“جسر الجواسيس” لستيفن سبيلبرغ.. بسالة الإمبريالي


زياد الخزاعي

في جديده «جسر الجواسيس»، أعلن الأميركي ستيفن سبيلبرغ انتصاره لبرغماتية «أميركاه»، كونها «وحمة» ولادة حداثية لموظّف عادي ذي «مهمّة»، متطامن مع عائلته الصغيرة، ومزهوّ بعزّة عمله الأخلاقي ومرحماته الشخصية. لن يدافع المحامي جيمس دونوفان (توم هانكس) عن حقوقٍ وحسب، بل عليه تأكيد حذاقاته وجبروت صفته كـ «رجل موقف» (حَرون)، كما وصفه الجاسوس السوفياتي رودولف أبيل (البريطاني مارك رايلنس)، الذي سيكون عليه مقايضته بطيّار متلصّص أسقطت موسكو طائرته، وأسره البلاشفة الجدد.

يتشبّه دونوفان (المكُلَّف بجعل الأسير صنديداً قومياً)، بقامته وبذلته الغامقة، بصنوه أتيكوس فينش، المحامي الساعي إلى براءة زنجي اتّهمته سيدة بيضاء باغتصابها، في رواية هاربر لي «أن تقتل طائراً مغرّداً» (1962). فحبل المشنقة عند لي يتحوّل إلى رصاصة إعدام شيوعية بالنسبة إلى الشاب فرانسيس باورز عند كتّاب السيناريو الثلاثة، الأخوان جول وإيثن كون ومات تشارمن. ليس شريط سبيلبرغ عن جواسيس بنسخٍ تقليدية بين غرب حُرّ وشرق توتاليتاري، على الرغم من ذرائعية اليافطة الافتتاحية القائلة: «العام 1957. الحرب الباردة في عزّها (…)، وكلّ طرف جهّز جواسيسه ومطاردتهم أيضاً»، بل هو برمّته دراسة باردة الدوافع لقرارٍ شخصيّ حاسم، غَلَبت وطنيته على دنياه ورفاهيتها.

في نصّ هاربر لي، يُعادي أهل البلدة الريفية محاميها لأنه دافع عن «عبد»، بينما واجه دونوفان، وهو شخصية حقيقية، ضغينة الجميع بسبب صونه حُرْمَة جاسوس شيوعي، على الرغم من صرخته: «إنّي أفعل هذا من أجلنا جميعاً»، تماماً كما هي حجّة الرئيس «لِنْكن» (2012)، الفيلم السابق لسبيلبرغ. تُرى، أيّ جانب أحقّ: وكالة مخابرات تسعى إلى عودة أسير، أم محامٍ آَمَن بـ «أميركاه» وعقدها الاجتماعي؟ لن يتأخّر الجواب عند سبيلبرغ، إذ يستدعي الواجب قاطن حيّ بروكلين ليمتحن ولاءَه، ويَئِمّ حافة جحيم ألماني، حيث لا تخجل برلين من انفصام أرضها وشوارعها وبشرها وكرامتها.

ثنائية رودولف
بين عالمين متعارضين، أنجز مدير التصوير البولندي يانوش كامينسكي (في التعاون الـ 14 بينه وبين سبيلبرغ) عبرهما مزاجين سينمائيين مفخَّمين بالضياء في مشاهد نيويورك، وآخر قاتما ومظلما بلونين رمادي وأزرق داكن، بالنسبة إلى برلين الصقيعية. صوَّر أناس الأولى أكثر رونقاً، يسيرون بتوزيعٍ هندسي لافت للانتباه، فيما «رعاع» الثانية مكروبون، يعيشون فوضاهم كقدر مرّ. أوقع هذا التصنيف فيلم سبيلبرغ بتنميط فجّ. فالمحامي العنيد يرتّب عالمه كحدسٍ محسوم لأنه صاحب حقّ، بينما الآخرون زمرة دجّالين ومرائين، لا يتوانون عن اختراع عائلة وهمية لرودولف (تورية الاسم لا لبس فيها) في مسعى ابتزازي. حصّن الأميركي الحَرُون كيانه بسريرة نظيفة، تساقط عند جبروتها «الإنسان الأحمر» وخزيه. يقول لعميل «مكتب التحقيقات الفيديرالي (أف. بي. آي.)»، الذي اكتشف أن أصوله ألمانية: «أنا إيرلندي أبّاً عن أم. أنتَ ألماني. تُرى، ما الذي جعلنا معاً أميركيين؟ إنه الدستور وقوانينه». هذا عنوان عريض لإنصاف كائن «كومبرادوري» يشتري الحريات، ولا يتحرّج من شراكة عدوّه في منظومته ومواطنته، ولن يتردّد في محقه إن تعدّى على غطرسته.
هذه الأخيرة مثّلها رودولف، الذي نراه في مشهد افتتاحي مصنوع على منوال الهولندي يوهانس فيرمير (1632 ـ 1675): رجل كئيب بوجه شمعي، ينظر إلى انعكاس صورته في مرآة، قبل اكتشافنا أنه يرسم صورته بدقّة مدهشة. إنها الثنائية التي نلتقيها مع تردّد دونوفان وشكوكه بقبول المراوغة السياسية. رودولف رجل ذو بأس وتكبّر، يعي جريمته، لكنّه على قدرٍ من المروءة. يقول للبطل: «ما معنى الخطوة المقبلة إن كنتَ لا تعرف أصول اللعبة؟»، مشيراً إلى أن مقايضة الجواسيس عند جسر «كلينيكه»، الفاصل بين شطري برلين، لن ينهي إثم الضغائن والارتيابات. في لحظة مجيدة، يكشف العميل السوفياتي عن شدّة حقيقية. عندما يتأخّر تبادل الخطاة، يقرّر ردولف ألاّ يسلّم نفسه، قائلاً: «لا ضير إن انتظر قليلاً». فجَزَع دونوفان كامن في عارٍ قد يتلبّس كرامة «أميركاه» إن فشلت العملية.
لا يبخل أستاذ التشويق على متفرّجه بضربة معلّم. فعندما يتمّ التبادل في ليلٍ عبوس، يسلِّم الأول للأميركي لفافةً وهو يتمتم: «هذه هديتك، يا رجل الموقف». نكتشف لاحقاً أنها لوحة بورتريه دقيقة حقّقها لوجه دونوفان. الإشارة بليغة في أن الجاسوس المحترف لم يخن عرفانه له.
مشاهدة «جسر الجواسيس» ممتعة، ومقنعة بحجتها ذات البناء التقليدي المغرق بتجاريته، لكن قطعاً ليس تحفة ستيفن سبيلبرغ، ولن يصل الفيلم الجديد هذا إلى متانة نصّ توماس ألفردسون «عامل خياط جندي جاسوس» (2011).
———-
السفير

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *