سامر محمد اسماعيل
سيمفونية حجر النرد تزدهر من حولها وهي ترسم بورتريهات لشخصيات المقهى؛ مسترقةً النظر إلى وجوه الناس وقد لفّها دخان النراجيل، وما هي إلا لحظة لتغيب الوجوه فتظهر كرسوماتٍ على كرّاس الرسم. يعود النرد ويشكّل إيقاع خطوط تكوّن معالم من ترسمهم؛ يظهرون ويغيبون بين أبخرة التبغ ولغط أحاديث تتصاعد في أجواء مقهى الروضة. المكان الدمشقي الذي التقينا فيه (هالة الفيصل – مواليد حمص) وقد أخذت ركناً بين كراسي الخيزران المتشابكة في براح صالة الشاي الشامية: «هنا أتلصص على الناس من موقع من يبحث في جغرافيا الوجوه؛ عن وجه له تاريخ، له قسمات خاصة تخبرني بحقيقة ما يحدث في بلادي؛ لا أقول للشخص إنني أرسمه، ولا أجعله ينتبه إطلاقاً، وفي ما لو انتبه إليّ لا يزعجني ذلك؛ فمعظم الناس هنا يتميزون باللطف؛ البعض الآخر عندما ينتبه يساعدني فلا يتحرك كثيراً، ولا يحاول التحدث مع رفاقه حتى أنهي السكتش الخاص به».
تخرج (هالة) من المقهى وأذناها ما زالتا تطنان برميات النرد وسحنات بشر تتبخر مع وصولها شارع العابد، لتلتقي مجدداً بأبواق سيارات مسرعة تتلعثم عجلاتها المذعورة على إسفلت الطرقات: «البشر الذين صاروا رسومات في رأسي يتحولون الآن إلى انخطافات متتالية بين أصوات المقهى والشارع؛ لكنني أتابع اقتفاء معالم الوجه الذي أطارده، فمرةً أرسمه ومرةً أكتب عنه».
تتحدث التشكيلية السورية وهي تمشي بحماس عن دمشق التي عاشتها منذ سبعينيات القرن الفائت؛ وبعد تخرّجها من كلية الفنون الجميلة عام 1983؛ لتسافر بعدها لدراسة السينما في موسكو عام 1984. تارةً تأخذ صوراً فوتوغرافية للناس كسائحة ضائعة في شارع الصالحية وتارةً تتزاحم الأفكار وتنسى ما كانت تريد أن تقوله لنا: «كل إنسان قرر البقاء في سورية أعتبره مناضلاً، فضمن الجو العام الذي نعيشه هناك تعب كبير، شهر في دمشق قبل عودتي إلى برلين، كشف لي أن الإنسان يحتاج كي يستمر بالعيش هنا قوة نفسية مضاعفة، فأن تعيش ضمن هذه الظروف يتوجب عليك عبور عشرات الحواجز والدشم لتشتري خضارك وخبزك بأسعار عالية للغاية».
كإمرأة تعود في الليل، يجب أن أعرف متى وكيف يمكنني الخروج أو العودة إلى البيت، تتابع (الفيصل) وتضيف: «مواعيد انقطاع التيار الكهربائي ومجيئه أمر مهم في الحرب، كل ذلك يجب أن تأخذه بعين الاعتبار مع كل خطوة تفكر أن تخطوها إلى مكانكَ المفضل في قلب العاصمة».
من بيتها في حي (المزرعة) تهبط (هالة) درجات السلّم المعتم نحو الشوارع التي تحبها. نسألها: (كأنكِ تبحثين عن دمشق)؟ فتجيب: «أنا أحب دمشق القديمة، كنتُ أفكر بالانتقال إليها، لكن حين اندلعت الأحداث عام 2011 انقضى ذلك الحلم، أذكر أنني كنتُ وقتذاك أعمل على سطح بيتي في مرسمي المطل على جبل قاسيون؛ حينها عبرت طائرة حربية عضتني من الداخل: قل لي كيف أرسم والطائرات تحوم فوق رأسي؟ لقد تبعثر الهواء من حولي، وتعكّر مزاجي وفقدتُ التركيز، حزمتُ حقيبتي ونزلت إلى الشوارع قاصدةً (مقهى البرازيل) في فندق الشام، لألتقي أصدقاء أبي الذين كانوا يواظبون على تناول قهوتهم هناك ظهر كل يوم جمعة، لأفاجأ أن أحداً ليس موجوداً في شوارع لم أكن أسمع فيها سوى وقع كعب حذائي على بلاطاتها؛ لا أحد كان هناك سوى رجال بهراوات وشرطي مرور حزين ومترقب. وصلت القهوة بصعوبة ثم شرعت بالبكاء منهارة الأعصاب».
قررتْ بعدها (الفيصل) السفر إلى برلين؛ لكنها عادت في تشرين الأول 2012 لتجد أبيها ممدداً على سرير في مستشفى وأمها تمشي على عكاز: «أمضيت أسبوعين بالقرب من أبي الذي كان قد دخل في غيبوبة، كنتُ أمسك بيده الرحيمة وأمسح على جبينه الغالي، لقد كان يشعر بوجودي؛ فعلاقتي به كانت خاصة للغاية».
شيوعيون محافظون
تتذكر (الفيصل) كيف اتفقت هي وصديقها أن يعيشا معاً مئة عام: «هذا ما جعلني أوصي ابني المقيم في أميركا؛ انه إذا ما متُ قبل أن أُتم مئوية عمري، أن يقيم لي متحفاً لكامل لوحاتي في نيويورك، وأن يقرأ كل الكتب الموجودة في مكتبة جدّه، وأخيراً أن يعلّم ابنته العزف على البيانو».
هذه كانت وصية (الفيصل) قبل أن تفقد أي أثر لقبر أبيها (واصل الفيصل) الذي دفن في حمص؛ فالحرب الجهنمية التي نشبت بين أحياء المدينة أضاعت مسقط رأس الشيوعي السوري الذي شهد العديد من الأحداث الجذرية في بلاده؛ وساهم في حياتها السياسية؛ إذ ينحدر الأب من أسرة برجوازية؛ لطالما وجدت نفسها في أتون زلازل متتالية.
كانت ابنة السياسي السوري الراحل محطاً للأنظار والنميمة كما حال أبيها؛ مما منعها من إتمام حلمها بالعمل في السينما بعد أن انتزعت دور البطولة عام 1984 في فيلم (وقائع العام المقبل) لمخرجه سمير ذكرى: «لم أكمل في السينما لأسباب عدة؛ أولها أن بعض من حولي من الوسط حاول أذيتي، فشعرتُ أن هذا المناخ لا أنتمي له، ثم أن العمل كممثلة ومغنيّة كان غريباً عن محيطي الذي أعيش فيه وكان له تبعات اجتماعية، كان مجرد الإكمال في هذا الطريق يهددني بالحرمان من ابني وأهلي».
لكن عائلتكِ ذات تربية أممية – نسألها فتجيب: «هذا ليس له علاقة، فأبي كان شيوعياً مع الآخرين لكن مع عائلته كان محافظاً؛ لعله المحيط الذي كان يفرض علينا وعلى أبي الكثير من التصرفات التي لم نكن نؤمن بها، لكننا نقوم بها فقط للمجاملة، فعين المجتمع كانت مضاعفة على الشيوعي وابنته المتمردة؛ فأبي لم يرد أن يثبت فكرتهم؛ بأن كل شيوعي ملحد؛ كان يريد أن يحافظ على علاقاته بكل الأطراف. الآن صرتُ أفهم أبي أكثر من ذي قبل؛ فلقد كان لديه أحلام بتغيير العالم ومساعدة الفقراء، لقد أخلص لأفكاره حتى آخر لحظة».
تحمّل (الفيصل) مسؤولية النكبات المتتالية للبرجوازية السورية التي تحالفت مع العسكر براغماتياً؛ فقدمت مصالحها على مصالح المجتمع؛ وصوّبت الرأسمال الوطني في الاتجاه الخاطئ: «لقد باع البرجوازيون بلادهم تبعاً لمصالحهم؛ فتم تهجير الرأسمال الوطني إلى بنوك سويسرا وسواها من بلاد الغرب، مما حرم السوريين من الانتفاع به؛ وألحق الأذى بالبلاد منذ الخمسينيات حتى الآن».
الجسد العاري
اشتهرت (الفيصل) بأسلوبها الخاص في المحترف التشكيلي السوري، مقيمةً معارضها في صالات أميركا وأوروبا وبيروت ودمشق؛ مشتغلةً على ثيمة الجسد العاري عند الرجل والمرأة على حدٍ سواء؛ محتجة بذلك على قمع الجسد العربي؛ معتبرةً أن لا فرق بين الجسد والروح إلا من وجهة الدين الذي فصلهما، معتبراً الجسد موطناً للنجاسة؛ فقدمت العديد من الموضوعات الجريئة في أعمالها التي اشتهرت بألوانها الزاهية وتعشيقها مع مناخات أسطورية، حيث كان أبرزها: (سليمان وملكة سبأ)، (المرأة والضابط)، (الولادة).
في برلين أقامت العديد من المعارض، البعض عاتبها وطلب منها أن ترسم في لوحاتها ما يحدث في سورية منذ قرابة خمس سنوات: «إنني أرسم ما يحدث منذ أمدٍ بعيد، رسمتُ حزن المرأة السورية؛ ولن أغير أي شيء في عملي لأنني أعتبر أن المشكلة الأساسية هي علاقتنا بالمرأة، تلك العلاقة التي تحدد كل شيء من خلال الدين الجاثم فوق أنفاسنا، الإسلام الذي أعطى المرأة ما كانت تفتقده في عصور الجاهلية هو اليوم وبعد 1400 عام يجب أن يتغير، ولا يمكن لنا بعد أربعة عشر قرناً أن نظل أسيري قوانين الشريعة؛ خذ مثلاً ما تقوم به (داعش) من بيع النساء كسبايا وجوارٍ؛ هذا شيء فظيع، هذا كان موجوداً بالأصل من قرون طويلة، ولا يمكن اليوم أن نقبل به كبشر ندّعي أننا حضاريون؛ صرتُ أشعر أن هدم التماثيل والمعابد القديمة في تدمر والموصل له خلفيات كبيرة وما وراء الأكمة ما وراءها يا صديقي».
من يقول إن أعمالي الفنية تركزت فقط على العري وجسد المرأة لا يعرف عني شيئاً؛ ولا كيف أفكر؟ – تتابع غاضبة: «العري هو حقيقة الإنسان، أين المشكلة؟ أين الغلط في ذلك؟ لماذا نخجل بأنفسنا؟ شخصياً لم أقدم يوماً عرياً خاصاً بالدعارة أو الملاهي، أنا أسرد الروح عبر العري، ولم أحقق يوماً لوحةً في هذا السياق بقصد الإثارة».
حمص
في حمص لم تعد (هالة) تتعرف على الناس، ولا على مدينتها؛ فهناك بين أحياء (الحمراء) و(المحطة) و(الملعب) و(الإنشاءات) وصولاً إلى حي (الغوطة) لم تبقِ الحرب أثراً لمدينة ( ديك الجنّ): «مرسمي في حمص لا يزال موجوداً، أتمنى أن أصطحبه أينما أذهب، أحب حجارته السوداء ومساحته الكبيرة والموسيقى التي أستمع إليها هناك وأنا أعمل، الأطفال الذين يزورونني مع كل صباح، يختلسون النظر إليّ من خلف حائط الحديقة، أشعر بهم؛ بطيبتهم وبفضولهم، مثلما أشعر بيأسهم مما يجري».
حزمت الفنانة السورية رأيها أخيراً بالعودة إلى سورية؛ نكلّمها على الهاتف كي نكمل الحوار، فترد علينا بصوتٍ أكثر مرحاً: « أنا الآن في طرطوس؛ لقد ذهبتُ إلى البحر؛ هنا أواظب على الرسم بشكلٍ أفضل بعد أن عدتُ مؤخراً من برلين؛ لا زلتُ أشتاق إلى السباحة في الأزرق السوري؛ بعيداً عن الدم ونشرات أخباره؛ الناس هنا طيبون، أغني لهم وأرسمهم، أسهر معهم لأنسى الحرب».
لدى (الفيصل) موقف من موجة التشويه التي اجتاحت مؤخراً اللوحة السورية المعاصرة: «أسلوب المسوخ والقباحة يتم التركيز عليه؛ كونه يلقى تسويقه بقوة في بلاد الغرب؛ فهذا الغرب يريد أن يربط بيننا كشعوب وبين التخلف والغباء عبر اللوحة التي نصدّرها له، لقد ناقشت الكثير من مديري الصالات في أوروبا حول هذا الموضوع: فقالوا أنتم اليوم وصلتم القرن الحادي والعشرين ولا زلتم تقتتلون بسبب الطوائف! إنهم يريدون أن نظهر كشعوب متخلفة ووحشية ولا تستحق الحياة. تماماً كما حدث مع فلسطين يريدوننا اليوم أن نترك سورية ونرحل، لكن حتى اليوم هناك أناس رفضوا مغادرة البلد، ويعيشون في الحدائق والطرقات تحت القذائف والصواريخ، لا سيما في أحياء حمص القديمة؛ لقد رأيت الكثير من العائلات التي فقدت بيوتها في حي (الحميدية)، لكنها ما زالت مصرة على البقاء، وترفض الرحيل عن بلادها بأي شكل من الأشكال.
صالات العرض المقفلة بسبب الحرب؛ تحرضها على إقامة معرض بدمشق: «المادة ليست مهمة في اللوحة، المهم الموضوع الذي يشتغل عليه الفنان، قلم الرصاص أو الماء أو الزيت، سيان؛ بريشة واحدة أستطيع أن أنجزَ معرضاً، انظر إلى قلم الرصاص في يدي.. إنني أتحدى به رصاص الموت».
نخبة الفنانين التشكيليين لم يعودوا موجودين في سورية – تتابع وتضيف: (ثمة من باع روحه ورحل؛ فالفنان إن لم يكن لديه خلفية فكرية سينساق ويذهب وراء أي تيار أو موجة، وهذا ما حدث مع المحترف التشكيلي السوري الذي دخل كحركة فنية في خضم غسيل أموال أدارته صالات بعينها من داخل إلى خارج سورية؛ هكذا صارت اللوحة السورية تُباع بأسعار وهمية وخيالية في مزادات علنية؛ مستغلةً حاجة الفنانين السوريين ورغبتهم بالشهرة».
———
السفير