د. خالد عزب
صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الإسكندرية العدد الثامن عشر من سلسلة “مراصد” التي تأتي بعنوان “الدولة والدين: إشكالية العلمانية في الفكر الإسلامي المعاصر – عبدالسلام ياسين نموذجًا”، والتي أعدها الدكتور عبدالسلام طويل أستاذ العلوم السياسية، ورئيس تحرير مجلة الإحياء.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في الوعي بوجود تباينات نوعية داخل الفكر السياسي الإسلامي المعاصر نفسه، بخصوص الموقف من العلمانية وتعدد المفهوم والتصورات حولها، وإبراز موقف عبدالسلام ياسين، وهو مرشد لواحدة من أكبر الجماعات الإسلامية بالمغرب “جماعة العدل والإحسان”، وذلك في سياق نقدي مقارن.
كما تنطلق أهمية الدراسة من الوعي بتعدد أعمال ومجالات اشتغال الشيخ عبدالسلام ياسين الذي وافته المنية سنة 2012؛ فهو من جهة، يمثل شكلاً من أشكال الزعامة الروحية داخل جماعته بفضل تجربته الصوفية. ومن جهة أخرى، يمثل شكلاً من أشكال الزعامة السياسية كمؤسس لواحدة من أكبر الحركات الإسلامية بالمغرب، وهي حركة بقدر ما تتميز بحدية وتشدد خطابها وخطها السياسي، فإنها تنبذ العنف المادي وإن كانت تجيد استعمال العنف الرمزي، كما ظل يمثل واحدًا من أبرز الوجوه المعارضة للنظام السياسي في المغرب.
وتبدأ الدراسة بمفهوم العلمانية لدى عبدالسلام ياسين الذي يميز بين علمانيتين؛ “علمانية كاشفة عن أنيابها” و”علمانية رقطاء”، محذرًا تحذيرًا خاصًّا من الثانية قائلاً: “الخطر العلماني الذي ينبغي لأهل الإيمان أن يترقبوه ويحترسوا منه أشد الاحتراس ليس العلمانية الكاشفة عن أنيابها، لكن العلمانية الرقطاء المتسربة إلى المسلمين، وهي لابسة ثوب زور. إنها علمانية “جغرافية الكلام” المستقبلية التراثية المتجددة. تلك التي تمجد الإسلام وتنتقد الماركسية والإمبريالية وتتزلف للمخزون النفسي الجماهيري”.
وفي إطار جدل الدعوة والدولة: لمن الأولوية؟ يعبر عن تخوفين: التخوف الأول “من ذوبان الدعوة في الدولة، وانتهاكها، وتسربها في مساربها كما تتسرب قطرات الماء في الرمال العطشى. والتخوف الثاني من أن “تخطئ الدعوة فتحتكر السلطان وتقمع كل معارضة وتسلك سبيل الحزب الوحيد..” لتتحمل، بذلك، أثقال ميراث الماضي وحدها، حينما تزعم لنفسها وللناس أنها تتقمص آمال الشعب وتعكس إرادته وتنطق باسمه من دون الناس جميعًا”.
ورغم تأكيده أن “الإسلام دولة ونظام حكم”، وأنه “لا يستقيم أمر المسلمين بلا نظام حكم”، فإنه يؤكد أن الله إنما بعث رسله “عليهم السلام” لشأن عظيم؛ بعثهم لهداية الخلق إلى طريق مستقيم.. طريق السعادة الأبدية”. فمقصد الهداية والرحمة والتبشير بحقائق الآخرة إذن له الأولوية على أي اعتبار وقبل كل نظام”.
وتتناول النقطة الثانية في الدراسة “الاجتماع السياسي الإسلامي” كما يعكسه الفقه السياسي لعبدالسلام ياسين الذي لا يخفي – من البداية – أنه يسعى “لإقامة حكم إسلامي.. حكم يؤسس نظامًا اقتصاديًّا سياسيًّا أخلاقيًّا إنسانيًّا متجددًا بتجدد إيمان المسلمين، فاعلاً ناجحاً في إقامة صرح الإسلام من ركام الخراب الديني والمادي والنفسي الذي يعانيه المسلمون من جراء هزيمتهم التاريخية: “أمام ما ينعته بـ “الغزو الجاهلي الشامل الذي تتمثل صيغته الحالية في حقائق العولمة”.
وهو ما لن يتحقق – من وجهة نظره – إلا من خلال إعادة التركيبة النفسية والاجتماعية التكافلية، السياسية والفكرية للمجتمعات العربية الإسلامية التي ما زالت تعيش في أتون أزمة حضارية عميقة لا يمكن تجاوزها بـ”حداثة رثة وديمقراطية هجينة”، وإنما بتصالح بين فئات المسلمين على توبة جماعية إلى حقائق الإسلام وعدل الإسلام وشورى الإسلام.
كما لا يجد، عبدالسلام ياسين، أي تناقض في الجزم أنه “ليس من شأننا قبل وصولنا للحكم وبعده أن نصنف الناس في حزب الشيطان إن خالفونا، ما داموا لا يجهرون بعدائهم للدين، ولا يسخرون من شرع الله، ولا يتطاولون إلى المشاركة في حملة الكافرين على الإسلام وشريعته”.
كما تعرض الدراسة موقف عبدالسلام ياسين من الحاكمية والجاهلية، والتصوف والعرفان، وموقفه من الثقافة والحضارة، وموقفه من الديموقراطية.
وفي خاتمة الدراسة يقول الكاتب “نقف على مدى الطبيعة العقائدية المنغلقة والإقصائية للمشروع السياسي لعبدالسلام ياسين، الذي لا تنفك السياسة فيه عن الدين ولا الدعوة عن الدولة بحال، وهو ما يتضح بجلاء من خلال تصوره لبنود ميثاق “جماعة المسلمين” التي سنكتفي بالإحالة إلى أهمها كما جاءت في كتاب “العدل” دون أي تحوير.
ومما أضفى على هذا المشروع المزيد من التشوش والتناقض، تداخل مستويات الخطاب في بنيته؛ ما بين نزوع صوفي عرفاني، ونزوع سلفي من خلال التشديد على الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، ونزوع سياسي حركي عبر تبني مشروع سياسي لا يخفي سعيه للهيمنة على الدولة والمجتمع”.
كما لم يكتف عبدالسلام ياسين بتجاهل القراءات المنفتحة من داخل منظومة الفكر السياسي الإسلامي كما رأينا مع كلٍّ من محمد مهدي شمس الدين، وراشد الغنوشي وعبد الوهاب المسيري ومالك بن نبي.. وغيرهم كثير، وإنما عمد إلى التبخيس من قيمة وأهمية بعض الاجتهادات الأكثر توازنًا وموضوعية واستقلالية. ويتعلق الأمر تحديدًا بموقفه غير المسئول علميًّا من تصور محمد عابد الجابري من إشكالية العلمانية؛ نظرًا للاعتبارات التالية: أولا؛ تجاهله لإيراد اسمه وهو من هو في مجال المعرفة والفكر. ثانيًا؛ عدم إيراد موقفه كاملاً وموثقًا حتى يكون القارئ على بينة من أمره.
وفي النهاية يعترف الكاتب انه بالرغم أن الخطاب السياسي لعبدالسلام ياسين قابل لقراءة انتقائية من شأنها أن تجتزئ نصوصًا تبرزه مناصرًا للديمقراطية، وما يتصل بها من تعددية، ومعارضة، وتداول على السلطة، وإقرار بحقوق الإنسان؛ فإنه بشيء من التمحيص يتضح أن كل ذلك محكوم ببنية عقائدية أيديولوجية أرثودوكسية لا تطيق تعددية ولا اختلافًا ولا معارضة، ولا تداولاً للسلطة، بل ولا حقوقًا للإنسان خارج مرجعيتها الصارمة القائمة على مفهوم “الحاكمية” و”الولاية” و”المواطنة القلبية” و”الوطن الإيماني المشترك”، بعيدًا عن روح صحيفة المدينة التي أسست لتعاقد سياسي مدني اعترف باليهود والمسلمين باعتبارهم أمة من دون الناس.
——–
ميدل ايست أونلاين