غاتسبي العظيم (2013): سقوط مبكر للحلم الأمريكي


*مهند النابلسي


خاص ( ثقافات )
ينتقل نيك كاراوي من مينسوتا لنيويورك في صيف 1922 لتعلم مهارات التداول بالسوق المالي، ويستأجر بيتا بلونغ آيلاند (Long Island)، المنطقة الثرية الخاصة بالأثرياء الجدد، هؤلاء التافهين اللذين لا يهتمون إلا بالمظاهر و باللهو والاستعراض.
يقع بيت نيك بجوار قصر يملكه ثري غامض يسمى “غاتسبي”، الذي يعيش لوحده بقصر كبير “غوتي التصميم”، ويقيم كل ليلة سبت حفلات باذخة استعراضية ضخمة. ونيك يختلف عن الآخرين بكونه أنهى دراسته بجامعة بيل الشهيرة، ولكونه طيبا وخلوقا وبريئا. 
ويذهب نيك مرة لتناول العشاء برفقة ابنة عمه “دايزي بوخانان” وزوجها الثري الماكر توم، ويتعرف هناك على جوردان بيكر، ويميل لإقامة علاقة رومانسية معها. ويتعرف بعمق على طبيعة العلاقة الزوجية ما بين دايزي وتوم، كما تبلغه جوردان بوجود عشيقة سرية لتوم واسمها “ميرتيل ويلسون”، التي تعيش بمنزل متواضع في وادي الرماد، وهي منطقة صناعية بائسة وفقيرة معدمة تستقبل كافة أنواع المخلفات من كل من ويست ايغ (West Egg) ومدينة نيويورك. 
وربما قصد هنا بذكاء، تسليط الأضواء على الفقر وبؤس الحياة في هذه المنطقة الاستراتيجية للمقارنة مع نمط الثراء الفاحش لأبطال الرواية الأساسيين.
وبعد هذا الاكتشاف الهام يسافر نيك لنيويورك برفقة توم وميرتيل، منضما لحفلة سرية رخيصة حيث يسعى توم بحرية لإقامة علاقة آثمة مع عشيقته، وتتطور الأمور فتقرعه ميرتيل بشأن زوجته، ويضطر لتوجيه لكمة كاسرا أنفها.
ومع قدوم الصيف يجد نيك دعوة خطية نادرة لحضور إحدى حفلات غاتسبي الباذخة (الذي يبدو وكأنه كان يراقبه عن بعد)، ويلتقي هناك مع فتاة جميلة اسمها “جوردان بيكر”، كما يلتقي كلاهما لاحقا بغاتسبي نفسه، الذي بدا غامضا ومنطويا ويتحدث الإنجليزية بلكنة خاصة ويبتسم بطريقة لافتة غريبة، كما أنه يميل لأن يدعو كل شخص يلتقي به بعبارة “اولد سبورت” (الرياضي القديم).
ويلتقي غاتسبي بجوردان أولا، التي تخبر بدورها نيك بعض التفاصيل عن جاره الغامض. كما يخبرها غاتسبي بأنه كان يعرف “دايزي” منذ خمس سنوات (قبل ذهابه للحرب)، وأنه قد وقع حينئذ بحبها، كما أنه يقضي الليالي العديدة متأملا الضوء الأخضر الصادر عن بيتها من خلال الخليج، وقد كشف لها كذلك، بأن نمط حياته الاستعراضي الجامح والحفلات الباذخة التي يقيمها بقصره، ما هي في حقيقة الأمر إلا وسيلة لإدهاش دايزي والتأثير عليها.
حب رومانسي فتاك وصداقة نادرة
يكشف غاتسبي لنيك رغبته الشديدة بأن يحاول الأخير تدبير لقاء منفرد مع دايزي، مبديا قلقه من إمكانية رفض دايزي مقابلته إذا ما عرفت أنه ما زال يحتفظ بحبه لها، وبالفعل يقوم نيك بدعوتها لحفل شاي تجمعها بغاتسبي دون أن يخبرها بوجوده، بعد أن يجهز له غاتسبي المكان بديكورات جذابة “رومانسية” وأصناف جميلة من الورود والزهور الخلابة.
وبعد اللقاء الغرامي المفاجئ الذي سادته في البدء أجواء من الدهشة والخجل والتردد، يعود الحب العارم فيتدفق بين العشيقين القديمين مستعيدا وهجه وتألقه وحنينه المسترجع. ثم يبدأ توم الثري الماكر الذي تسري بعروقه “دماء زرقاء” بالشك والارتياب من وجود علاقة لزوجته مع غاتسبي، ويلاحظ في حفل غداء جامع، نظرات الحب والهيام التي يرسلها غاتسبي بوله لدايزي المترددة.
وبالرغم من تورط توم بعلاقات آثمة مع النساء إلا أن فكرة خيانة زوجته له لا تروقه وتحدث شرخا بكرامته وكبرياءه وغروره (لكونه زير نساء). ولا يخفي غضبه وحنقه الشديد وغيرته من غاتسبي “المزيف”، ولا يعتقد أبدا بصحة رواياته حول مصدر ثروته ودراسته الجامعية. بعد مواجهة عاصفة بين الرجلين، الزوج والعشيق، ومراهنة كل منهما على إخلاص وحب دايزي له، وانكشاف علاقة الحب القديمة ما بين غاتسبي ودايزي. ومع إصرار توم على خصوصية علاقته بزوجته ومحبته الشديدة لها، كما أنه يجد الفرصة سانحة لكي يكشف للجميع أكاذيب غاتسبي حول مصدر ثروته، وشكه بأن غاتسبي ما هو إلا مجرد “مجرم” متستر جمع ثروته الهائلة من عمليات تهريب الكحول ونشاطات “غير شرعية” أخرى.
وتبدو هذه المكاشفة الصريحة والخطيرة وكأنها قد استفزت غاتسبي لأبعد الحدود، فينفجر غاضبا، ويكشف مضطرا عن أصله الفقير المتواضع، وعن لقائه مصادفة مع ثري عجوز اسمه “دان كودي”، حيث قدم له خدمة بإنقاذ حياته من غرق محتم، وحيث يرد له هذا الأخير الجميل باصطحابه برحلة بحرية، معلما إياه أساليب الثراء ودهاليزه، وربما يكون قد مده بالبداية ببعض المال ليبدأ رحلته العصامية المثابرة.
وهنا تنكشف مشاعر دايزي “النسائية” المترددة (الخبيثة التي تستغل أحسن ما في الرجلين المتنافسين على حبها) والتي تبدي فجأة تمسكها بزوجها وكأنها ترفض عرض غاتسبي بشكل غير مباشر. ثم يرتب توم رحلة العودة لـ “ويست ايغ”، ساعيا بدهاء لإرسال زوجته منفردة مع غاتسبي. وعندما تصل سيارة “نيك وجوردان وتوم” الزرقاء لمنطقة “وادي الرماد”، يكتشفون أن سيارة غاتسبي الصفراء الفارهة قد صدمت وقتلت بالخطأ “ميرتيل” (عشيقة توم السرية). وعندما يرجعون لجزيرة “لونغ آيلاند”، يعلم نيك من غاتسبي بأن دايزي هي التي كانت تقود السيارة عندما صدمها لميرتيل التي قفزت فجأة بفزع أمام السيارة المسرعة. ولكن غاتسبي “الخلوق المحب الشغوف”، يتعهد بأن يتحمل هو شخصيا مسؤولية الحادث المأساوي.
في اليوم التالي، يقوم توم بإخبار جورج (صاحب الكراج زوج ميرتيل العصبي الأحمق) بحيثيات القصة ساعيا لتحريضه بخفاء للانتقام من غاتسبي، ومبينا له بأن غاتسبي هو الذي كان يقود السيارة، ملمحا بمكر مما ساعد جورج المسكين “الحانق العصبي” لأن يستنتج بأن غاتسبي ربما يكون أيضا العشيق السري لميرتيل، ويجهز هذا الأخير مسدسا ويتسلل لقصر غاتسبي خلسة، فيقتله غدرا وهو يهم بالسباحة، ويقدم بعد ذلك على الانتحار.
ينظم نيك المخلص جنازة لائقة حزينة لصديقه غاتسبي، منهيا علاقته مع الجميع ومع جوردان، وينتقل راجعا لميدويست للتهرب من ملاقاة هؤلاء الأثرياء “الانتهازيين–الكريهين–المقززين” الذين كانوا يحيطون بغاتسبي ويحضرون حفلاته الصاخبة، ثم انفضوا عنه بمحنته. وقد انكشفت له حقيقة الخواء والفراغ الروحي والانحلال الخلقي الذي يتميز به هؤلاء الأدعياء.
ويستنتج نيك أن حلم غاتسبي الرومانسي الجارف بإعادة لقائه بدايزي وتجدد الحب بينهما، ما هو إلا وهم وخيال أفسده المال والخيانة والتردد “النسائي” الماكر والمصالح الذاتية، وكذلك بأن الحلم الأمريكي الخاص “بالسعادة والفردية وانتهاز الفرص والبطولة” قد ذاب وضاع وتحلل ضمن مفهوم الثراء الباذخ الاستعراضي والمنفلت اللا أخلاقي، وبأن عظمة غاتسبي تكمن حقيقة بقدرته الفائقة وإصراره العنيد على تحويل الحلم لحقيقة مع أمل جامح وبمثابرة يحسد عليها، ثم يستنتج نيك بحزن وشغف وحنين بأن عهد الأحلام قد ولى بلا رجعة : حلم غاتسبي ووهم الحلم الأمريكي على حد سواء.
فيلم عظيم لرواية عظيمة
يبدأ الفيلم بنصيحة قيمه يقدمها لنا الراوي (الممثل توبي ماجواير) عملا بنصيحة والده القديمة : “لا تنتقد الآخرين أبدا، بل فتش عن أحسن ما فيهم”. كما أن نيك كاراواي يقدم نصيحة ذهبية أخرى لغاتسبي (الممثل ليوناردو دي كابريو) عندما يعلم بنيته إعادة إحياء غرامه القديم مع دايزي (الممثلة كاري موليغان): “لا تحاول أبدا إحياء الماضي”. ولكن غاتسبي الواثق بنفسه وإمكاناته وبحب دايزي له يرفض مصرا على قناعته ليواجه مصيره القاتم.
يلعب “توبي ماجواير” دورا لافتا “كراو للحكاية وكاتب مستقبلي واعد”، ويؤرخ لفترة هامة في عشرينات القرن الماضي تشمل بدايات الكساد العظيم وتداعيات الحرب العالمية الأولى، فقدان القيم وانطلاقة موسيقى الجاز الرائعة و”أرصدة الأسهم المالية” في بورصة نيويورك، ويقدم باز لورمان مخرج الاستعراض القدير رواية الكاتب الشهير “سكوت فيتزجيرالد” بأسلوب مميز حافل بالاستعراضات الغنائية الراقصة الفريدة، إلى جانب رهافة وحساسية إخراجية تضج بالأناقة والشاعرية والشغف الوجودي والحنين للماضي.
ويبدو وكأنه فهم تماما مغزى الرواية الكلاسيكية وتمكن ببراعة من تحويلها لعمل سينمائي شيق ومتألق ومؤثر، مع استخدام جيد للحبكة الدرامية—الرومانسية التي تركز على اختيار دايزي ما بين غاتسبي العشيق الولهان المخلص وتوم الزوج المحب “المتملك” الثائر لكرامته، والذي لا يريد أن يفرط بزوجته.
هذا الفيلم الممتع الرائع يلفت الاهتمام لنشوء مدرسة إخراجية تعزى لنمط “باز لورمان” الفريد بالإخراج (تماما كمدرسة هيتشكوك الإخراجية)، التي تضيء دوما بالدهشة الاستعراضية-الموسيقية التي تأخذ بالألباب، والتي تتضمن طروحات سياسية- اقتصادية-أخلاقية اجتماعية ونفسية تتراوح ما بين تداعيات نهاية الحرب العالمية الأولى المأساوية، وبدايات الكساد العظيم، وتشريعات تحريم الكحول، والثراء الباذخ الهائج والعصامية الخلاقة، ثم العلاقات الجامحة والرومانسية والخيانة الزوجية، وصولا للطموح والأمل، مع تعمق استثنائي وسبر لدهاليز نفسية البطل الفريدة “غاتسبي”.
ويسلط الفيلم الأضواء المركزة على “الصداقة الحقيقية النزيهة والمخلصة “، والتي ظهرت في الفيلم كأهم قيمة أخلاقية إنسانية نادرة.

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *