زهرة مرعي *
“جسر نحو فلسطين” معرض جمع سبعة عشر فناناً منغرسين جسداً وروحاً في هذه الأرض الجليلة، منهم من يعيش فوق ثراها، ومنهم ولدوا خارجها بفعل النكبة. ثلاثة أجيال من الفنانين من الضفة الغربية، قطاع غزة، لبنان، سوريا، الأردن، فرنسا والولايات المتحدة شاركوا في المعرض الذي افتتح في بيروت في 26 حزيران/ يونيو واستمر حتى الثاني من آب/ أغسطس في مركز بيروت للمعارض – البيال أنجز بتنسيق من غاليري مارك الهاشم.
معرض يشكل رؤية أخرى عن فلسطين وشعبها. كما ويشكل تواصلاً شفافاً ومباشراً أحياناً، ورمزياً أحياناً أخرى مع ناس وأرض وقضية. في هذا المعرض الذي ضم أكثر من ستين عملاً يبدو المتفرج حيال موضوع عاطفي بامتياز، حيث لكل لوحة أو عمل قراءة تحفر عميقاً في ذاكرة الجلجلة الفلسطينية، وفي التجليات اللاحقة التي تركها الفعل المقاوم لهذا الشعب. وكان لفلسطين القضية، وللشعب الصامد والمناضل أن يثيرا لدى الفنانين آلاف الأفكار.
فكل ما في فلسطين من فن ومقاومة وصمود جعل من فلسطين قضية عصية على الموت، الفرضية التي راهن عليها المحتلون الصهاينة.
«جسر نحو فلسطين» يضم تنوعاً فنياً شكل غنى لهذا المعرض. وهذا التنوع يتألف من المنسوجات، فيديو، تركيب، تصوير فوتوغرافي ورصاص. في الداخل يستقبل ناصر سومي الزوار بتجهيز خشبي يجمع بين القدس وبيروت، وفيه كلمتان أثيرتان لمحمود درويش كتبهما بعد سنة 1982 في قصيدة «مديح الظل العالي»، وهما «بيروت خيمتنا».
ولناصر سومي حضور واسع في هذا المعرض تمثل بأيقونة يافا، جدار ازرق نيلي وخلفه غرفة تجمع صناديق معلقة مفتوحة تحمل كل منها قشرتي برتقال على شكل موجة، وزجاجة من مياه يافا. وعلى باب كل من تلك الصناديق عُلقت رسالة بخط يد صاحبها أولها من لاجئ روى فيها حكاية الهجرة القسرية «ثلاثة أيام أو أربعة على الأكثر أسبوع وتعودون…». وصار الأسبوع 62 سنة؟ الصناديق ثلاثون، وكذلك الرسائل الذكريات أو الأمنيات، عشر منها كتبها فلسطينيون لا يزالون في يافا، وعشرون من الذين غادروها.
بين كل من تلك الصناديق اشرأبت شمعة، وزنر المكان ما يشبه بحر يافا، أوعية طولية زرقاء فيها ماء. هي فكرة جميلة وجديدة جديرة بالتوقف عندها، فليافا وبرتقالها حكاية مقاومة تقلق العدو. وفي مكان آخر عرض سومي ثلاث لوحات تجريدية تجسد على التوالي البحر، الأرض والسماء.
وتحت عنوان «حصار الحصار» حوّل محمد مسلِّم زيتون فلسطين إلى لآلئ تزين عنق صبية. وصار الصبّار بيضاً في كرتونة، أما البرتقالة فصارت عصية على الاستهلاك لأن البرغي الصهيوني نخرها من جهة لأخرى. إنه البرتقال مرة أخرى. اختار تيسير بركات تجسيد الارتحال عبر قلم الرصاص، فكانت موضوعات مألوفة للعين. لبركات زيتية من الحجم الكبير جسدت الرحيل ليلاً وعلى متن حمار. مرارة هذا الرحيل ظهرت حتى على حركة الحمار الذي كان يئن بصمت.
وعرضت رانية مطر صوراً فوتوغرافية من مخيمات برج البراجنة وبرج الشمالي. رولا حلواني حجزت للفيديو خاصتها غرفة معزولة بستار أسود. أما محتويات الفيديو فكانت الوجوه التي تتوالى تباعاً، وكل منها يحمل تعبيراً عنوانه المشترك المرارة.
أما فيديو بشّار الحوت فتخصص بتظهير الواقع اللاإنساني الذي يرزح تحته سكان المخيمات، وكانت الطفولة هي العنصر الأبرز المسجون داخل مساحات بالكاد يصلها الهواء. محمد الهواجري قدم موضوعات مثيرة للانتباه والجدل. موضوعاته مستوحاة من فنانين عالميين.
استخدم تصوير الديجتال جامعاً ما بين التصوير والزيت. فاشتغل على لوحة ديلاكروا التي تحمل عنوان «الحرية تقود الشعب» وصارت بين يديه حشداً كبيراً جداً من البشر، نار مشتعلة في كل مكان، وجثث شهداء ملقاة فوق بعضها البعض لا حصر لها. وهي دون شك تمثل واحدة من الساحات الفلسطينية الكثيرة التي ارتكب فيها العدو الصهيوني مجازر بحق الشعب الأعزل ليس آخرها صبرا وشاتيلا، فبعدهما كانت غزة مسرحاً للكثير من المجازر الكبيرة.
مع منذر جوابري كان وجه الفدائي المتخفي خلف كوفية موضوعاً شفافاً بما أظهره من تعبيرات حاكتها لغة العيون وتصميمها. كذلك كان لليلى الشوا لقاء مع الكوفية حيث قدمتها عبر لوحة كبيرة بالألوان الأساسية.
أما تركيب البندقية معها فاقترب من شكل الاحتفال. تلك البندقية المنتصبة المزهوة بألوانها المشغولة من الستراس رفرفت عليها الفراشات الجميلة. بين الموت الذي تقترفه البندقية ظلماً وطغياناً، وبين كونها الوسيلة الوحيدة للحرية ثمة مسافة كونية. هم شهداء فلسطين أزهروا فراشات على متن وجنبات بندقية ليلى الشوا.
هي بندقية تنشد الحياة الحرة. بشير مخول صور في بيروت جراح الجدران التي خلفتها القذائف الصهيونية، فوصلتنا جراح ناطقة بالصبر. أما سميرة بدران فتركت الأقدام المنزوعة عن الجسد تروي حكاية بألف حكاية. موضوع يجمع بين القوة المتمثلة بالأقدام الثابتة في الأرض، وبين العنف المتمثل في قضبان الحديد التي تحتل مكان الجزع وتلغيه.
وضع المعرض زائريه أمام موضوعات إنسانية هي جزء من يومياته. موضوعات استوحاها الفنانون السبعة عشر من عمق معاناتهم. اعمال كثيرة جديرة بالتأمل والتبصر والتدقيق. تنوع الأعمال بين تجهيز وفيديو، رصاص وزيت شكل مصدر غنى للمعرض.
هو «جسر نحو فلسطين» قائم على الدوام في الوجدان والموقف، حضر إلى بيروت ليجسد القضية بلغة الفن، فكان خير رسول.
* القدس العربي