عبد السلام بنعبد العالي
يُذكَر المفكّرون بما خلّفوه من “آثار” traces. لست أعني أساساً مآثرهم وأعمالهم œuvres والمؤلفات التي حفظها لهم التاريخ، وإنما المعالم التي رسموها، والقطائع التي خلفوها، والانفصالات التي أقاموها، والشروخ التي أحدثوها في تاريخ الفكر. كلما شكّل المفكر لحظة انعراج، ازدادت أعماله قيمة في الميدان الذي اقتحمه. من هنا الأهمية الكبرى التي تتخذها القيمة المنهجية لعمل المفكر، تلك القيمة التي تجعل الفكر ما بعده مخالفاً لما تقدّمه منفصلاً عنه.
من هذه الوجهة نريد أن ننظر هذه المرّة إلى أعمال المرحوم محمد عابد الجابري لنتساءل عمّا كان لتلك الأعمال من دور في الفكر العربي المعاصر، وما قد تكون رسمته على ذلك الفكر من قطائع، وما أفادته به من الوجهة الإبيستمولوجية.
لا نقصد هنا مطلقاً التذكير بما سمّاه هو “دروساً في الإبيستمولوجية”، كما أننا لا نعني مجرد التساؤل عن الدور المنهجي الذي كان لتدخلاته في الجدال الفكري الحادّ الذي طبع العقود الأخيرة من القرن الماضي، وإنما نهدف أبعد من ذلك إلى تحديد مدى انفصاله عن النظرة التي نظر من خلالها، حتى وقته، لتاريخ الفكر العربي الإسلامي.
لا ينبغي أن نفهم من ذلك مجرد عودة إلى ما سبق أن قاله لتلخيص مجمل المواقف التي اتخذها، والإشكاليات التي بلورها، والأفكار التي توصّل إليها، وإنما أيضاً، وربما أساساً، محاولة رصد القضايا التي امتنع عن الخوض فيها، والموضوعات التي تجنّب طرقها، والمفهومات التي تحاشى استعمالها.
هاهنا تواجهنا حزمة من المفهومات التي كان يُرّوج لها بعض الذين حاولوا تطبيق المنهج المادي الجدلي على دراسة الفكر العربي الإسلامي، والتي بذل المرحوم كلّ جهوده لمقاومة ترويجها وتوظيفها واعتمادها أسلوباً في الدراسة. ولعل أهم تلك المفهومات، مفهوم الانعكاس، أو الوعي الانعكاسي la conscience reflet.
مازالت تعلق بأذهاننا الانتقادات التي كان المرحوم يوجهها لأولئك الذين كان يأخذ عليهم سعيهم إلى نقل ما دعاه “ماركسية مطبقة” لإسقاطها على الفكر العربي. ولعل ذلك ما سمح له أن يهتم، لا بما كان يسمّى بنية تحتية غالباً ما كانت تكتفي برسم خطاطة مبتسرة، بل مشوَّهة للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات العربية، وإنما بحصر دراساته في المنتوج الفكري، وجعلها تنصبّ أساساً على التراث العربي الإسلامي، بهدف تملكه والحفر في أساسياته.
هذا الحفر في الأساسيات جعل الجابري يحاول أن ينفلت لا من قبضة ماركس وحده، بل حتى من “قبضة” هيجل، والخروج عن “الزمانية الهيجلية” واعتناق المنهج الجنيالوجي. من هنا انفتاح صاحب “تكوين العقل العربي” على المفهوم الأركيولوجي عن تاريخ الأفكار، وجعل مشروعه في “نقد العقل العربي” يضم شقين: شقاً ساكرونياً وآخر دياكرونياً، أو كما كتب هو، شقا بنيوياً وآخر تكوينياً. هاهنا سعى صاحب “نقد العقل العربي” لا أن يكون مشروعه تأريخاً للعقل كمنتوج، كأفكار وكمعرفة، وإنما محاولة لإقامة أساسيات المعرفة العربية، ومتابعة الكيفية التي ترسّخت عن طريقها “أصول الفكر العربي”، أي ما يدعوه “طرقاً في العمل والإنتاج، وأساليب في الإقناع، ومقاييس للقبول والرفض”.
من هنا ذلك التوظيف الذي يبدو جديداً، ليس عند الجابري وحده، وإنما في الفكر العربي المعاصر بإطلاق، وأعني ذاك الذي وظف به الجابري مفهوم “الأصل”، لا من حيث هو بداية زمنية، وإنما من حيث هو ما يعطي للبداية معناها كأصل. ويكفي أن نذكر هنا ما قاله عن العصر الجاهلي حينما أكّد أنّ بنية العقل العربي تشكّلت في ترابط لا مع العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد البعثة: العصر الجاهلي بوصفه زمناً ثقافياً تمّت استعادته وتمّ ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين الذي يفرض نفسه تاريخياً كإطار مرجعي لما قبله وما بعده.
لعل هذا التّوظيف الجديد للمفهوم الجنيالوجي للأصل هو الذي سمح لصاحب “نقد العقل العربي” أن يعيد النظر في جدلية “الأنا والآخر”، وفي مفهومي الدخيل والأصيل، وذلك عندما اعتبر ما كان يسمّى موروثاً قديماً، “أي ذلك الخليط من العقائد والديانات والفلسفات والعلوم التي انتقلت إلى الدائرة العربية الإسلامية عبر الفتوحات”، اعتبره جزءاً لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية، الأمر الذي جعله ينظر إلى ما يسمّيه “العقل المستقيل”، ليس كمؤثر خارجي، أو كمعين أدخله إلى الثقافة العربية أولئك الذين أرادوا القيام “ضد تزمت الفقهاء وجفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين”، وإنما من حيث هو أصل من أصول الثقافة العربية ظهر، كما يؤكد المرحوم، “قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء ونظريات المتكلمين إلى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل”.
هذا الهروب من كلّ نزعة ماركسية مبتذلة، وتلك المحاولة لإقامة “أساسيات المعرفة العربية”، وهذا المفهوم المغاير لجدلية “الأنا والآخر”، وذاك المفهوم المجدّد عن الزمان التاريخي، كلّ ذلك يجعلنا نشعر أننا أمام محاولة لإحداث انفصال في الفكر العربي، والخروج بالدراسات العربية الإسلامية من أسر المناهج التقليدية، بل ومحاولة النظر إليها بمنظور جديد يطرح مسألة التراث بعيداً عن الزمانية التقليدية والتأريخ الكرونولوجي. فهل يتعلق الأمر فعلاً بانعراج؟ وهل تمكّن المرحوم من الانفلات الفعلي من “القبضة الهيجلية” بكلّ تنويعاتها عند اقتحامه مشروعه الضخم في نقد العقل العربي؟ وهل سمحت له رؤيته الفلسفية بما تتطلبه من مفهومات مستجدة تتخلص من كلّ رؤية تطابقية لتاريخ الأفكار، هل سمحت له بذلك الانفلات؟
ينبغي ألّا ننسى أنّ محاولة “الانفلات من القبضة الهيجلية”، على حد تعبير جان هيبوليت، كلفت الفكر المعاصر، لا الانسلاخ عن مفهوم معين عن التاريخ فحسب، ولا التحرّر من فلسفات الكوجيطو في جميع أشكالها فقط، وإنما أساساً التخلص من كلّ رؤية تطابقية identitaire إلى التاريخ وإلى الذات والآخر. وربما كان هذا بالضبط ما يجعل الجواب عن كلّ هذه الأسئلة التي طرحناها بعيداً عن الإثبات.
ولكن إن نحن تذكرنا كلّ محاولات “الانفلات من القبضة الهيجلية” التي عرفها الفكر المعاصر، غربيِّه وعربيِّه، وما تمخّض عنها سلباً وإيجاباً، فربما يكفينا أن نسجل هنا أنّ مجرد المحاولة هذه كانت في حدّ ذاتها تجديداً فكرياً، بل وتدشيناً لتحديث الفكر العربي-الإسلامي.
______
*مؤمنون بلا حدود