بلقيس الكركي*
«كمذكّر يُملي على الأنثى مشاعرها»: هكذا تكلّم محمود درويش، واصفاً علاقة البلاغة بالمعنى: تجرحه، وتمدحه.
***
أريد بلاغة لا مذكّرَ يشقُّها؛ بلاغةً كشعر سافو الإغريقيّة، التي أدركت، بعجز جميل عن الهتك، أنّ الكلمات التي ترافق قيثارتها، وإن كانت خالدة، هي «محضُ أنفاس وحسب»، ومع ذلك، طلبت من حبيبتها: «أبلغي كلّ إنسان، الآنَ، اليومَ، بأنّي، في عذوبة سأغنّي..»
محضُ أنفاس، مع ضغط بسيط على مخارج أصوات منتقاة، ويكون شعر. هكذا تهدأ رغبة المعاني بالوجود، بوجود عذب أشتهيه ببرود، بلا عرس وطبول وزفّة وشهود. محض غناء بلا دماء، ويستعصي عليّ، رغم جمال طارئ حولي، عاديّ مسالم؛ لا قلق معه، لا أرق، لا ألق، لا عرق، لا شبق. ربّما لأن كلّ إحساس، كل نَفَس، يحتاج، أقلّ من حاجة المفهوم، إلى صورة. وقد نبّه باشلار مرّة بغباء مفيد إلى أنّ «الصورة» باللغة الفرنسيّة على الأقل، مؤنّثة، لا تحتاج فحولة كبيرة كالـ»مفهوم»، الذي هو بالفرنسية، كما العربيّة، مذكّر.
ربّما تستعصي البلاغة، غير الجارحة، عليّ، لأنّي، على عكس درويش، ومثل باشلار، ما زلت أنظر إليها، إلى جسد المعاني، على أنّه «هي»: بلاغة، صورة، استعارة، قافية، قصيدة، كناية، كلمة، والأهم: لغة. على أنّها رابونزل المسجونة في قلعتها، تربّي شعرها لترميه لحبيبها الأمير، أنا، المذكّر، من الشباك. لهذا لن يكون وصفي للمطر، أي مطر، شعراً، بل قاصراً على تشبيه قاصر بطول شعرها، لأنني، ببساطة، لا أملك من الأنوثة ما يملكه فحول الشعراء.
الوحي، عربياً، يستدعي شياطين وملائكة ذكوراً، بسبب أنوثة طاغية في الشعراء والأنبياء. والإغريق ذكور استدعوا، مثلي، إناثاً، ولا أعرف عربيا قرأ الإلياذة كاملة وبشغف إلا كاذباً أو مترجماً. إحساسي بسورة النجم إحساس مذكّر يرى ما يرى في «دنا» و»تدلى». إحساس بأن للوحي أصابع ناعمة بيضاء تفكّ جدائل أعصابي تمهيدا للقاء ماجن كالمطر الذي كان يفترض في هذا النص أن يحاول وصفه ضمن أشياء أخرى عادية مألوفة مسّتني مطولاً لأيام بلا برق أو رعد أو كهرباء أو غير ذاك من عنف طالما عرّفت به الجمال. لم أستطع، بسبب مذكر يملي عليّ بلاغة تجرح معاني ومشاعر غير مجروحة بالأصل؛ تخدشها، تهتكها، تمزّقها، تمتّعها، لكنّها تترك ندبة طويلة في الشعور ونقصاً يبحث عن لغة تبلغ الحقيقة عارية، لا خيالاً يغشى «سدرة المنتهى». أريد ببساطة لغة بيني وبينها، على الأكثر، وبسبب التشابه، قاب قوسين، أو قوس واحد، أو أدنى. بيني وبينها، ما كان بين هند زوجة النعمان بن منذر وابنة الحسن اليماني، أو بين سافو وإيرنّا الشاعرة الأخرى، أو بين فيرجينيا وفيتا التي أوحت لفيرجينيا بـ»أورلاندو»، الرواية التي تحوّل فيها البطل الرجل إلى امرأة بعدما بلغ الثلاثين، فأنهى القصيدة.
«كيف تعرَّف المرأة الجميلة»؟ هكذا يسأل أحد أبطال رواية فلوبير التربية العاطفية. فلوبير وصفهن جميعاً، وكانت إجابته المعروفة عن هوية إيما بوفاري، «إنّها أنا». فلوبير امرأة، لهذا استطاع الوصف. يبدو أنّ العلّة فيّ، وسأبقى بسببها أكتب نثراً جافاً كهذا، بينما يهطل المطر، وأحبسه داخلي، فأسير رغم الكتابة كمذكّر أرهقه الحرمان وادّعى أن المسألة خيار رواقيّ وانتقاء، بينما هي في «الحقيقة» عجز أن أكون كما يدّعي جسدي الذي يأبى أن يعرف الشعر، لأن رجلا فيه يشدّه نحو صحراء مجرّدة ورمال؛ رجلاً يأبى، بعناد سخيف، أن يرخي اللجام.
***
ضعي القيثارة جانباً يا سافو، وأرخي الحزام. أعيريني أنفاسك العذبة كلّها، وعلّميني الشعر. لم يعد لي جسد يصلح لأن أكون سيلفي جيّيم، تلك الخارقة الأخرى، التي كنت أروم وصف ما يفعل بي جسدها الكامل الراقص، ولم أستطع. وهبتها لشاعر وسألته أنْ صف. سافو، سيلفي، فيرجينيا، فيروز، أحبكن حدّ المرض، فعلّمنَني الشعر، وإلا سأبقى هكذا: رجلا يبغي وصالاً بلغة كهذه تتركه غلاماً مخصيّاً لا يقدر أن يقول، مهما أراد، ما يريد.
*كاتبة اردنية/القدس العربي