*مازن معروف
سيتمهل القارئ قبل الانتهاء من كتاب «نوادر ماركو فالدو» (دار ميريت)، على رغم الترجمة المتواضعة، بل المتضعضعة في بعض الأحيان، التي أنجزها المحمود ابراهيم، ولم نعرف ما إذا كانت نقلاً عن الإيطالية أو لغة وسيطة كالإنكليزية أو الفرنسية. غير أن مقاربة النص العربي مع ترجمات سابقة سواء بالعربية (صدرت بالعربية قبلاً عن دار أزمنة تحت عنوان «ماركو فالدو»، ترجمة منية سمارة ومراجعة فخري صالح) أو الإنكليزية أو حتى لغة العمل الأصلية، ستبيّن للقارئ مدى الخلل الذي تعانيه هذه التـــــرجـــمة الصادرة اليوم، سواء في المفردات أو التشابيه والتوصيفات أو حتى الجُمل التي أسيء فهمها في بعض الأحيان. أما المفردات المستقدمة من الدارجة المصرية، والتي أتخم النص بها وصنعت من جهة مستوىً آخر من العذوبة والفكاهة في الرواية. إلا أنها لم تتوازن إطلاقاً وخصوصية لغة كالفينو في العمل الأصلي. ما ذوَّبَ في شكل خاص، شعريةَ الكتاب، كما أضاع الخصوصيات الجمالية على مستوى صياغة الجملة وتركيبها. مع ذلك، فإن هذه الترجمة، وعلى رغم كل عيوبها، لم تستطع أن تصادر تماماً شبح إيتالو كالفينو أو تصفّي النص من الحد الأدنى من سحرية هذا الكاتب.
في ستينات القرن المنصرم، أنجز كالفينو كتاباً مموَّهاً في جنسه الأدبي. مجموعة من القصص القصيرة والسحرية والمستقلة عن بعضها البعض، والتي من خلالها يختبر ماركو فالدو وعائلته الواقع الجديد. غير أن الكتاب هو من ناحية أخرى، رواية تجري أحداثها على مدى خمسة أعوام. فعائلة فالدو، الموظف البسيط، هي أشبه بمجموعة أفراد نائمين، يستيقظون مرة واحدة في كل فصل من فصول السنة الأربعة، فيعيشون تجربة ما، مغامرة أو حدثاً ثقيلاً يهبط عليهم فجأة. بعد ذلك يتلاشى أثرهم، فلا نعرف عنهم شيئاً إلا من خلال قصة جديدة تحدث في فصل آخر من فصول السنة.
ليس هناك إذاً حدث واحد يتطور أو يتتابع درامياً أو كرونولوجياً. وليس هناك أيضاً من صلة بين قصة وأخرى إلا ماركو فالدو نفسه وعائلته. هؤلاء فقط وبتقشّفهم وفقرهم المدقع وقلقهم، يشكلون الأرضية الثابتة التي تقف عليها كل أحداث الكتاب. مرة يصطحب ماركو فالدو مخدته ويذهب للنوم في الحديقة العامة، ومرة يدعو الناس لقطف الفطر الذي يتبين لاحقاً أنه سام، أو يدخل المستشفى ويعثر على أرنب مختبرات أو يذهب لصيد السمك في نهر ملوث بمواد كيماوية، أو حين يجد نفسه يقيم إلى جوار لوحة إعلانية ضخمة تضيء ليلاً لتحجب ضوء القمر والأفلاك والنجوم، كما حين تختاره الشركة ليتنكر بزي بابا نويل ويوزع الهدايا على أولاد أثرياء نسبياً. أما المكان الذي تقيم فيه عائلته، فينقلب مرة واحدة وفي شكل حاد، من شقة في طبقة تحت الأرض، إلى غرفة فوق سطح أحد المباني. هذه النقلة العمودية، لا تعكس أي تحسّن في مستوى دخل ماركو فالدو، ولن تؤثر – وهو المفترض به الآن أن يكون مشرفاً من سكنه الجديد على المدينة الصناعية – في فكره الرومنطيقي أو تسيّر وجهة أحلامه. فماركو فالدو المهزوم تحت سطح الأرض، مهزوم حتى وهو الآن فوقها.
عندما كتب إيتالو كالفينو عمله هذا، كانت إيطاليا منهكة من الحرب العالمية الثانية وتسعى الى النهوض، أما كالفينو فمضى في انتقاد سياسة نظام اقتصادي جديد ولد وتكرّس مع انتصار الولايات المتحدة الأميركية. نظام إمبريالي سيفضي إلى سحق طبقة سكانية من الأوروبيين داخل مدنهم التي ألفوها وأقاموا فيها وعملوا لأجلها. هذا كله على حساب ازدهار جزئي في بعض مناطق أوروبا، كمدن القسم الشمالي من إيطاليا مثلاً، الأكثر ثراء على رغم قربها الجغرافي من ألمانيا، واشتمالها على قطاع التيرول الإشكالي جغرافياً وثقافياً، والذي كان منطقة مضطربة في تلك الفترة، بسبب رغبة السكان هناك في نيل استقلالية اقتصادية ستتغذى لاحقاً بدعم كل من النمسا وإيطاليا وألمانيا معاً.
وفي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، شكلت فئة من السكان طبقةً اجتماعية منسحقة ومدقعة، متقشفة و «راضية» (هذا ما يفترض بها أن تكون عليه). ورغباتها الإنسانية البسيطة تغلب عليها مسحة رومنطيقية متوارثة من أفكار عصر النهضة، هي الآن «هرطقات» ساذجة غير قابلة للتطبيق. إنها طبقة اجتماعية سيكون إدراكها بالتغييرات المدينية والعمرانية والتكنولوجية ذات الطابع التجاري، متأخراً. أما الشركات الكبرى التي تتفشى من حولها، فتغطيها آليات «قانونية» تجرد المرء من أبسط حقوقه في الهواء والطعام والهدوء، وتفرض عليه نمطاً حياتياً جديداً، استهلاكياً، يعج بالألوان والإعلانات والتلوث والصخب. والمدعو ماركو فالدو واحد ممن يندفعون وراء حلم ساذج ما، إذا ما تحقق فسيكون سبيلاً إلى الرخاء المادي والطمأنينة. لكنهم يخفقون دائماً، ويكتشفون في كل مرة أن المدينة التي ألفوها تنجرف بعيداً منهم، وأن ثباتهم في مكانهم ما هو إلا ثبات في قبر.
_______
*المصدر: الحياة