هالة المثقف التي أسقطها الناقد


عائشة سلطان *



هناك خطان متوازيان للحقيقة، لا يلتقيان كقضبان السكك الحديدية، لكنهما من الممكن أن يتقاطعا، فإذا حدث ذلك فإن الأمر سيشكل رعباً حقيقياً، الخط الأول هو الحقيقة الظاهرة والحاضرة السهلة، الحقيقة كأمر غير قابل للجدل والإثارة والنقاش، الحقيقة المسلم بها، نهذي بها يومياً، دون أن نتفحصها جيداً أو نناقشها، لأننا هكذا توارثناها وصدقناها واعتدنا عليها، فالماضي جميل ورائع بالمطلق، والتاريخ عظيم ومدعاة للفخر، والقمر جميل ومنير بذاته، والمثقفون دعاة الجمال والحق وأصحاب أعظم المشاريع والأفكار الكبيرة.. وهكذا.

أما الخط الثاني فيقول شيئاً آخر تماماً، شيء صادم وغير متوقع أبداً بل وربما يكون مرعباً، فحين كشفت التطورات العلمية أن القمر ليس سوى كويكب متناهي الصغر قياساً بالشمس والأرض وأنه ليس سوى كتلة من الصخور لا تنير ولا ترسل نوراً لا لعاشق ولا لكناس الشوارع، فغر الناس أفواههم، وبات العشاق والشعراء ليالي يبكون الوجه الآخر للقمر الذي غادر إلى غير رجعة، ومثل ذلك حين يكتشف الباحثون كل يوم جديداً في ثنايا صفحات التاريخ تثبت أن ليس عظيماً ورائعاً بالمطلق ففيه الكثير من الغدر والخداع وجرائم القتل، وأن الذين كنا نعتبرهم لسنين طويلة عظماء ومنزهين لم يكونوا سوى بشر عاديين تماماً دبروا المؤامرات، واحتالوا وخدعوا وقتلوا ومارسوا الكثير من الخطايا، أما الماضي فكان جميلاً وإنسانياً وحميماً كما كان مليئاً بالبؤس والفقر والأمراض!

وفي نهاية القرن الماضي أصدر الناقد البريطاني بول جونسون من صحيفة الأوبزيرفور البريطانية كتاباً وصفه الكثيرون بأنه كتاب مرعب بالفعل، حيث كشف فيه (حقائق) الكثير من المثقفين الكبار جداً، من أصحاب مشاريع التغيير والنظريات التي غيرت مسارات التاريخ، وقلبت سير الاحداث وأثرت الأدب والفن والسياسة والاجتماع، عظام جداً وكبار جداً من وزن ديستويفسكي وتولستوي وجان جاك روسو وهنريك آبسن، وأرنست همنجواي، وتشارلز ديكنز وبرخت وسارتر وغيرهم مما لا يمكن تصور الحقائق، التي أوردها جونسون عنهم وحول سلوكياتهم.

فمن الأنانية المفرطة إلى اغتصاب النساء وادمان القمار والجهل بالاقتصاد والشعور بالفوقية والافتتان بالعنف واستغلال النساء والكذب والإيمان بالشعوذة، والنظر الضيق للمصلحة الخاصة والنزق الشديد و….. صفات لا يمكن تخيلها فيمن نادوا بصالح البشرية وبالعدالة والخير، والحق وأسسوا لقيم الجمال وتوزيع الثروات بعدالة مطلقة، هكذا هي الحقيقة، التي تداولناها طويلاً وآمناً بها في نظرتنا للمثقف لكن بول حونسون أصر في كتابه (المثقفون) على نزع الهالة تماماً!

أراد أن يثبت لنا أن هؤلاء المثقفين يبقون بشراً في نهاية المطاف، فيهم الكثير – كما كل البشر- من التناقضات والأخطاء والآثام، وربما كان جونسون يحاول خلع الحالة الاستلابية أو الافتتانية التي يشعر بها الجمهور تجاههم، وإنزالهم إلى منازل البشر العاديين أو ربما كان يحاول أمراً آخر، لكن كتابه قوبل بالنقد وأحدث دوياً هائلاً لكل ما تضمنه من حقائق جاءت على شكل حكايات ومواقف لا يمكن تخيل مدى صعوبة أن تصدر من كاتب عظيم مثل تولستوي مثلاً كان مغرماً بأفعال خسيسة تجاه فتيات صغيرات يعشن في مزارعه مثلاً أو ديستويفسكي الذي كان مدمناً على القمار أو سارتر المفتون بالعنف.. إلخ!

* كاتبة من الإمارات
– الاتحاد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *