*أمين صالح
روبرت دي نيرو ممثل خلّاق، متجدّد، متنوع، متعدّد الوجوه والأشكال. منذ أن انبثق في السبعينيات كممثل استثنائي، وهو يحفر في ذاكرة المشاهد سلسلة متوالية، بارزة ولافتة، من الشخصيات التي لا تتماثل إنما تختلف وتتعارض. مع كل فيلم جديد يبدو مختلفاً عن الذي سبقه على نحو أخاذ ومدهش. يبدو أشبه بالحرباء. شخصيات ثرية، متنوعة، مركّبة، متعددة الأبعاد، تتأرجح بين الرقة والعنف، الحساسية والفظاظة، الوداعة والقسوة، الهدوء والتوتر، الصفاء والغموض. شخصيات ذات أعماق مضطربة مبهمة، وشخصيات مباشرة أقل تعقيداً، تلك التي تجوب عالم التراجيديا تارةً وعالم الكوميديا الخفيفة تارةً. شخصيات مؤثرة ومحركة للمشاعر، وفي الوقت ذاته، موشومة بحس الدعابة والجاذبية.
في تجسيده للشخصية، نجد ذلك النسيج المتشابك من الحركات المتميزة الأسلوب، الإيماءات التي تبدو عفوية، لكنها مدروسة بعناية فائقة، الطبقات الصوتية المتناغمة والمتغيرة بدقة وبراعة، التكيّف البصري، المهارة التقنية العالية، الاتصال بالمواد والأشياء بحساسية بالغة، القدرة الفذّة على توصيل العواطف والمشاعر والانفعالات والنوبات، إضافة إلى الأمزجة المعقدة والمتطرفة، قابلية التحول بمرونة ورشاقة من حالة إلى أخرى مناقضة في المشهد الواحد.. كل هذه العناصر والمظاهر تجتمع معاً عن طريق بحوث شاقة وشاملة يقوم بها دي نيرو مستقصياً خلفية الشخصية، جذورها الاجتماعية والثقافية، بيئتها وتجاربها وسلوكها اليومي.. وهو يتحكم في هذه العناصر بوساطة حضور سينمائي خالص وقوي. كل هذا ساهم في تشكيله كواحد من أعظم ممثلي السينما الأميركية المعاصرة، وأكثرهم إثارة للاهتمام وتميّزاً في أداء الأدوار الصعبة، الأكثر تحدياً.
بحثاً عمّا يدوم
يقول دي نيرو: «بعض نجوم سينما الأمس كانوا رائعين حقاً، لكنهم كانوا يضفون خاصية رومانتيكية على شخصياتهم. ما أحاول أن أفعله هو جعل الأشياء تبدو واضحة، رائقة، حقيقية، وجديرة بالتصديق. أحب أن أنجز الأشياء التي سوف تدوم لأنها تمتلك جوهراً وخاصيةً وليس أسلوباً أو إثارة عاطفية. بمعنى آخر، يتعين عليك أن تؤمن بما تراه على الشاشة. ليس حسناً أو مجدياً النظر إلى ممثل في حلبة الملاكمة وأنت تعرف جيداً أنه يمثّل. يجب أن يغيب الممثل كي تصدّق بأنك ترى ملاكماً. الممثل يشبه الموسيقار.. بدلاً من العزف على الآلة، فإنه يعزف على الجسد. إذا كان العازف يستخرج أنغامه بوساطة الآلة، فعلى الممثّل أن يستخرج أنغامه بوساطة الجسد».
أن تشاهد أداء دي نيرو يعني أن ترى ممثلاً يفرض سلطته وسيطرته على مهنته (التمثيل) من أجل تخطي حدود المهنة في بحث دؤوب عن الكمال. إنه يطمس ذاته الحقيقية ليبعث ويكشف كائناً آخر. يتمدّد متجاوزاً معضلات المحاكاة أو القولبة. يحلّل الشخصية التي ينوي أن يمثّلها تمهيداً للغوص في داخلها، للإقامة فيها وامتلاكها، لانتحال صفاتها وخاصياتها وتصرفاتها، وهو لا يبحث إلا عن الشخصيات المعقّدة، المشوّشة، المضطربة بشكل أو بآخر.
قلة من الممثلين لديهم الاستعداد والقابلية – عبر التفاني والتكريس والاعتناء – على تجاوز الذات وبذل الجهود الشاقة والمضنية، مثلما يفعل دي نيرو، في سبيل الاقتراب الجسماني والذهني من أية شخصية يؤديها. من أجل تقمص شخصية ما، يضحي بمظهره الخارجي ويخضع نفسه للتحوّل الكلي.
هذه القدرة المذهلة على التحوّل هي التي ساعدت دي نيرو على الانتقال برشاقة وبراعة بين مختلف الشخصيات المتعارضة والمتناقضة. إنه يتحرك في مدى شاسع لا يُحد. كل دور يؤديه يمتلك سحره الخاص وجاذبيته الآسرة. والمصداقية خاصية مقترنة بالأداء دائماً. أدواره تعبّر عن الوضع المعاش. عند بروزه في السبعينيات، جسّد هواجس المجتمع الأميركي من خلال شخصيات معذّبة، مضطربة، منبوذة، تختبر إلى حد الإفراط تجربة الحرب، المخدرات، العنف، الإجرام.
من ناحية الأسلوب، كان يمثّل نوعاً جديداً ومختلفاً من الممثلين. نتيجة فهمه ووعيه بتوجهات السينما الحديثة، فقد أقصى تقنيات التمثيل المسرحي، واهتم بخلق علاقة جديدة مع الجمهور.
معايشة الشخصية
البحث والاستقصاء والمعايشة من السمات التي ميّزت منهج دي نيرو في تجسيد الشخصيات. في هذا الصدد يقول: «على الممثلين أن يعرّضوا أنفسهم لما يحيط بهم، أن يخلقوا نوعاً من الاتصال بالمحيط، ويدعوا أذهانهم مفتوحة لتلَقّي كل ما يحدث في هذا المحيط. عاجلاً أو آجلاً سوف تنسلّ فكرة ما إلى عقلك.. شعور، مفتاح، أو ربما حادثة. هذه الأمور ستفيد الممثل في ما بعد، ويستطيع أن يربطها بالمشهد عند التنفيذ».
مع أن دي نيرو بلغ أعلى مراتب النجومية، إلا أنه لم يتصرف على هذا الأساس. إنه «النجم» الذي يتجنب دور «النجم». بالأحرى، هو لا يعتبر نفسه نجماً بل ممثلاً، كما لو إنه صار مشهوراً رغماً عنه ومن دون أن يسعى إلى ذلك. يقول: «لا أريد أن أكون نجماً بالمعنى التقليدي الشائع وبالمفهوم الهوليوودي. النجومية تعني موت الممثل. إن أجواء الشهرة والثروة يمكن أن تجعلك تفقد الإحساس بالسبب الذي من أجله أنت تمثل».
يقول عنه المخرج ألان باركر، الذي عمل معه في فيلم «قلب أنجل»: «إنه هادئ، موسوس، جذاب وسخي. وهو قادر أن يحتوينا جميعاً تحت سيطرته. حين يدخل موقع التصوير، تستطيع أن تشعر بقوة حضوره وهيمنته، لكنه لا يتصرف أبداً كنجم، بل بوصفه ممثلاً. وعندما يمثل فإن تركيزه المحض يتخلل الموقع كله».
بين النجم والممثل، في حالة دي نيرو، ثمة دائماً شد وتوتر. النجومية تأتيه، تحاول انتزاعه لكنه يقاوم البريق بالغوص عميقاً داخل الشخصية، بالتحرك في دائرة الممثل، لذلك لا يجد غضاضة في قبول أدوار ثانوية، ولا يصرّ – كما يفعل النجم التقليدي عادةً – على كتابة اسمه قبل الآخرين المشاركين في الفيلم.. وبتواضعه المعهود يعلّق قائلاً: «ما أنا إلا مجرد رجل بسيط يؤدي عمله بإخلاص وأمانة.. أو ربما أنا مجرد شخص معقّد يؤدي مهمة معقدة».
إن انغمار دي نيرو في أدواره، واختباءه خلف الشخصيات العديدة التي يمثّلها، إضافة إلى طبيعته الانطوائية والسرّية، وابتعاده عن وسائل الدعاية، ورفضه للمقابلات والمؤتمرات الصحفية.. كل هذا جعلت منه – عبر سنوات طويلة – شخصاً غامضاً لا يمكن اختراقه، ولغزاً يصعب تفسيره.
في الظل
دي نيرو، بخلاف نجوم السينما، لم يكن يلهث خلف الأضواء، ولم يحط نفسه بهالة من الدعاية والإعلان، أو يخلق من حوله الأساطير. كان ينأى بنفسه عن كل ذلك كما لو يتجنب وباءً. لم يهتم على الإطلاق بإشباع فضول جمهوره، أو يكترث باتصالات الصحفيين اللحوحة. كان ينزوي في عزلته، أو – حين يؤدي دوراً – يختبئ داخل الشخصية، محافظاً على سمة «المجهولية» بانتحال مظهر مختلف، تساعده في ذلك قدرته غير العادية على التحوّل.
يقال إنه في حياته العادية شخص خجول، انطوائي، غامض، مراوغ، كتوم، هادئ، قليل الكلام، لا يحب أن يتحدث كثيراً عن أعماله وأدواره.. «أشعر بالتوتر حين أكتشف أن شخصاً ما ينظر إليّ».
أما الجانب الآخر من شخصيته، فيعلن عنه أحد أصدقائه: «إنه مهرج. وهو لا يمارس تهريجه ولهوه ومزاحه إلا مع أصدقائه المقربين. لكنك تستطيع بسهولة أن تكتشف حس الدعابة لديه حتى في أكثر أدواره صعوبةً وتعقيداً».
القلة من ممثلي السينما الأميركية المعاصرة يتعاملون مع أدوارهم على نحو استحواذي إلى حد الاستغراق المتطرف، لكن بالتأكيد لا أحد يخضع نفسه للتحوّل، كما الحرباء، مثلما يفعل دي نيرو. إنه يسكن الشخصية كلياً إلى الدرجة التي يختفي فيها الممثل، ويصبح خفياً ولامرئياً، تاركاً للشخصية حرية احتلاله وامتلاكه «ما إن تدخل، حتى يختفي العالم كله». يصير هو الشخصية التي يؤديها منتحلاً بذلك كل خواصها وطبائعها وتصرفاتها ولغتها وحركاتها، سواء أكانت الشخصية واقعية أم متخيلة. إنه يكرّس كل وقته – قبل التصوير – لتحليل الشخصية ودراسة واستيعاب كل ما يتصل بها: الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، المهن، الأدوات، اللهجات والنبرات، المواقع، الملابس، كل التفاصيل، حتى الصغيرة والتي تبدو غير ذات أهمية، تخضع للفحص والمعاينة. ولكي يحقق التطابق أو التماثل مع الشخصية بدقة وإقناع فإنه لا يحجم عن تغيير مظهره عن طريق زيادة الوزن أو تخفيفه، حلاقة الشعر أو تصفيفه بطرق معينة، تعلّم العزف على الآلات الموسيقية بشكل استحواذي، ممارسة ألعاب رياضية كالبيسبول والملاكمة.. وفي سبيل ذلك لا يكترث إن بدا قبيحاً أو بديناً أو منفراً.. يقول: «أشعر بضرورة أن أكون جديراً بالدور. يتعيّن عليّ أن أكتشف جوهر وطبيعة الشخصية التي أنوي أن أمثّلها. إذا ضاعفت وزنك، على سبيل المثال، فإن ذلك يرغمك على أن تتحرك جسمانياً بطريقة معينة. نحن جميعاً مخلوقات تحكمنا العادة، كما هي الطريقة التي تمسك بها السيجارة أو طريقتك في المشي. إنني أتبنى السمات والخاصيات التي أعتقد بأنها موجودة في الشخصية».
دي نيرو كان يحسن انتقاء الأدوار والأفلام التي يشارك فيها، يتأنى كثيراً قبل موافقته على تأدية الدور، لكن الملاحظ أنه منذ أواخر الثمانينيات بدأ يتخلى عن هذا الحرص والاعتناء والتدقيق في الاختيار. صارت أدواره محمومة، قلقة، متفاوتة المستوى والأهمية. صار أقل رغبةً في انتقاء الأدوار. هكذا شاهدناه في أدوار عادية، في أفلام لا تليق باسمه وسمعته.. وهو يبرّر ذلك بقوله: «لقد بلغت مرحلة في حياتي صرت أرغب فعلاً في أن أعمل كثيراً وباستمرار».
______
*الاتحاد الثقافي