في ذكراه الرابعة‏:‏أنيس منصور ومتعة الصمت بعد القراءة



سهير حلمي


كما أن هناك بشرا لا ينسي يقبع في الذاكرة في قرار مكين‏..‏ هناك نصوص لا تقبل الموت وتستعصي عليه بما تخلفه من ميراث القيمة والمعني‏..‏ نصوص تحفظ لكاتبها شغف القارئ وتجعيدة الدهشة بين حاجبيه‏..‏ نصوص مضيئة بمداد البنفسج وأريجه النفاذ الذي يتحدي الزمن‏..‏ ينتمي كاتبنا الكبير أنيس منصور‏(1924-2011)‏ إلي مدرسة أصحاب النصوص الخالدة حيث الفلسفة والبساطة والتنوع اللانهائي‏..‏ ونحن إذ نحتفل به رائدا من رواد الكلمة في عالم الأدب والفكر‏..‏

نؤكد أن وحدة الزمان هي العدسة الجامعة لكل هؤلاء الكبار وجماهيرهم.. قافلة تتقاطر تعبر الأجيال.. تصل الماضي بالحاضر بالمستقبل.. تتجلى فيها القيم الإنسانية التي تتجاوز وحدة المكان.
نصوص أنيس منصور لم تعلن وفاتها بموت المؤلف.. وكيف تموت كتابات من تنبأ بنبوغه : العقاد وطه حسين ومحمود تيمور وعبد الرحمن بدوي وإحسان عبد القدوس؟.. قراء كاتبنا الكبير بالملايين.. وبالرغم من شعبيته وفتنتهم بوضوح المقصد وسلاسة اللغة وعمق الفكرة.. إلا أن قراءه لم يتطرفوا في حبه ولكن ربما أبغضه البعض وتحامل عليه بما ليس فيه.. ومن دلائل نضوجه الإنساني أنه كان يتقبل ذلك دون غضاضة بل ينصح الآخرين بعدم إهدار الطاقة فيما لا طائل منه من مناوشات وتلاسنات كلامية أو حوارات في برج بابل الذي يتحدث فيه الجميع مئات اللغات في وقت واحد كما كان يحلو له أن يطلق من تشبيهات.. امتلك دوما زمام نص لم يفلت منه قيد أنملة.. سواء أكان مقالا أو مسرحية أو قصة أو دراسة نفسية أو ترجمات بتصرف.. عبر أجيال تدربت والتحمت بطقس القراءة حين تسدل شراشف الليل ويخفت ضوء النجوم ويصمت صخب النهار.. توالت قراءات أديبنا الكبير بسيل من التراكم المعرفي في كافة المجالات من السيرة الذاتية إلي سطح القمر مرورا بالأحداث الجارية محليا وعالميا في عموده مواقف بالأهرام أو مقاله في جريدة الشرق الأوسط.. 
ومع غبشة الفجر والسكون المضيء بولعه في التوازن بين متناقضين كانت تبدأ رحلة الكتابة يوميا في الرابعة صباحا إننا نجعل من الحبة قبة ومن القبة حبة.. إنه ليس عيبا أخلاقيا ولكنه قصور عقلي وبالمثل كان يقتحم عزلة القارئ المسكونة بالتساؤلات والفضول.. ولم يكن خالقا لهذا الفضول ولكن منبها له بتوالي المعاني التي تتكئ علي فكرة منطقية لامعة لأبسط الموضوعات وأعقدها وفقا لهندسة عقلية اعتادت أن تترك المعاني شظايا متناثرة مشاعا بين قرائه ومحبيه.. إحساسه بالزمن كان لا يضاهيه إلا شعوره بعدم امتلاك اليقين ولم يخالف في هذا الشأن سمة العلماء الذين اقترب منهم إنسانيا ومعنويا.. فكل شك يتولد عنه يقين.. يؤدي إلي شك جديد.. 
فالمبدع لا يغادر جنة البدايات وفرحة اللقا باغتنام المعني من براثن غابات الأسئلة وعلامات الاستفهام.. وتستبد الدهشة بقارئه حين يضع كاتبنا الكبير أصابع يده علي أحدث الحركات والتيارات الفكرية والأدبية في العالم.. ويستدرجه إلي عالمه الصغير في قريته أو محل عمله ليتأمل مفارقات أشعلها هذا المتوهج الشعور والفكر في رأس قارئه.
——
الأهرام

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *