هالة صلاح الدين
رغم تجربتها الأدبية الوعرة فقد وجدت الكاتبة الأميركية ليديا ديفيس من يقدِّر كلماتها العصية حقا على التصنيف، ناسبين إياها إلى نوع أدبي راديكالي من العدم. ففي الخامس من أبريل 2016 سوف تكرم مجلة “ذا باريس ريفيو” ديفيس بمنحها جائزة “هادادا السنوية” عن مجمل إنجازاتها “الفريدة” في عالم الأدب. ويجدر بنا أن نشير إلى أن الفائزين السابقين بهذه الجائزة ثلة ساطعة من الأدباء، من بينهم جون ديديون ونورمان ميلر وفيليب روث.
كان تاريخ ليديا ديفيس مع “ذا باريس ريفيو” قد بدأ عام 1983، حين نشرت قصة “اِكْسِرْها”. وقد كتبت ديفيس رواية واحدة بعنوان “نهاية القصة” (1995)، وست مجموعات قصصية، كما ترجمت أيضا عن الفرنسية لكبار الكتاب، من بينهم مارسيل بروست وغوستاف فلوبير، مما حدا بالحكومة الفرنسية إلى إهدائها واحدة من أرفع ألقابها، “فارسة الفنون والآداب”، كما نالت الكاتبة أيضا زمالة ماك آرثر وجائزة مان بوكر العالمية.
البحث عن هوية
لا تشفي قصص ديفيس غليل قارئها، إذ تفتقر غالبا إلى نقطة انحلال أو خلاص، وكأن الكاتبة تحوك نسيجا محكما من العقد، فكتاباتها أشبه بالمُنَمْنَمات، تقتصد في كل ما يسعها الاقتصاد فيه، فتنشئ بذلك ألاعيب لغوية مربكة، وتستهل واحدة منها كالتالي “فلانة برفقة فلان، ولكنها تعيش على أموال علَّان”. سوف تتعجب وأنت تقلب الصفحات بحثا عن بقيتها، ولن تعثر على شيء، ستخطئ وتحسبها مجرد استشهاد، ولكنها قصة “صامويل جاكسون ساخط” بأكملها دون نقصان.
أطول قصص ديفيس تمتد على ثلاث صفحات، وقد حاول الناقد البريطاني كريستوفر ريكس فك شفراتها، “لعلها نوادر أو مقالات أو نكات أو أمثال أو حِكَم أو حتى أقوال مأثورة أو صلوات أو مجرد ملاحظات”، أو ربما هي شعر نثري أو شِبْه خواطر عارية من الهوية، ولكنها “نظيفة نظافة العظم”، إن جاز لنا انتحال كلمات جيمز بولدوين.
فلندع ما يخترق قصصها من فكاهة أخلاقية الطابع جانبا، فإذا أمعنا النظر في هذه القصص سنجد هوة بين ثغراتها ورُقيا في منطقها، وهو رقي قد يرتعد مخيفا بلا عقل كالسهام المسمومة، “كعُلَب صغيرة جميلة الصنع ينحشر فيها إبهامك. رد الفعل الأول هو الضحك غير أن ثمة إيحاءات مقلقة تَلوح في الأفق”، مثلما عبَّرت الكاتبة الأميركية شيلي جاكسون ذات مرة.
الذبابة المتعاونة
الاختصار المنطوي والمتعالي في الظاهر، لا يجرد قصص ليديا ديفيس من الأهمية أو الموهبة. فمعظمها متقن الصنعة، يخالجه غموض ودقة لا نطالعهما إلا في الشعر البليغ.
في مجموعتها “ضروب من الاضطراب” (2007) يردد العنوان صدى كتاب عالم النفس ويليام جيمز “ضروب من التجارب الدينية”. وفيها تستعير قصتها “التعاون مع ذبابة” مخلوقا ألْفته إيميلي ديكنسون موحيا بالفناء حين كتبت، “سمعتُ ذبابة تئز حين متُ”، وديفيس لم تضف أداة تعريف أو تنكير إلى كلمة “ذبابة” في عنوانها الإنكليزي حتى تفصح عما يزيد عن التالي، أي القصة بأكملها، “كتبتُ تلك الكلمة على الصفحة، ولكنها أضافت فاصلة. وفاعل الفعلة هو الذبابة”. هكذا هي قصص ديفيس، عقد متعاقبة كشفرات.
تتلمذ على يدي ليديا ديفيس كل من جوناثان فرانزن وديفيد فوستر وألاس وديف إجرز، ولكن لم يفلح أحد منهم حتى هذه اللحظة في أسر هذا “الأدب الخاطف” المعجِز بما فيه من مظهر خادع في بساطته.
في قصة “وحيدة”، نجد الراوية تقول “لا أحد يتصل بي. لا أستطيع تفقد جهاز الرد على المكالمات لأني هنا طيلة الوقت. لو خرجتُ، قد يتصل أحد وأنا في الخارج. وبعدها أستطيع تفقد الآلة حين أعود”.
الحقيقة أن هذه الأحاجي الخالية من الغلو ليست ساذجة بالمرة. إنها أدوات تعصر سليقتنا مما اعتدناه في ألفة الحياة اليومية لتفضي بقارئها، شأنها شأن أدب جريس بيلي، إلى قلق يفيض حيرة. فالشخصيات تارة بلا اسم، وتارة أخرى تحضر من أسمائها فقط الحروف الأولى.
معظمهم بيض متعلمون ينتمون إلى الطبقة المتوسطة العليا، على هذه الفئة ركزت ديفيس موهبتها، عازفة عن السياسة القومية أو العالمية، التي غرقت فيها صغيرة، مع أب وأم كانا أولا شيوعيين ثم ليبراليين حدّ النخاع.
وقد تمثِّل أحاجي ديفيس مجرياتها اليومية نفسها، وقوتها العقلية تكمن في هذا المجهر المسلَّط على سيرة ذاتية تلتقط شظاياها على مدار عقود من الكتابة.
قد يتولى الكتَّاب شيء من النرجسية أو الهوس بالفضائح والتلصص على الآخرين، وقد تشملهم نزعات تفرّد، مثل ديفيس، التي تقوم كتاباتها على التحفظ ورفض منح القارئ أيّ تبصر نفسي يزيد عما قد تسر به الشخصيات على مضض، لكن بوسعنا التسلل بخطوات وئيدة إلى حياتها الشخصية لنتبيّن فيها ما تودّ مواراته.
الجنس والأمومة
ترسم الكاتبة صورة محبِطة للحب والجنس، بعبارات تلوح وكأنها مقتبسة من كتاب مدرسي في قصة “معلومات من الشمال عن الجليد”، تكتب “كل عجل من عجول البحر يتنفس من ثقوب عديدة في الجليد، وكل ثقب يستخدمه العديد من العجول”.
وديفيس هنا على غرار الكاتب ريموند كارفر الذي كان يلجأ أحيانا إلى هذه المقالب اللغوية، فهو يوهمنا كثيرا بأنه يحيد عن براعته الأدبية ببلاهة منقطعة النظير، ولكن بقراءة ثانية هنا سنعي أن الرجال هم العجول والثقوب هي النساء، العجل يختار والثقب أداة سلبية ليس إلا.
وفي قصة موجعة تلقي حجرا في بحيرة راكدة، ملخصة غربة الأم المعاصرة، وتقول في حكايتها “القاموس القديم”، “لدي قاموس قديم عمره نحو 120 سنة تقريبا، أحتاج إلى استخدامه لقضاء عمل أقوم به هذا العام. كلما تناولتُه، أعتني به بكل عناية كيلا أتلفه: همي الأول ألا أُلحق به ضررا. ما استوقفني اليوم أنه بالرغم من أن ابني ينبغي أن يكون أهم من قاموس قديم، لا أستطيع الادعاء أني في كل مرة أتعامل فيها مع ابني يكون همي الأول ألا أضرّه”.
شك وجودي
كيف نشير إلى الموتى؟ كيف يكافح كافكا لطهي العشاء؟ كيف ترى السوسيولوجيا حياة عجوزين؟ أنجِد لذة في الأرق؟ كيف نتهجّى نيتشه بالشكل الصحيح؟ أنعبأ بمصير يرقانة الفراشة؟ أيستجدي رجلان في الفردوس؟ وفي عبارات مصغَّرة ساخرة تستأمننا ديفيس على أشباح أجوبة ليس إلا، مبررة شُحَّها، قائلة “كم تستطيع قوله حقا عن هذه الذبابة على جدار الحافلة أو هذا الإشعار في غرفة الفندق؟”.
صاحبة المجموعة القصصية “بلا ذاكرة تقريبا” (1997) لا تستحضر بالفعل ما فات، فهي “امرأة وعيها في غاية الحدة بيد أنها بلا ذاكرة تقريبا”. والمفارقة في العبارة السابقة تطوي بذور عالم أوسع وطيات أعمق من السرد.
وقد شبَّهها أحد النقاد بحلزون الحمض النووي، لا يفضي إلينا بشيء في حد ذاته، ولكنه يطمح إلى نقل الكثير. وعدا ردّ الاعتبار إلى نموذج الخرافة العتيق، تخلو كتابات ديفيس من الحس الكلاسيكي ولا يبدو أنها تنهل من تراث ما، إلا إذا اعتبرنا ملهمها راسل إدسون كلاسيكيا. فهل سبقها أحدهم إلى هذا التجريب اللغوي الخليق بتويتر؟
الحق أن كتابات ديفيس لا تليق أيضا بتوتر الشبكات الاجتماعية. ولو زارتها، لاعتبرها المتابعون “استيتوس مملا”. قد تتراءى شخصياتها في بعض الأحيان مفرطة في التواضع، بلا شذوذ أو خلل، في مجتمع أدبي يمجد الضدّ وعكسه، وإزاء جمهور ينهل من غرابة الأطوار المفجعة، مثلما تقول راوية قصتها “تلفزيون”، “إننا نرغب في أحداث كبرى”، ولا تجد ديفيس بأسا من سرد قصة ساذجة مثل “أنا وكلب”:
“قد ترتقي نملة إليك ببصرها، بل وتهددك بذراعيها. لا يعلم كلبي بالطبع أني من البشر، يراني كلبة، وإن لم أقفز فوق سور. إنني كلبة قوية. ولكني لا أترك فمي يتدلى مفتوحا أثناء السير. حتى في الأيام الحارة لا أترك لساني متدليا. ولكني أنبح فيه: لا.. لا”.
الهامش متن
حتى هيمنغواي لم يتحل بهذه الجرأة اليقظة، يقظة التأمل، ابتلاع وهضم كل مقطع بتواضع لا طوعي، ناشدين الحقيقة في ما فقدناه أو تاه منا بين نصوص تأبى طرح الأسئلة ناهيك عن الإجابة عنها، لأن غياب المعنى في حدّ ذاته معنى محتوم، ولأن بديل الاستيعاب فراغ مخيف، أو هو شبحٌ لن يفتأ يطارد فضولنا.
سوف يستعصي علينا تحديد ما قد يشكَّل القصة عند ديفيس. يقول إي إم فورستر إن “مات الملك ثم ماتت الملكة” قصة. أمَّا “مات الملك ثم ماتت الملكة حسرة” هي حبكة. وقصص ديفيس تشح علينا بالحبكة وتكرر الألفاظ على نحو مغيظ، ولا تلبث أزمنتها كرونولوجيا أن تنقلب موضوعا، لا تكنيكا.
تضرب هذه الكاتبة الاستثنائية بتقاليد القص الحديث عرض الحائط، وتحيل الهامش متنا، والزَيْغ سواء. مادتها كفكاوية في ألفة مبرحة، تتقوض متآكلة إلى شيء ساذج. تقول إن مادتها توحِّد الفكاهة واللغة والعسر العاطفي، إلا أننا نعلم أن مادتها هي على الأرجح ليديا ديفيس ذاتها.
ديفيس تقوّم تفاعلات حياتها، ثم تقصيها عن سياقاتها مثلما فعل صامويل بيكيت، لتخلفنا في حالة من الشك الوجودي المتململ، وإن ادّعينا القبض على تلك اللقطات العابرة الزائلة لمؤلفتها، سوف تظل راكدة، تتريث، لدهشتنا، في وجداننا.
______
*العرب