حسن نصور
في إصدارها الجديد «نسيج يستيقظ» (2015) تطرح الشاعرة والرسّامة التشكيليّة المصريّة غادة خليفة (1977) إشكالية طبيعة الصّلة بين النصّ اللغوي الشعريّ واللوحة التشكيليّة لناحية الإمكانيات المتاحة للعمل التشكيلي المرفق بالمقاطع الشعرية في أن يتواءم أو يتمفصل مع المقطع المقصودِ بمزاج أو دلالة معيّنين. إنّها، بطبيعة الحال، إشكالية قديمة تتّسم بالتعقيد إذ إنّه من البديهيّ أن ينقدح في ذهن المتلقي، في وضع جماليّ كهذا، سؤالٌ أساسيّ حول شعريّة العمل التشكيليّ.
كيف يضيف هذا الرسم إلى النص دلالة فوق دلالته اللغوية وحساسيّاته الشعرية؟ هل هو استكمال تشكيلي لما عجز النص الشعريّ عن بلوغة بأداة اسمها اللغة؟ هل يتّسم هذا الرسم باستقلالية دلاليّة نسبيّة تجعله قابلاً لأن يكون، في مستوىً معيّن، منزاحاً عن مقرونه اللغويّ؟ إنّها أسئلة تحضر بقوة في لوحات الشاعرة التي قد تأتي في هذه المجموعة مرفقة تارة بنص واحد وطوراً بمجموعة من المقاطع.
في «نسيج يستيقظ»، تبدو الأعمال التشكيليّة متصلة لناحية أنها، في الغالب، وجوه معطوبة ولا تستوي من حيث ثبات خطوطها وتقاسيمها. والوجوه هنا، بما هي بورتريهات جانبيّة تقيم التعريف بالشخص أو بالذات المتكلمة او المخاطِبة، فإنها تحيل مباشرة بهذا التشكيل لعطب غائر في النفس. إنّه مزاج شعوريّ أو عاطفي لا يبدو أنه يتلاءم مع أي تعريف نمطيّ لمجمل المواضيع التي هي هواجس اليوميّ في نصّ الشاعرة (الحب، الآخر، الانتحار..). إنها، بكلمة، بورتريهات تعزّز الإقامة في القلق والانسجام المفقود. قد تكون أيضاً تعبيراً كلّياً عن الذات، إذ تتمرأى هذه الذات بشكل جزئي، مفكك من خلال هذه اللوحات، فيما يقابلها من النصوص الشعرية اللغوية.
لا نلتمس عند صاحبة «تسكب جمالها دون طائل، 2011» تعدداً أو تنويعاً، فيما يتصل بثيمات المجموعة. إنها تقريباً ثيمة واحدة تعكس مزاجاً شعورياً واحداً ومتفرّداً. نقصد موضوعة العلاقة مع الذات ومحاولة إقامة مونولوغات أو مقاطع تشترك في كونها إحياءات بصيغة الأنا لمجمل الهواجس العاطفية والأنطولوجية. إحياءات يكون الهدف من خلالها فقط التظهير الشعري لذلك البعد الجماليّ الأصليّ في العلاقة الشائكة مع الذات. «أحوّل الشغف إلى كلمات جافّة/ كلّ هذا الجمال أصبّه داخل ماكينة الكتابة/ الطاحونة التي تعيش على دماء أطفالي/ وترغب في صرخات جديدة كي تعمل» (ص20)، «أنا هذه المرأة التي أحاربها على الدوام/ لكنني برغم كل شيء لا أملك سوى خطوتي الصغيرة/ وهذا الكفّ الذي لا يصلح لأيّ باب/ أراقب الشروخ البطيئة التي تنتشر من دون ضجّة/ الأحلامُ لا تحمي المغفّلين/ ولا أولئك الذين يعودون إلى البيت/ بكسر حادّ في الرقبة» (ص9)، لم أتزوّج يا سيلفيا/ لست منهكة بأعمال المنزل ولا مجبرة على العمل/ مع ذلك أفكّر في الانتحار مثلك تماما» (ص13)، « أضع السماعات الكبيرة كي أهرب من كلام يلتفّ حول عنقي مثل شريط لاصق/ أحاول مراوغة كلام يرغب في منعي من الكلام/ لكنّه يواصل عمله في بساطة/ يخرّب قطعة الارض الصغيرة التي أجلس فوقها/ كي أكتب» (ص14)، «سأغادر/ حتّى لو تطلّب الأمر ان أتخلّص من قدميّ الملتصقتين بالأرض» (ص63).
بخلاف المجموعتين السابقتين، ثمّة مساحة سردية وازنة للشعر السردي في نصوص هذا العمل. تقنية الكتابة السردية شعرياً لا تبدو طارئة او مكتشفة في هذا العمل بل إنها تبدو حاجة تلائم حساسية هذه المجموعة. حساسية لا تنفصل عن حساسية النبرة الشعرية العامة لدى الشاعرة غير أنّها تؤشر لقدرة وإجادة في التعامل مع التعبير الشعري سرداً بشكل أكثر تخففاً من الناحية اللغوية مع المحافظة على صوت شعري يزداد إيغالاً وعمقاً وتوتراً. يبدو ذلك واضحاً من خلال استقراء نماذج متفرّقة من المقاطع يكون الشغل فيها السرد مركّزاً على إيصال هذا المزاج العامّ للمتلقّي، بنسخة هذه المجموعة، من دون انشغالات بديعيّة (تشابيه واستعارات في الغالب) أو لغوية معجمية متكلّفة تخرجُ السرد عن وظيفته الشعريّة. «في الثامنة والثلاثين سأخلع ضرساً جديداً. من سيحبّ امرأة تفقد أسنانها كلّما نامت؟ النوم يقنع عظام فكي أنها مكبّلة بالأسنان. يخبرها أن بالجسد عظاماً لا تثمر. أن الأسنان ثمرة تقتل شجرتها ببطء». «جبل الكتابة عظيم وأنا هشّة. يقدّمون لي الكتب مع الطعام كي تلتفّ الكلمات حول عمودي الفقريّ مثل دعامة. يخبرونني أن أكل الكتب سوف يجعلني أتحسّن وكلّ ما يمرّ بخاطري أنني أحتاج إلى خطوة أكثر ثباتاً لأجري/ أكتب لامرأة تنتظرني داخل شرفة بيت بالكاد يسع امرأة ضئيلة، وجدت داخل الحرب. أكتب لامرأة تحارب منذ صرختها الأولى، كي أخبرها أنها لن تنتصر أبداً، ولن يمكنها تسلّق جبل الكتابة، كلّ ما عليها فعله هو أن ترى» (ص111).
——
السفير