حوار: علي عبيدات*
خاص ( ثقافات )
كان ميلاد قصيدته حيث قتل الحارث بن عمير الأزدي في محيط صهيل مؤتة جنوبي الأردن، وكانت الكرك وبعدها بغداد مدار الجغرافيّة التي صنعت من حكمت النوايسة شاعراً مسكوناً بالتاريخ ودفء الحروف التي خلّدت موقفه من الحرب في ديوانه الشهير “أغنية ضد الحرب” هذه الحرب التي ولد في محيطها، أسبّغت على الشاعر المسكون بالنزّق التاريخي سمّة الانفلات من القوالب المعتادة والرفض الدائم حتى على مستوى القصيدة وبنائها وكيف اعتادتها أهلها.
عزف النوايسة على أوتار خارجية عام 1994 وصعد إلى مؤتة عام 1996 ثم استظل بشجرة الأربعين عام 2000 وتشظى كأنه السراب عام 2002 وبدأت أغنّته ضدّ الحرب عام 2005، وله مسرحية بائع الأقنعة التي جبلها بفنتازية الواقع وغرائبيّات المُعاش، ثم حضر الفعل النقدي في مؤلفه “المآل”، وبعدها “الكتابة ووعيها” الذي سبر فيه سرديات إلياس فركوح، ثم “البحث عن المعنى” الذي درس فيه السرد العربي، وغيرها من الأنشطة غير المنهجيّة والأنشطة الثقافية على المستويين العربي والمحلي.
حصل النوايسة على بكالوريوس في الجغرافيا من جامعة بغداد عام 1987 ثم بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة مؤتة 1996 ثم دبلوم عام في التربية من الجامعة ذاتها، ثم ماجستير في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأردنية.
وضمن لقاءات ( ثقافات ) بالمبدعين العرب، أجرت الحوار الآتي مع الأديب حكمت النوايسة ليحدثنا عن نصيب ثنائيات التنوير والدين والعلمانية في صدر المبدع العربي.
1. العلمانية والمدنية والليبرالية، اصطلاحات قديمة جديدة ومشاريع يؤمن بها المبدع العربي مؤخراً كيف يرى حكمة النوايسة نصيب هذه الاصطلاحات في كينونة المبدعين، وهل هناك استجابة لدى النشء الذي ساهمت بتربيّته ردحاً من الزمن لتقبل هذه الرؤى؟
هي اصطلاحات، ومقترحات، تختلف مسمّياتها، وتنتقل على الشفاه دون تأمّل أو بعض تأمّل، فهي في جوهرها مقترحات للتوافق المدني على شؤون الناس في إطار جغرافي محدّد، وهي ليست مثار جدل بقدر كونها مثار سوء فهم… ومن المفارقات العجيبة أنّهم يعاملون العلمانية كالآتي: العلماني يضعها ضدّ الدين، وليس محايدة معه، فيحوّلها من مشروع حياة أو مقترح حياة إلى دين مضاد، والمؤمن يجعلها الكفر الصراح، فينقلها أيضا من مقترح لتوافق مدني إلى دين مضادّ أيضا… إذا كانت العلمانية تنضوي تحت شعار (فصل الدين عن الدولة) فإن ذلك يعني بناء مؤسسات الدولة وفق الأنظمة والقوانين التي يتوافق عليها المشرّعون دون أن يكون التديّن لا الدين معيارا للإحلالات ودون أن يكون الفقه الديني فيصلا في قضايا إدارية قد تكون دقيقة وقد تكون عابرة وقد تكون جراحية.
أنا شخصيّا لا أعادي العلمانية إلا عندما تعادي الدين، لأنّها لحظتئذ ستكون ممارسة عاتية على المجتمع، ولأنّها تبدو كأنها بديل للدين، وما يظهر على السطح هم متطرفون في طرح فكرة العلمانية، ومتطرفون في طرح نقيضها، لذلك لن يتاح للمجتمع أن يقرر بوعي ما الذي يريده، وبالتالي، فهو متروك من قبل النخب المشغولة بالجدل العقيم ليواجه مصيرة أمام مقترحات عجيبة يقترفها صاحب السلطة، فيها ما هو علماني وفيها ما هو ديني أو تديّني… وأما الأجيال القادمة، فإنهم تابعونا لأنهم وجدونا هكذا، وقد صادرنا مستقبلهم تماما: أرضهم بإرهاقها بالإهمال أو العبث، وأفكارهم لأننا نورثهم الثأرات والتطرف.
2. يعتبر حكمت النوايسة أديباً محافظاً ملتزماً متكيفاً مع الدين والعادات والتقاليد في إبداعه دون تطرف أو غلو في مكونات هذه الهوية وفق مشروعه الإبداعي وما يتداول عنه، فهل ترى هذا معياراً يمكن من خلاله أن نحكم على الطابع العام لحكمت النوايسة -تحديداً- ولباقي الكُتاب وهل هذه الأركان مهددة بعد نداءات العلمانيين التي وصفها البعض بالمُقلقة؟
قيل سابقا إنني أسكن التاريخ، وقيل كثير غير ذلك ممن يكتفون بجزئيات المواقف ويؤسسون عليها رأيهم في الأديب، الأديب عالم متكامل، فأنا لست محافظا، لكنّني لست متطرفا في البحث عن الجديد، وكيف أستطيع أن أكون ذلك وأنا أقرأ التاريخ قراءة جيدة، وأقرأ فلسفة التاريخ أيضا، كما أنني مختص بتحليل الخطاب، وعليّ أن أكون هناك، في المنطقة التي تسمح لي برؤية الأمور من زاوية تحاول الحياد، وتنظر إلى السلوك لا إلى صاحب السلوك، وتنظر في الرأي لا في صاحب الرأي، وتنظر في المنجز لا في صاحب المنجز، من هنا أستطيع أن أجيب عن سؤالك في جزئيته المتعلقة بتهديد النداءات العلمانية، أو ما تثيره من قلق، وأقول إنها موجة سانحة لركاب الأمواج، لكن الأمواج بقدر ما تتيح من مساحة للفرح أو الغبطة لركابها، فإنها تتميّز بإنها لا توصل أحدا إلى ما يريد، وإنما توصله إلى ما تريد هي، من هنا، أنظر في هذه النداءات، وأصاب بالقرف عندما تتحول من رؤى إلى شتائم، ومن نظر إلى تحزّب أعمى، فمثلا: هناك من يعد حجاب المرأة تخلفا، وهناك من ينظر إليه بوصفه واجبا شرعيا، وهناك من ينظر إليه بوصفه واجبا اجتماعيا، إلى آخره… أنا أنظر إليه من زاوية أخرى، من زاوية أنّه ليس موضوعا، إنه اختيار، فمن تلبسه تدينا، ومن تلبسه تمشيا مع مجتمع ومن لا تلبسه اختيارا شخصيا… هذه اختيارات الناس، وتقييم اختيارات الناس بهذه الصورة أعدّه تطرفا، كما أعدّه دكتاتورية…
3. أغنية ضدّ الحرب.. وصف بأنه ثورة ليست غريبة عن توهج حكمت النوايسة وخيله التي لا تروض، هذا النزق الذي ربما خدم وأضر حكمت نوايسة الذي استحق ويستحق الكثير في معمعة النواميس التي يتخبط فيها الكفؤ وغير الأكفاء، مع أي صف سيكون هذا النزق على اعتبار أننا الآن بين العلمانيين ورؤاهم الجديدة والمحافظين الموافقين على الإصلاح دون هدم الدين، وهل فعلاً ثمة هدم ومحافظة؟
أنا أنظر، فقد أكون هنا وقد أكون هناك، وقد أكون خارج كل هذا تماما، وأقول بحكم معرفتي بالتاريخ، والتاريخ الاجتماعي، إنّ أي تغيير اجتماعي هو ابن الحاجة إليه، وبحكم انقسام الحاجات إلى معنويّة/ عليا، وماديّة/ دنيا، فإنّ التغيير سيكون رهين هذه الحاجات، وقد يغلب المعنوي على المادي، وقد يغلب المادي على المعنوي، فنصف الثورة بثورة الفقراء، أو ثورة المظلومين أو أي وصف آخر وفق الطابع العام، لكنّ تحت هذا الطابع العام هناك التفاصيل، والتفاصيل هي الحقيقة القادرة على التفسير…. وأتساءل: هل الدين مسؤول عن الفساد؟ لكي نربط بين الإصلاح وهدم الدين، ثم أتساءل: هل تستطيع أي قوّة في العالم هدم الدين، هكذا بالقوة؟ لا أظن، وأجزم أنه لا يمكن، والتجارب كثيرة كثيرة فلدينا معتقدات جاهلية ما زالت قائمة بعد مرور ألف وأربعمئة سنة على الإسلام، والدين الذي حارب العشائرية هو نفسه لجأ إليها في الحروب بعد عشرين أو ثلاثين سنة، عندما كان الجيش يقسم على القبائل… وكذلك محو الأديان، فكثير من المناطق خضعت لكحم علماني أو شمولي أو دكتاتوري فردي معاد للدين، وعندما زال الحكم عاد الناس إلى دينهم… إذن المسألة أصعب من أفكار للنقاش، ذلك أن الأفكار ستكون نيرة عندما تنبثق من الناس وهم يتململون نتيجة ظلم أو فقر أو تهميش، وعندما يتحرك الناس ستكون الفرصة سانحة لتبني الأفكار أو عدم تبنيها.
4. ازدادت نداءات فصل وإصلاح ومُعاصرة الدين وصار مصطلح “المؤسسة الدينية” الذي أطلقه أدونيس في الثابت والمتحول رائجاً بشكل لافت، فهل تأخر العلمانيون ونُقاد الدين على تقفي أثر أدونيس وظهروا في السنوات الأخيرة أم كان أدونيس صاحب نبوءة؟ وهل فعلاً علينا أن نعيد صياغة النص الديني وفق حاجة هذه العصر وأمسى رجعياً وفق ما يتدوال؟
دعني أصارحك: من نحن لكي نصوغ أو لا نصوغ، هل تعتقد أنّ الناس ينتظرون المفكر لكي يخرج عليهم بجرابه المليئ بالتفاصيل؟ أبدا، ولن يكون في أي زمن إلا بعد أن يتململ الناس، أي عندما تتحرّك الحاجة وتصبح مطلبا اجتماعيا عندها يأتي دور المفكر في اقتراح الخيارات والاختيارات لشكل معالجة الأمر الذي تذمر منه الناس… هكذا… وأما مقترح أدونيس أو قراءته، فهو مقترح، ولا بد من قراءته ففيه شيء من صواب، وفيه شيء من خطل، ومع ذلك يشكّل، بعامّة، جزءا من أدبيات النقاش أو الحوار في هذا الأمر أو ذاك… أدونيس ليس صاحب نبوءة، وإنما صاحب دعوة، للقطعية، ولتفجير الوعي بمعنى نسف الوعي القار الساكن، وأشياء أخرى لست بصدد مناقشتها، وإما إعادة صياغة النص الديني، فأمر عجيب، أي نص ديني، هل نملك حق صياغة النص الديني، القرآن مثلا، أم الحديث، أم العهد الجديد أم أي نص ديني، نحن بحاجة إلى تخليص الدين من الشوائب، وهذه مهمّة الفقهاء، ويدعو إليها الأدباء والمفكرون… أنا لست مع القطيعة مع التراث، ولكنني مع قراءة التراث قراءة واعية مفارقة، بمعنى الاستفادة من المعطيات التراثية التي أسست للوعي البائس، أو الوعي المزيف، والتخلص منها ببديل قابل للحياة.
5. هل سيكون التنوير حقيقياً نافعاً وفق معطيات ومشاريع ونداءات اليوم؟
لا أدري، لأنّ هذا يعتمد على المنوّر، تنوير بماذا، هل هو تنوير بالاشتراكية، أم بالرأسمالية أم بالدولة المدنية والعلمانية أم بماذا، ومن الذي يقوم عليه، وما مدى تطابق واقع حال القائم على التنوير مع ما يدعو إليه؟
هناك كثير من الحركات الراديكالية الشمولية انطلقت من مبدأ التنوير، فأي تنوير تريد لكي أستطيع الإجابة.