندا الرسمية»، «الحرية والجامعات».
القسم الرابع والأخير يضم مقالين ساخرين لراسل: «الناس الطيبون» و «كيف تصبح عبقريا؟».
لا شك أن قارئ هذا النص سيستمتع بإسلوب راسل الأدبي وبنفس الوقت، المحمل بالفلسفة والافكار العظيمة.
مقالاته هنا مقالات شعبية مكتوبة لغير المختصين، أراد دائما مخاطبة جميع الناس والشرائح، أراد أن يتكلم بلغة يفهمها الجميع. فقد ظل ملتزما طيلة حياته بالعمل على تغيير العالم الذي يعيش فيه، وعلى مخاطبة الجمهور بأسلوب عقــلاني واضــح. هذه إحدى الفضــائل الفكرية للفلسفة: الشرح والتوضيح والتبسيط، وفتح المجال للجميع كي يشاركوا في عملية تغيير العالم.
قراءة تحضنا على التفكير بعقلانية فيما يعترضنا من صعوبات، وأن نتبنى تلك العبارة التي يقر راسل بأهميتها: «الحياة الجيدة هي تلك التي يلهمها الحب وتقودها المعرفة».
________
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *