حوار بين أوباما ومارلين روبنسن عن الرواية والديمقراطية والغضب الضروري (1)


*ترجمة: أحمد شافعي

هذا هو الجزء الأول من حوار تنشره ذي نيويورك رفيو أوف بوكس في حلقتين. جرى الحوار في الرابع عشر من سبتمبر في دي موين بولاية أيوا الأمريكية، وتنشر الحلقة الأولى ورقيا في عدد الخامس من نوفمبر 2015.

***
الرئيس باراك أوباما: مارلين، رائع أن أراك. ومثلما قلت ونحن في الطريق إلى هنا، هذه تجربة مختلفة، لأنني في العادة حينما أحضر إلى مكان مثل دي موين، أجدني على الفور متجها إلى هذه الفعالية السياسية لألقي خطبة، أو لأحضر حفلا، أو لأتفقد مصنعا ما فأجري كل تلك الحوارات الرائعة مع الناس. لكن الأمر كله يكون مخططا ومرتبا. وكالعادة يكون علينا أن نوجّه رسالة معينة سواء عن التعليم أو عن التصنيع.
ولكن من الأشياء التي لا يتاح لي أن أفعلها بالوتيرة التي تحلو لي أن أجري حوارا مع شخص يمتعني ويهمني الحوار معه، فأسمع منه وأتكلم معه عن القوى الثقافية الواسعة التي تصوغ ديمقراطيتنا وأفكارنا وكيفية إحساسنا بالمواطنة والاتجاه الذي ينبغي أن تسير فيه البلد.
ومن هنا خطرت لنا أنه ولم لا أجري حوارا مع شخص أنا معجب به فعلا ونرى ما الذي يتمخّض عنه. وكنت أنت الأولى في الصف، لأن ـ
مارلن روبنسن: شكرا جزيلا لك
الرئيس: المهم، كما تعرفين، وقد قلت لك هذا، أنا أحب كتبك. لعل بعض المستمعين لم يقرأوا كتبك من قبل، وهذا جيد، إذ المرجو أن يذهبوا ويشتروا كتبك بعد هذا الحوار.
أول ما تناولته من كتبك «جلعاد»، وهو من أروع كتبك، وقد اشتريته هنا في أيوا. كنت في حملة انتخابية في ذلك الوقت، وفي هذه الظروف يكون هناك كثير من الأوقات البينية أثناء الانتقال بين المدن وعند الرجوع إلى البيت في وقت متأخر بعد العمل في الحملة. ومن ثم فإن بيني وبينك رابطا من أيوا، لأن أحداث جلعاد في واقع الأمر تدور هنا في أيوا.
ولقد قلت لك من قبل إن القسيس جون آميس في جلعاد بأيوا من بين شخصياتي الأدبي المفضلة، فهو كريم مهذب وحائر بعض الشيء إزاء كيفية المصالحة بين إيمانه وكل العذابات العديدة التي تمرّ بها أسرته. وكل ما هنالك، كل ما هنالك أني وقعت في غرام الشخصية، وفي غرام الكتاب، ثم حانت الفرصة والتقينا أنا وأنت حينما حصلت على تلك الجائزة الخيالية من البيت الأبيض. فتناولنا العشاء معا واستمرت حواراتنا منذ ذلك الحين.
على أية حال، يكفينا هذا كسياق. لقد انتهيتِ أخيرا من سلسلة مقالات غير خيالية، وسنحت لي الفرصة فقرأت إحداها وكانت عن الخوف والدور الذي يمكن أن يلعبه الخوف في حياتنا السياسية والديمقراطية والثقافية [نشرت قبل أسابيع قليلة في نيويورك رفيو أوف بوكس]. تنظرين إلى الخوف في مقالتك عبر منظور المسيحية ونوعية التراث البروتستنتي الذي ساهم في تشكيلنا، فرأيت أن هذا قد يمثّل بداية جيدة.
لماذا قرّرت تأليف كتاب المقالات هذا، ولماذا كان الخوف موضوعا مهما، وما علاقاته ببعض الأعمال الأخرى التي كنت تقومين بها؟
روبنسن: حسن، المقالات في حقيقتها محاضرات، فأنا ألقي محاضرات على فترات متباعدة، ثم إذا اكتمل لديّ ما يكفي لكتاب أحوّلها إلى كتاب.
الرئيس: فأنت إذن تضمين المحاضرات إلى بعضها البعض؟
روبنسن: بالضبط. ذلك ما أفعله. فيضبط ذلك منطق محاضراتي أيضا. أما الخوف فهو إلى حد كبير في ذهني، لأنني أفترض أن جوهر الديمقراطية هو افتراض الخير في الآخرين.
عليك أن تفترض أن الناس يريدون بالدرجة الأساسية أن يفعلوا الصواب. أعتقد أنك يمكن أن تنظر إلى المجتمع من حولك فترى أن الناس بالدرجة الأساسية يفعلون الصواب. ولكنهم حينما يشرعون في وضع نظريات المؤامرات تلك وما إلى ذلك، يبدو حينئذ وكأن ما هو خير في ظاهره هو آثم في باطنه، ولا يقبل الناس بالحجة التي يقوم عليها موقف غير الذي يوافقون عليه، فاهم؟
الرئيس: نعم.
روبنسن: وبسبب فكرة «الآخر الآثِم» التي أعتبرها سيئة في كل الحالات، ولكنها عندما تصبح جزءا من حوارنا السياسي، ومن أنفسنا، أعتقد أن ذلك في حقيقة الأمر تطور خطير أشد ما يمكن أن يكون الخطر فيما يتعلق باستمرارنا دولةً ديمقراطية.
الرئيس: هذا الاتجاه حاضر في ديمقراطيتنا وسياستنا الأمريكية منذ وقت طويل. وكثيرا ما يبرز على السطح. وأعتقد أن الحجة القائمة الآن هي أنه بسبب تعرض الناس لضغوط شديدة من جراء العولمة والتغير السريع، ومرورنا بإحدى أسوأ الأزمات المالية منذ الكساد الكبير، بما يجعل النظام السياسي يبدو معطَّلا، فإن الناس أكثر تقبلا لهذا الاتجاه في السياسة.
روبنسن: ولكننا لم نقم دولتنا الديمقراطية القادرة إلا بنظرنا إلى بعضنا البعض في تفاؤل ومحاولتنا تيسير التعليم وكل تلك الأشياء التي فقنا فيها ما فعلته أغلب الدول- مع الاعتراف بجميع أخطائنا. وأعتقد أننا أوجدنا هذا النوع من الذهنية الجماعية العجيبة الممجوجة ونحن في واقع الأمر ننتمي إلى شتى أرجاء الأرض بمجرد التعامل مع بعضنا البعض تعاملا يقوم على افتراض الخير والإيمان به. وما هذا غير ملمح مقبض في صورتنا الوطنية في ظني.
الرئيس: ولكننا تكلّمنا في هذا. وأنا دائما أحاول الدفع إلى القليل من التفاؤل. والمرء يشعر في بعض الإحيان بالإحباط، لكنني أقول لك إننا سوف نتجاوز هذه اللحظات.
روبنسن: وأنت حينما تقول لي ذلك أقول لك إنك شخص أفضل مني.
الرئيس: يعني، أريد أن أتوقف عند كلامك عن المجيء من كل مكان. أنت روائية، ولكن هل يمكنني أن أقول أيضا إنك لاهوتية؟ هل يبدو لك هذا خانقا أكثر مما ينبغي؟ أنت مهتمة كثيرا بالفكر المسيحي.
روبنسن: صحيح في واقع الأمر.
الرئيس: وهذا جزء من أساس كتابتك، في الأدب وفي غير الأدب. ومن النقاط التي تثيرينها في مقالاتك الأخيرة أنه في وقت من الأوقات كانت المسيحية الأكثر إصلاحا في أوربا هي «الآخر» إلى حد كبير. وجزء من نظامنا في الحكم قام على رفضنا لأي إحساس حصري إقصائي محدَّد لمن يكون جزءا من المجتمع ومن لا يكون جزءا منه، ودعمنا لإحساس أكثر اتساعا.
كلميني قليلا عن كيفية التلاقي بين اهتمامك بالمسيحية وانشغالك بالديمقراطية.
روبنسن: حسن، أعتقد أن الناس صور للرب. ما من بديل محترم لاهوتيا للتعامل مع الناس في ضوء ذلك الفهم. ما الذي يمكنني أن أقوله؟ يبدو لي أن الديمقراطية هي التبعة الحتمية المنطقية لهذا النوع من الإنسانوية الدينية في أقصى ذروة لها. وهي تنطبق على الجميع. هي الصورة الإنسانية. فليس الولاء أو التراث أو أي شيء آخر، بل كوننا بشرا، ذلك ما يفرض الاحترام، وحب الرب جزء منطوٍ في هذا.
الرئيس: ولكنك ناضلت مع حقيقة أنه هنا في الولايات المتحدة، يبدو التفسير المسيحي في بعض الأحيان وكأنه يفرض أحيانا صوت «نحن في مقابل هم»، بل يكون هذا في بعض الأحيان هو الصوت الأعلى. ولكنني أعتقد أن الإحباط ينتابك في بعض الأحيان من نوعية النسخ الهزيلة شديدة الميل إلى اللبرالية.
روبنسن: صحيح
الرئيس: فكيف تصالحين بين فكرة أهمية الإيمان لديك واهتمامك الكبير بأخذ الإيمان مأخذ الجد من ناحية، ومن ناحية أخرى حقيقة أنه يبدو ـ ولو في دولتنا الديمقراطية وخطابنا المدني على أقل تقدير ـ أن من الأشد اعتبارا للدين من يرتابون في المغايرين لهم؟
روبنسن: حسن، أنا لا أعرف مدى جدية هؤلاء في التعامل مع المسيحية، لأنك حينما تأخذ شيئا مأخذ الجد، تكون مستعدا لمقابلة المصاعب، والقبول بالمخاطرة مهما تكن. أقصد أن الناس حينما يلتفتون إلى أنفسهم، ويسلِّحون أنفسهم، ويفعلون ما لا يعلمه إلا الله في مواجهة الآخر كما يتخيلونه، فهم لا يأخذون المسيحية مأخذ الجد. لا أعرف ـ أقصد، هذا أمر حدث مرارا وتكرارا على مدار تاريخ المسيحية، ما من شك في هذا، وفي الأديان الأخرى كما لا يخفى علينا.
ولكن المسيحية في جوهرها تتحدى الفطرة ـ «أحبوا جيرانكم حبكم لأنفسكم»، وهو ما أعتقد أنه يعني ـ وفقا للفهم المقبول ـ أن جيرانكم جديرون بالحب جدارتكم به، وليس أنك سوف تكون ممتلكا بالفعل لهذا السمة فوق البشرية. لكن يفترض بك أن تقاوم. يفترض أن يكون الأمر صعبا. يفترض أن يكون تحدّيا.
الرئيس: وهذا شيء من الأشياء التي أحبها في شخصيات رواياتك، أنه ليس سهلا عليهم أن يكونوا مسيحيين أخيارا.
روبنسن: صحيح.
الرئيس: الأمر صعب. ويفترض به أن يكون صعبا. الآن، أنت نشأت في إيداهو، في مكان صغير، لم يكن كبيرا، لم يكن كوزموبوليتانيا.
روبنسن: كلمة الكوزموبوليتاني لم تنطبق عليه قط.
الرئيس: في أي مدينة من إيداهو كانت نشأتك؟
روبنسن: كوردالين هي المكان الذي نشأت فيه في الحقيقة.
الرئيس: كم كانت تبلغ ضخامتها في وقت نشأتك فيها؟
روبنسن: 13500 نسمة.
الرئيس: حسن، هذه بلدة.
روبنسن: نعم، ثاني أكبر مدن الولاية في ذلك الوقت.
الرئيس: وكيف انتهى بك الحال في تصورك إلى التفكير في الديمقراطية، والكتابة، والإيمان، على النحو الذي تفكرين به فيها؟ كيف كانت تجربة النشأة في مكان صغير جدا في إيداهو، والتي كان يمكنها أن تسوقك في طريق شديد الاختلاف، كيف انتهى بك الحال إلى هذا المكان يا مارلين؟ ما الذي جرى؟ أهي المكتبات؟
روبنسن: هي المكتبات، المكتبات. الناس بالغو التعقيد. يبدو الأمر وكأن كل شخص جديد هو رمية نرد جديدة تماما، صحيح؟
الرئيس: صحيح
روبنسن: لقد مضيت في الطريق الذي بدا لي أنه الأقل مقاومة، وكان ذلك يعني الكثير من القراءة والكثير من الكتابة، فقد حدث ذلك معي بطريقة طبيعية. أخي ممتاز في كثير من هذه الأشياء، هو وأنا، ولكن الأمر كله كان بالمصادفة البحتة.
ومع كل الاحترام للبيئة، لم يتبع كثير من شديدي الذكاء الطريق الذي اتبعته في الحياة أنا وأخي. ولكنك تتعلم منهم حتى حينما لا تتعلم منهم بالمعنى المباشر. وقد كنت أعرف دائما ما أريده بهذا المعنى، أقصد أن أفعل لا أن أكون. ولم أستوعب فعليا مفهوم الكاتبة إلا وأنا في المدرسة الثانوية. لكنني كنت أكتب.
الرئيس: لكنك كنت تعلمين أنك تريدين أن تقرئي وأن تكتبي.
روبنسن: نعم، ذلك ما أردت أن أفعله.
الرئيس: هل كان والداك مهتمين بالكتب، أم كانا يكتفيان فقط بتشجيعك والتسامح مع اختلافك؟
روبنسن: كان في بيتنا قدر كبير من التسامح مع الاختلاف. لا، الأمر ظريف حقا لأنني من ناحية مدينة تماما لأصولي مهما تكن هذه الأصول، ومهما يكن ما يعنيه ذلك. ومن ناحية أخرى، ومع كل الاحترام والمحبة، لم يكن والداي قارئين.
الرئيس: حسن، ذلك هو السبب في أن لديك هذا الإحساس الطيب، وغلافا من الكتب فوق الإحساس الطيب. فيم كان يعمل والداك؟
روبنسن: أمي كانت ربة بيت. وأبي كان موظفا، إداريا متوسطا، في شركة من تلك الشركات البسيطة.
الرئيس: لكنهما كانا يشجعانك.
روبنسن: عارف، كانا الكبيرين وكنا الصغيرين، أتفهم ما أقصده؟ شيء أقرب إلى سلالتين. ولكنهما كانا إذا انتبها إلى أننا نفعل شيئا ما، كأن نرسم أو نلوّن أو أي شيء آخر مما نفعله، كانا في هذه الحالة يحضران لنا ما نحتاجه لعمل ذلك، ويكون ذلك في صمت وبدون كلام. من بين الأشياء التي أعتقد أنها حررتني كثيرا أنني لو كنت عشت أي حياة بسيطة، لكان والداي سعيدين بالقدر نفسه. لم أكن معرضة لضغوط.
الرئيس: حينما حكيت لي عن موقف معيّن لدى أبويك، أعني أنهما كانا يتبنّيان منظومة قيمية منزلية قوامها الجد والأمانة والتواضع. وهو ما بد لي مألوفا تماما حينما فكرت في جدّي اللذين كانت نشأتهما في كنساس.
وهذا جزء مما أجده في كتابتك. وجزء مما يربطني بكتبك، أعني التقدير ـ بدون إضفاء هالة رومنتيكية على وسط أمريكا أو أمريكا البلدات الصغيرة ـ لإحساس القيم المنزلية. وهذا يظهر في كتابتك. ويبدو أحيانا في حقيقة الأمر غريبا على الثقافة الرائجة اليوم، والتي تدور في فلك النجومية والصوت العالي والتفاخر.
روبنسن: أعني، أنا بالفعل أعتقد أن عليك ان تمضي بعيدا جدا صعودا في الثقافة الأمريكية لتتجاوز إلى النقطة التي يتبنى الناس عندها القيم الجيدة. أعني، إنه لينتابك بالفعل إحساس في بعض الأحيان بأن الأمانة أشد أصالة في نفس شخص يمارس عملا من مستوى بالغ الانخفاض منه لدى شخص يحاول أن يشق طريقه إلى …
الرئيس: إلى هذه الأنظمة الضخمة التي لا علاقة لها بغير الأضواء الساطعة الخاطفة، لكن والديك ما كانا يريان العالم بهذه الطريقة، أليس كذلك؟ قلت إن كل ما كانا يعنيان به هو مجرد أن تكوني أمينة و
روبنسن: نعم، بالضبط.
الرئيس: … وتبذلين أقصى جهدك في مجال ما.
روبنسن: مهما يكن. بالضبط.
الرئيس: هذا مثير للاهتمام، لأننا نتكلم الآن في أيوا، والناس دائما يندهشون في تصوري من ارتباطي بالناس هنا في مدينة أيوا الصغيرة. وسبب ذلك، في المقام الأول، أنني استفدت في الوقت الذي لم يكن أحد يتوقع لي الفوز فيه. وهكذا لم أظهر من خلال منظور فوكس نيوز ووسائل الإعلام المحافظة، ولم يصبني الرعب. في ذلك الوقت لم أبد مصابا بالرعب، بل مجرد شخص يحمل اسما طريفا. كنت أبدو شابا. أحيانا أنظر إلى صوري في تلك الفترة لا أصدق أن يكون شخص قد صوَّت لي وأنا أبدو وكأنني في الخامسة والعشرين.
لكنني كنت أذهب إلى تلك البلدات الصغيرة فيبدو لي الجميع مألوفين لأنهم يذكّرونني بجديّ وبأمي وبذلك الموقف الذي تتكلمين عنه. أنت رأيت الولاية كلها، وأنا رأيت هذا أثناء سفري في جنوبي إيلينوي أثناء الحملة الانتخابية الأولى لمجلس النواب، والحقيقة أنني أراه في كل مكان في أمريكا.
الموضوع بالنسبة لي يا مارلين لا يتعلق بعدم وجود تلك الفضائل التي تثمّنينها وتهتمين لأمرها والمهمة لدولتنا الديمقراطية. فهي موجودة في دوري الهواة و
روبنسن: غرف الطوارئ
الرئيس: … غرف الطوارئ، والمدارس. والناس يعاملون بعضهم البعض بالطريقة التي تحبين أن تري عليها ترعرع الديمقراطية في بلدنا. ولكن هناك فجوة هائلة بين طريقة الناس في تسيير حيواتهم اليومية وكلامنا عن حياتنا المشتركة وحياتنا السياسية. وهذا ما يصفه الناس بالمسافة بين واشنطن ومين ستريت. ولكن الأمر ليس واشنطن فقط، بل طريقتنا في الكلام عن السياسة لدينا، وعن سياستنا الخارجية، وأهدافنا المشتركة، هناك فجوة.
والأمر الذي أكدح من أجله طوال مسيرتي المهنية السياسية هو كيفية سد هذه الفجوة. هناك كل هذا اللطف واللياقة والذوق على الأرض، ولكنه يظهر بطريقة ما مترجما إلى سياسات صارمة دوجمائية وفي كثير من الأحيان وضيعة. وبعض هذا له علاقة بجميع المرشحات التي تعترض الناس العاديين المشغولين المتنقلين من مكان إلى آخر جريا في سعيهم إلى الاعتناء بأبنائهم وإتقان أعمالهم والقيام بكل ما من شأنه إقامة المجتمع فلا تسنح لهم الفرصة لمتابعة شتى التفاصيل التي يتعقد بها الجدل السياسي.
يعرفون أنهم يرغبون في رعاية من يكون مريضا، بدافع من كرمهم. ولكن ترجمة هذه النزعة إلى آخر ميزانيات برنامج الرعاية الصحية أمر غير واضح طول الوقت. هم يعرفون أنهم يريدوننا أن نستخدم قوتهم بحكمة في العالم، وأن العنف لا يثمر غير العنف. لكنهم يعرفون كذلك أن العالم خطر وأن التمييز صعب جدا، كما تتكلمين في مقالتك، بين الخوف عندما تنبغي مواجهة العنف، وعندما تكون بين أيدينا وسائل أخرى يمكن أن نحاول بها إيجاد عالم أكثر سلاما.
وهذا في ظني هو التحدي. وإنني أستلهم شجاعة كبيرة من مقابلة الناس في بيئاتهم. ولكن ذلك يتقاطر في مستوى السياسة الوطنية على أنحاء لا تكون مشجعة طول الوقت.
روبنسن: أعتقد أن من بين الأشياء الصحيحة أن أمريكيين كثيرين يكونون في كل جانب من كل موضوع، وأنهم يحسبون أن أسوأ ما يمكن أن يقولوه، هو أصحّ ما يمكن أن يقولوه، أتفهمني؟
الرئيس: لا، قولي لي ما تقصدين.
روبنسن: حسن، على سبيل المثال، أعني أنني معجبة جدا بالتعليم في أمريكا. ولقد سافرت… أعني أن كثيرا من مقالاتي كما تعرف عبارة عن محاضرات ملقاة في جلسات تعليمية، في الجامعات وغيرها. وهي مؤثرة جدا. محبوبة كثيرا لدى الناس الذين يتماهون معها. فتذهب إلى كلية وترى إحساس الناس بالإثارة تجاه ما يفعلون، إحساس الطلبة بالإثارة الشديدة وما إلى ذلك.
ثم إنك تبتعد خطوة فتسمع كل ما يقال عن فشل النظام، وعن حاجتنا إلى تمزيق أوصاله وبقية هذا الكلام. وتجد أنك تسأل نفسك: هل عبرت الباب؟ هل استمعت إلى ما يقول الناس؟ هل قمت بالتدريس في جامعة أجنبية؟
نحن لدينا نظام تعليمي رائع، نصر حقيقي للإنسانية. لا أعتقد أن في التاريخ ما يضاهيه. ولا يجد من يدافع عنه. أغلب ما نقوم به لا يجد من يدافع عنه لأن الناس يميلون إلى أن أسوأ ما يمكنهم قوله هو أصح ما يمكنهم قوله.
الرئيس: ولكن هذا جزء من سر روعة أمريكا، أن بها دائما سخطا مزعجا هو الذي يدفعنا إلى المزيد. ذلك ما جعلنا نتجه صوب الغرب، ذلك ما جعلنا … «لقد سئمت من كل أولئك الناس المقيمين في الشرق، ولو ذهبت إلى الغرب، فهناك أجد أرضي ولا أكون مضطرا إلى تقبل كل هذا الهراء والتعايش معه، وأبدأ حياتي أنا، ويكون لي وطني الجديد»… وصحيح أيضا أن الضجر والسخط اللذين كانا لنا عونا على الوصول إلى القمر واختراع الإنترنت وبناء السكك الحديدية القارية وإقامة كلياتنا الكبرى، كل تلك الأشياء وليدة الضجر والسخط، يمكن بسرعة شديدة أن نعتبر الأشياء مسلّمات ولا نميل إلى الدفاع عنها، ولا نفهم كم هي ثمينة هذه الأشياء.
وها هنا يمكن أن تضعنا مفاهيم الحكم في مأزق. كلما أسمع الناس يقولون إن من الممكن حل مشاكلنا بغير حكومة، أرغب دائما أن أقول لهم إن عليهم الذهاب إلى بلاد أخرى فيها أقل قدر ممكن من الحكم، فلا تصان الطرق، ولا ييسر أحد وصول الكهرباء إلى كل مكان حتى لو لم تكن من ذلك جدوى اقتصادية، وحيث …
روبنسن: النظام البريدي.
الرئيس: … والنظام البريدي لا يعمل، والأطفال لا يجدون التعليم الأساسي. هذه هي الخلاصة المنطقية في واقع الأمر لمن يرى الحكومة عدوا.
وهذا أيضا تيار جارٍ في ديمقراطيتنا. هذا أشبه بالدي إن آيه لدينا. نحن مرتابون في الحكومة بوصفها أداة قمع. والشك صحي، لكنه أيضا قد يكون سببا في الشلل حينما نحاول أن نشترك في عمل أشياء كبيرة.
روبنسن: وأيضا من الأشياء التي لا تؤخذ بعين الاعتبار أن الحكومات المحلية قد تكون أنظمة قمع كبيرة. فمن الرائع أن تكون هناك حكومة وطنية يمكنها التدخل باسم القيم الوطنية.
الرئيس: حسن، هذا هو الدرس الذي تعلّمناه من كل حركة القضاء على العبودية وحركة الحقوق المدنية. وهذا شيء واحد، أعني أنني أعتقد بشدة أن هذا من بين الأشياء التي لا نتكلم عنها وهي التي أصبحت بمثابة الخط الحدودي الذي تلتفت إليه صيغة «نحن» و»هم»، أعني الخط الحدودي للعنصرية. وحتى في ما يتعلق بالمدارس التي تكلمت أنت عنها الآن، جزء من التحدي يتمثل في أن نظام المدارس رائع، باستثناء حفنة من المدارس التي تبقى دائما أقلية مزعجة ورهيبة.
نظامنا في حفظ السلام وعدالتنا الجنائية ناجح بصفة عامة، باستثناء الكمية الرهيبة من السكان الذين يتعرضون للسجن بمعدلات غير مسبوقة في التاريخ.
وأنت حينما تفكرين في الديمقراطية الأمريكية أو، في حالتك أنت ، حينما تفكرين في المسيحية في كتاباتك، ما مدى تواتر ظهور «الآخر» وكيف تفكرين في ذلك؟ أعرف في جلعاد على الأقل أن هذا الأمر من بين عناصر إحدى الشخصيات التي تحاول أن تفهم كيف لها في الخمسينيات أن تحب شخصا ليس مثلها.
روبنسن: أيوا لم تعرف قط القوانين المناهضة للزواج المختلط. أيوا وماين فقط لم تعرفا هذه القوانين.
الرئيس: وهما الولايتان الوحيدتان.
روبنسن: نعم، ويوليسيز إس جرانت قال عن أيوا إنها نجم الراديكالية الساطع وما إلى ذلك. فنحن لم نفصل قط فصلا عنصريا في المدارس، وكان ذلك يعد غير قانوني حينما كانت أيوا لا تزال مقاطعة، إلى آخر ذلك كله. ولم تتغير تلك القوانين وأصبحت أساس المساواة الزواجية الحاكم للمحكمة العليا هنا في أيوا
فنظام الثقافة ككل لم يتغير قط. وفي الوقت نفسه، لم تتماش التجربة المحسوسة للثقافة مع تراث الثقافة اللبرالي. وهكذا، في جلعاد، كان لجاك كل الحق في التفكير في طريقة للرحيل إلى أيوا، ولكن ما يراه يعطيه الحق أيضا في إثارة السؤال.
الرئيس: سأحول المسار لثانية. قلت لي إنك حينما بدأت الكتابة ظهر ذلك من تلقاء نفسه بطريقة ما. قلت إنك حينما بدأت كتابة الروايات، كنت مدفوعة إلى ذلك فلم تخططي له. كلميني عن اللحظة التي أوشكت فيها على كتابة جلعاد والبيت وكتبي المفضلة الأخرى، كيف قررت أن تشرعي في الكتابة عن قسيس هرم في منتصف حقول الذرة؟
لأنك في ذلك الوقت كنت بالفعل قد زرت الساحل الشرق وسافرت إلى فرنسا.
روبنسن: كان الغرب الأوسط لا يزال بالنسبة لي شيئا جديدا. كان صوت يتردد في رأسي. وكان ذلك أطرف شيء. أعني أنني كنت أقرأ في التاريخ واللاهوت وكل تلك الأشياء طول الوقت. وحدث أن كنت في مساتشوستس، منتظرة قضاء عيد الميلاد مع أبنائي. ووصلوا متأخرين إلى المكان الذي كان ينبغي أن نلتقي فيه، فكنت في ذلك الفندق ومعي قلم وورقة خاوية، وبدأت أكتب ما يمليه عليّ ذلك الصوت. فالجملة الأولى في ذلك الكتاب هي الجملة الأولى التي جاءت إلى عقلي. لا أعرف كيف حدث ذلك. اندهشت أنني كنت أكتب من وجهة نظر رجل. ولكنه كان موجودا.
الرئيس: ظهر لك هكذا.
روبنسن: ظهر هكذا. وأولى الأشياء التي كنت أعرفها عنه، أنه كان هرما، وله ابن شاب، وهكذا. خلقا الحكاية.
______
*المصدر: جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *