إلى محمّد الماغوط: من يمنحنا غباء الإوزّة وأرجل العنكبوت؟


*منصف الوهايبي


أحببت كتّابا وشعراء غير قليلين، بيني وبين أكثرهم حُجُبٌ من الزمان والمكان؛ غير أنّي تنقّلت معهم، عبر مختلف الأزمنة والأمكنة، وتعلّمت منهم كيف أنسج شوابك القرابة بيني وبين الأشياء. 
تعلّمت كيف أنزلق بين العشب والحجر.. كيف أطارد الشمس في الظلّ المضطرم.. كيف أتدحرج، كما يقول نيتشه، تدحرج البرميل المستدير حول نفسي؛ على نحو ما يفعل أكثر شعراء اليوم؛ فأحتمل ضراوة الشمس، من دون أن أشتعل أو أحترق.. تعلّمت ألاّ أطرح كلمة فارغة على الطريق؛ حتّى لا يزلّ طفل أو امرأة. أعرف ليس ثمّة كلمة تضيع أبدا، فقد تسبت سبات الحيوان والأشجار، ولكنّها تستيقظ، وتفتّح عينيها، وتظلّ تدور وتدور؛ حتى تهتدي إلى بيتك، ولو في عزّ الليل، وتفسد عليك نومك. تعلّمت من هؤلاء الكتّاب والشعراء، ومعهم كيف ألمح الأبديّة، من ثنايا الزمن، ترمقني بعين أنثى الصقور أو ذكرها [الحِرّ]، وأسمع صوتي في بابل الفوضى. وليس ثمّة من زمن لا فوضى فيه، فعندما كان المتنبّي يبني بطريقته، سلطة الشاعر؛ كان ابن سكّرة يتمرّغ في حماقاته، وكان ابن حجّاج يتبرّز سخافاته.
من هؤلاء الشعراء الذين أحببت نصوصهم، محمّد الماغوط، وهو أحد الشعراء الشاميّين الثلاثة المعاصرين الذين شغلوا جيلنا؛ والآخران هما نزار قبّاني وأدونيس. وكلاهما صورة أخرى للمذهب الشامي القديم في الشعر. ولك أن تقرن نزار بالبحتري [الوليد بن عبادة]، في سلاسته ولغته المأنوسة؛ أو «عبث الوليد» كما وسم أبوالعلاء شرحه لديوانه، شريطة أن نستصفي كلمة «عبث» من كلّ ما ينتقّصها ويرخص قدرها، أي من الدلالة السلبيّة التي تحفّها، وأن نحمل الكلمة على معنى من معاني إنشائيّة اللعب، بالمعنى النبيل للكلمة. ذلك أنّ العبث لغة هو ما لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، أو هو بِلا مَعْنىً ، أو هدْر الوقت وتزجيته. ولك أن تقرن أدونيس بأبي تمّام في تخريج المعنى، وبُعْد المأتى، والاستهانة المحمودة بأوضاع اللغة وأنساقها. وأمّا الماغوط فليس له من قرين، خاصّة في سخريته وقدرته على أسلوب المفارقة، إلاّ المعرّي؛ إذا نحن سوّغنا الرأي القائل بأنّ أبا العلاء من كبار شعراء العالم وكتّابه الساخرين. ولكنّ معجم الماغوط محدود مقارنة بالمعرّي، ومداره على بضع مئات من الكلمات لا غير. لم ألتق بالماغوط لا في الشام ولا خارجها. وقد زرت دمشق أكثر من مرّة، ولكنّها وهي مدن في مدينة، شغلتني عن الشعر والشعراء. وما عندي عن الماغوط، قليل شحيح، لا يكفي حتى لتلفيق سيرة له، فما بالك بتكوين صورة له، وافية. إنّما هي معلومات قليلة سمعتها من هنا وهناك، مختلِفة، ولعلّها مختلَقة يوشّيها الظنّ والوهم. على أنّني أعرف الماغوط من شعره ونثره. والحقّ أنّ التمييز بينهما لا يستقيم، فالماغوط شاعر في نثره، ناثر في شعره. وقد درّست بعض أدبه في الجامعة، في التسعينيات، وخلصت إلى أنّ شعريّة نصّه، مأتاها لعبة «الضديد» (الأوكسيمور)، والمفارقة حيث الكلمات تبتني لنفسها حضورا لغويّا كليّا وزمنا خاصّا يندّ عن أيّ ضبط وقياس. ويتأدّى في سياقها الرّمز الشّعريّ، هو يحيل على شيء آخر، ويحجب في ذاته الآن على ما يحيل عليه. وهو بذلك إنّما يتمثّل أبدا دلالته الخاصّة. أمّا الدّلالة الخارجيّة التي يحيل عليها الرّمز فهي حاضرة في الرّمز نفسه. وأقدّر أيضا أنّ الجمع بين «نوافر الأضداد» بعبارة أبي تمّام أو «الضديد» هو مزيّة هذا الشعر ومن أخصّ خصائصه. وهو جمع محوره كلمات متناقضة متعارضة يدفع بعضها بعضا في الظّاهر. ولكنّ الشّاعر يدمجها على تعارضها الصّارخ في كيان واحد، فتبدو الصّورة مزيجا لغويّا تنصهر فيه المتناقضات على نحو غير مألوف، وتنعقد غرابة مرسلة قد يصعب إدراكها. وسواء استرسل القارئ إلى هذا الغريب النّاشئ في حيّز «الضّديد» أو لم يسترسل، فإنّه لا يمكن إلاّ أن يثير استغرابه الجماليّ، ويذكي الرّغبة في تعرّفه. وربّما تسنّى له في عمل تحليليّ أن يرى جانبا من القرابة المعقودة بين الكلمات المتعارضة، وأن يحوز فضل معنى أو دلالة؛ بيد أنّ جوانب غير قليلة في الصّورة «الضّديدة» تظلّ تغالبه محتفظة بسرّها؛ بما يسوق إلى ضرورة التّمييز بين إدراك يتوافق والغرابة التي يمكن أن تقهر، وتجربة جماليّة تتوافق والغرابة التي تبقى كما هي قارّة في ذاتها.
كان الماغوط قد انقطع عن كتابة الشعر، قبل وفاته بسنوات. ولعلّ ذلك ممّا يُحمد له؛ وبعض الشعراء يسيئون إلى تجاربهم، عندما يُصرّون إصرارا عجيبا، على مواصلة الكتابة؛ فيما هم لا يفعلون أكثر من استنساخ نصوصهم وإعادة إنتاجها. لماذا هذه العودة إلى الماغوط إذن؟ جوابي أنّ الماغوط هو كاتب هذه المرحلة التي تكاد تشارف العدميّة في تاريخ العرب المعاصر؛ وكأنّنا ندخل الجحيم أفواجًا.. أفواجًا، حيث تطالعنا العبارة التي قرأها دانتي، على بابه: «أيّها الداخلون، اطرحوا عنكم كلّ رجاء»، فيما أكثر كتّابنا يعيش في كنف السلطة السياسيّة، ويستذري بظلّها؛ حتى تدنّت مكانة الكاتب، وهان على الناس، وتضاءل في عيونهم، وفتر اهتمامهم به، وبإنتاجه، وترسّخ لديهم أنّ الكاتب قرين الولاء وصنو الخضوع. وقد تحوّلت الكتابة عند طائفة من كتّابنا إلى ذريعة من ذرائع السياسة بمفهومها الحزبي الضيّق، حتى قلّ بينهم من يُؤثِر الكتابة على المجد العابر، وعلى خذلان حقّه وحقّ الآخرين في التعبير. وربّما ترسّخ لدينا أنّ الكاتب الحقيقي بلا أنساب ولا أسباط. وعلوّ صوت السياسي عندنا هو في جانب منه، من خفوت صوت الكاتب. ونحن نتوقّع عادة من الكاتب أن يراهن على الحريّة، وتخليص نصّه من الوضعيّة الأداتيّة، فلا يكون وسيلة لغيره. وحرّيته أن يكون وحده دون سواه مصدر قيمته. 
وأقدّر أنّ الماغوط، لأسباب عامّة وخاصّة، لم يستطع أن يبني «سلطة الكاتب»، وهو يلجأ في أكثر نصوصه؛ إلى المواربة والمداراة والتعميم، ليفلت من الرقابة؛ في جحيم نظام مثل النظام السوري. ومع ذلك فهو بينَ بينَ، لا هو يترضّى ولا هو يناوئ. ولعلّ القارئ أن يتبيّن ذلك أو بعضه، من هذه النصوص المتفرّقة التي كتبها الماغوط في فترات متباعدة. وقد صاغ بعضها المسرحي المغربي عبد الواحد عوزري، في حكاية واحدة، وأعدّها للمسرح، أواخر الثمانينيات، على ما أذكر؛ وكنت وقتها في فاس. على أنّني أقدّمها، وربّما تصرّفت فيها تصرّفا بسيطا؛ لحسن ظنّي بالماغوط، ولكن من دون أن تكون لي براعة المخرج في استخدامه مكوّنات العرض المسرحي، من تمثيل ومناظر وإنارة وتوابع. وهي ممّا يضفي الكثير على هذه النصوص الساخرة؛ إذ تدمج عنصر الفرجة وفنّ الممثّل معا، وتتيح مجالا آخر غير الكتابة، للتواصل مع الجمهور.
حكاية 1: دعاء:
يا إلهنا! امنحنا جمود الحجر، ومرونة الراقصة؛ لنعبر يومنا بسلام. إمنحنا عقل انشتاين، لنستوعب ما يجري على الساحة العربيّة. امنحنا غباء الإوزّة، لنصدّق ما نرى. امنحنا أرجل العنكبوت، لنتعلّق نحن وكلّ أطفال الشرق، بسقف الوطن؛ حتى تمرّ هذه المرحلة.
حكاية 2: حكاية شاعر:
المواطن: إذن سأحزم حقائبي، وأسافر
هو: لا تأشيرة لك
المواطن: سأقيم في أيّ مكان
هو: لا إقامة لك
المواطن: سأعود بدويّا في الخلاء
هو: لا قبيلة لك
المواطن: سأكون جملا
هو: لا قافلة لك
المواطن: سأكون نخلة
هو: لا جذور لك
المواطن: سأصير مناضلا
هو: لا قضيّة لك.
حكاية 3: غاسترونوميا:
الأوّل: كلّ طبخة سياسيّة في الشرق الأوسط، أمريكا تعدّها، وتوقد تحتها، وتبرّدها؛ وإسرائيل تأكلها.
الثاني: والعرب؟
الأوّل: يغسلون الصحون.
حكاية 4: قطّة أليفة
الأوّل: أنظر! المظلاّت فوق الرؤوس
الثاني: والمارّة فوق الأرصفة
الأوّل: والقانون فوق الجميع
الثاني: يالها من أمّة مهذّبة ودُودٍ، كالقطّة المنزليّة الأليفة!
حكاية 5 : من الاشتراكيّة العلميّة’ (النصّ الأصلي) إلى الديمقراطيّة:
الأوّل: طلبنا منهم نوعا واحدا من الديمقراطيّة
الثاني: وهو النوع المعمول به في أوروبا الغربيّة
الأوّل: فأعطونا من المحيط إلى الخليج، خمسين نوعا من الديمقراطيّة؛ إلاّ النوع المعمول به في أوروبا الغربيّة!
حكاية 6: حكاية كينونة:
الأوّل: لا تقطع صلتك بقاض
الثاني: لماذا؟
الأوّل: قد تصبح متّهما
الأوّل (بعد صمت): لا تقطع صلتك بمتّهم
الثاني: لماذا؟
الأوّل: قد يصبح حارسا
الأوّل (بعد صمت): لا تقطع صلتك بحارس
الثاني: لماذا؟
الأوّل: قد يصبح لصّا
الأوّل (بعد صمت): لا تقطع صلتك بلصّ
الثاني: لماذا؟
الأوّل: قد يصبح ثريّا.
حكاية 7: حكاية انتحار (ربّما نسي الماغوط أنّ هناك «سنّ يأس الذكور»Andropause)
الشرطي: والآن وقد نجوت، كم عمرك يا بنيّ؟
المواطن: حوالي الخمسين
الشرطي: هذا سنّ اليأس عند النساء، وليس عند الرجال
المواطن: كلّنا نساء في هذا الزمان يا سيّدي.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *