أمير العمري
شهد مهرجان لندن السينمائي العرض الأوروبي الأول للفيلم البريطاني الجديد “السيدة في الشاحنة، للمخرج نيكولاس هايتنر، وهو الفيلم الروائي الطويل السادس الذي يخرجه هايتنر، فهو -أساسا- مخرج مسرحي والمدير الفني للمسرح الوطني البريطاني منذ عشر سنوات.
غير أن فيلم “السيدة في الشاحنة” -المأخوذ عن مسرحية الكاتب آلان بنيت- ليس من الممكن اعتباره مجرد “أفلمة” للمسرحية التي قامت ببطولتها الممثلة البريطانية الكبيرة ماغي سميث (81 سنة)، وهي أيضا بطلة الفيلم الجديد المقتبس عن المسرحية.
أحداث حقيقية
يعتمد الفيلم -الذي تغيب عنه تماما الممثلات الجميلات- على حبكة تقوم على أحداث حقيقية وقعت للكاتب المسرحي آلان بنيت الذي يقوم بدوره في الفيلم الممثل ألكس جيننغز.
وكما قلنا، فليس من الممكن اعتباره فيلما مسرحيا، بل يتميز برونق وسحر السينما الذي يكمن في القدرة على تجسيد الأحداث في إطار المكان، الانتقالات المحسوبة في الزمن، التلاعب بالشخصيات، أي تصوير الباطني فيها، التمثيل والديكور، الضوء والصمت والموسيقى والمونتاج.
غير أن السؤال الذي يرد على ذهنك هو: من الذي يرغب في قضاء ساعتين يشاهد فيلما بطلته امرأة عجوز قبيحة، قذرة، متشددة، متعصبة لدرجة التزمت المقيت، لا نعرف عنها الكثير، فماضيها غامض، وليس هناك تفسير مقنع لما أصبحت عليه الآن من تشرد، يتعذر عليها التحلي بالأدب الإنجليزي المعروف، فلا تصدر عنها كلمة شكر واحدة لمن يقدم لها العون، بل ومن دأبوا على تزويدها بالطعام والشراب والملبس لخمس عشرة سنة.
ولا نعرف ما دفعها للعيش داخل شاحنة صغيرة، اختارت أن تفرضها فرضا على الكاتب آلان بنيت، وترغمه، سواء بقوة شخصيتها وإصرارها، أو بغرابة سلوكها الذي أثار فضوله ككاتب على القبول بأن تضع شاحنتها العتيقة في حديقة منزله في حي “كامدن تاون” اللندني المعروف.
رغم الأصل المسرحي للفيلم، فإنه يتميز بالإيقاع السريع الذي يتناسب مع الطابع الكوميدي المهيمن على الفيلم، كما يستخدم المخرج هايتنر ببراعة كبيرة الفكرة التي وضعها بنيت في سيناريو الفيلم، وتقوم على ازدواجية شخصية الكاتب، فجسدها من خلال قيام الممثل بدور الكاتب الذي يتعامل مع الطبيعة الإنسانية بتأمل عقلاني، وكثيرا ما يبدي تعليقات فظة تنم عن رفضه لما يراه من حوله، كما نرى عند حديثه عن رائحة البول التي تفوح من المرأة، وكيف ملأت مدخل المنزل بالفضلات، موجها تعليقاته إلى شخصيته الأخرى أي “بنيت” الإنسان الذي يتحلى بالأدب، ويتعامل باستقامة ورفق مع جيرانه ومع تلك السيدة التي هبطت عليه لتقضي 15 عاما تقيم تحت سمعه وبصره.
الكشف عن اللغز
يكشف السيناريو حلقة وراء أخرى من خلفية شخصية السيدة وأسرارها، فهي تقول إن اسمها هو “ماري شيبرد” (في انتحال واضح لاسم رسامة كتب الأطفال التي رسمت روايات ماري بوبنز) ويناديها بنيت بـ”مس شيبرد”، بينما سيكتشف فيما بعد، أي بعد أن تتعقد الحبكة أكثر فأكثر، أن اسمها الحقيقي هو مرغريت.
وهناك الشرطي الشرير الذي يعرف عنها الكثير، ويعرف أيضا أنها تسببت في مقتل أحد الشباب وهي تقود شاحنتها قبل سنوات، وهو لهذا يبتزها ويحصل منها على المال مقابل التستر على الحادثة، بينما تعاني هي من الإحساس بالذنب، وتطاردها الكوابيس بشأن تلك الحادثة الرهيبة التي وقعت في ليلة من ليالي الشتاء، وهو مشهد نراه في بداية الفيلم ويظل يرتد إليه من خلال التداعيات في ذاكرة السيدة.
كما أننا سنعرف أيضا أن سبب كراهيتها سماع الموسيقى يعود لأنها كانت في الماضي عازفة بيانو، درست الموسيقى في باريس (وأصبحت بالتالي كما نرى من خلال حديثها مع الكاتب أنها تجيد الفرنسية) لكنها فقدت عملها كعازفة لسبب غير مفهوم، والتحقت بأحد الأديرة كراهبة قبل أن تهجره إلى حياة التسكع والتصعلك، تناديها الطبيعة والبحر باستمرار، متعتها الوحيدة أن تتجه إلى شاطئ البحر لكي تقضي وقتا تتنفس خلاله الهواء النقي.
يكشف الفيلم تدريجيا عن معالم شخصية “ماري” ولكنه في الوقت نفسه، يحافظ على قدر كبير من الغموض الذي دفع بنيت في الواقع، إلى الاهتمام بمتابعتها ورعايتها رغم أنه ظل يرفض أن يكون مسؤولا عنها.
هذا الكشف التدريجي يتعمق أكثر مع توثق العلاقة بين بنيت وماري، وبنيت وشخصيته الأخرى، وينجح المخرج تماما في تصوير شخصيتي الكاتب/الإنسان، بطريقة فنية داخل نفس الكادر، بحيث يبدو أداء الممثل ومكان وقوفه داخل المشهد وحركته مع صورته الثانية، وأحيانا في وجود “ماري” أو الممثلة ماغي سميث، في تناغم تام.
ولعل ما يساعد في إضفاء الكثير من المعالم الواقعية على الفيلم مع لمسات من الخيال الذي لا يبتعد عن الواقع، هو تصوير الفيلم في الأماكن الحقيقية للأحداث وداخل نفس المنزل الذي كان يمتلكه آلان بنيت في “كامدن تاون”.
ويعبر المخرج عن مرور الزمن في فيلمه من 1974 الى 1989، من خلال تغير أشكال وطرز السيارات والملابس وتصفيفات الشعر، ومن خلال الأخبار التي يبثها التلفزيون (نعرف مثلا أننا في عام 1982 عندما نرى مرغريت تاتشر وهي تتحدث عن ما تسميه “هجوم الأرجنتين على بلادها” في جزر فوكلاند).
وفي أحد المشاهد البديعة في الفيلم، يأتي فريق طبي لنقل “ماري” بعد أن أصبحت طاعنة في السن إلى المركز الصحي لتقديم الرعاية لها، فيرفعون مقعدها المتحرك لإدخاله في سيارة الإسعاف، وتبدو هي سعيدة بارتفاعها في الهواء وهي تمسك بعصاها، تتطلع في زهو وإحساس بالمجد والسمو، وعندما يبلغ المقعد حد السيارة، تقول لهم في براءة: هل يمكن إعادة هذا الأمر مرة ثانية؟ ويعلق بنيت قائلا “كان هناك شيء ما نبيل لديها رغم حالتها المزرية”.
وهناك الكثير من اللمسات الكوميدية، سواء في الحوار أم في بناء المواقف التي تتورط فيها الشخصيات وخصوصا شخصية بنيت الذي سيكتشف بعد وفاة ماري أن لها شقيقا هو الذي سيوجز له بعض تفاصيل حياتها.
وفي النهاية ستصبح تلك التجربة الغريبة في العلاقة بين الكاتب والمرأة العجوز، وما اكتنفها من ألغاز أو أسرار ومفارقات، دافعا لأن يواجه الكاتب نفسه ويتعلم أن يكف عن الحديث المستمر إلى نفسه في المرآة كما كان يفعل.
سبق أن حصلت ماغي سميث مرتين على جائزة الأوسكار، أحسن ممثلة عن دور البطولة في فيلم “ربيع الآنسة جين برودي” (1969)، وأحسن ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم “جناح كارولينا”(1978).
وهي تتألق هنا في دور ماري الذي سبق لها القيام به في المسرحية التي عرضت في لندن عام 1999، ثم في المسرحية التي بثها راديو “بي بي سي 4” عام 2009.
إنها تبدع في الدور وتضيف إليه من رصيدها وتجربتها في الحياة وشخصيتها وقدرتها الخاصة، فتجعل الشخصية تتميز بسرعة البديهة والقدرة على التهكم والغمز والتحايل للحصول على ما ترغب من خلال التظاهر بالضعف والمرض، مع التحكم في نبرة الصوت بحيث تبدو كامرأة عجوز مخرفة، ولكن صارمة، متشددة في تعاملها مع الآخرين.
وهي تستخدم نظرات عينيها المليئتين بالرفض والتمرد والغضب وعدم الثقة في الآخرين، وأحيانا بنوع من الاستمتاع الشرير برؤية الآخرين حائرين أو حتى غاضبين بسبب سلوكها الغريب (قيامها بطلاء الشاحنة باللون الأصفر الفاقع، وتكرار الأمر بعد أن يشتري لها بنيت شاحنة جديدة)، رفضها قبول الانتقال إلى منزل من منازل المسنين على نحو ما فعلت والدة بنيت (في الواقع وفي الفيلم).
ولا شك في تفوق ألكس جيننغز في دور بنيت المزدوج، بتناقضاته وولعه بذاته ورغبته الغامضة في القبول بكل ما تفرضه عليه تلك المرأة الغريبة من مطالب يستنكرها الجيران، وإن كان بينهم الكثيرون الذين يشعرون بمأزقها ويعطفون عليها ويقدمون لها الهدايا في الأعياد، لكن من دون أن يتوقعوا الحصول على كلمة شكر واحدة بالطبع.
“السيدة في الشاحنة” عمل سينمائي ممتع بسبب قدرة مخرجه على التعبير عن عالم الشخصية الأساسية دون ادعاء أو تكلف، بحيث ينتصر للمرأة التي كانت ترفض فكرة الموت بإصرار، حتى بعد أن تموت وتصعد روحها إلى السماء، فيصورها في المشهد الأخير من الفيلم وهي تتصالح مع الشاب الذي اعتقدت أنها قتلته بشاحنتها، عندما يعترف لها بأنه المتسبب في وفاته بعد أن اصطدم بالشاحنة، ونراها بعد ذلك وهي تصعد إلى مرتبة أعلى في الجنة لتصبح بين يدي الخالق العظيم لتحصل على السعادة التي لم تنلها في دنياها.
——-
الجزيرة نت