حوار: علي عبيدات
خاص ( ثقافات )
بدأت أول كاتبة عمود في الأردن مشوارها الإبداعي قبل ستة وثلاثين عاماً، ووصفت وقتذاك بالكاتبة الصادمة، لما تحلَّت به من شجاعة في طرحها ومشروعها الإبداعي المُختَلِف الذي كلّلت به الصحف والمحافل الثقافيَّة، في بلد تسوده العشائرية وتتغلغل في مؤسساته القوى السياسية الإسلامية، إلا أن زليخة كانت تكتب الشعر والمقالات عالية السقف دون هوادة.
القصيدة، المرأة، المؤسسة الدينية، الذكورية التي تحكم المجتمع، اضطهاد المرأة باسم الدين والعشيرة، الجهل والتخلف، الدولة المدنية، تشوهات الموروث، العدل، حقوق المرأة، كلها كلمات دلاليَّة على الباحث عن زليخة أبو ريشة أن يقرأها ليرسم صورة مناسبة لزليخة أبو ريشة الحقيقية.
وتالياً حوار ثقافات مع زليخة أبو ريشة:
(1) اليوم بعد ثورة التقنية وتفشي العولمة وانتهاء عصر سيادة الرجل المطلقة وسعي المرأة لنيل حريتها منذ نصف قرن – بقوة ومشاريع- أين المرأة العربية من حقوقها، وهل حقاً هي من ظلمت نفسها؟
لا العولمة ولا ثورة التقنية بمقدورهما أن تقضيا على الفقر والأميَّة اللتين ترتع فيهما المرأة، واللتين هما أهم أسباب أزمتها العميقة؛ فمن دون تمكن اقتصادي وعلم ومعرفة لن تصل المرأة إلى حقوقها الإنسانية. وإذا تذكرنا أنَّ الأمية الرفيق الدائم للفقر، وأنها ليست انعدام القدرة على القراءة والكتابة فحسب، بل هي أمّيّات، فسندرك أن الشوط طويل أيضاً بعد محو الأمية القرائية، لملاحقة الأمية بالحقوق، وأمية المعاني الإنسانية للبشر، والأمية بمفاهيم الحريات والمساواة والعدل… إلخ. وحركة تحرير المرأة، بعد هذا، ليست تعليمات تُقرَأ في كتاب، بل معايشة، وترقٍّ، وتمرد على السائد الذكوري، وارتطام بجدران الثقافة المهيمنة، وحوار، وضحايا. وفيها إعادة قراءة للموروث الثقافي من زاوية العدل والمعنى الإنساني، هذا الموروث الذي جرّد المرأة في معظم تاريخه من إنسانيتها، وشيَّأَها، وتحكَّم في مصيرها، ورمى عليها طغيانه، وجعل صحفياً في زمن العولمة يسأل إذا كانت المرأة هي التي ظلمت نفسها!! كيف يمكن للأَمَة أو من في حكمها، أن تظلم نفسها؟ وهل كانت تملك الاختيار الحر؟ الاختيار الخالص من أيِّ إملاءاتٍ اجتماعية وإكراهاتٍ ثقافية تحاصرها وتُخيفُها؟؟؟ أليس الرشّاس الاجتماعيّ سريع الطلقات جاهزاً لإدانتها وتعهيرها وإخراجها من الملّة إذا ما خالفت تعليمات العرف والتقاليد “المقدَّسة”؟؟ أليست جرائم الشرف تتربَّصُ بالشُّبهة والظنّ؟ وهل هي المرأة التي ظلمت نفسها لأنها عندما تتعلّم وتتفوّق لا تستطيع منافسة الذكر الفاشل في الحصول على عمل، وإذا حصلت لا تنافسه في الترقيات؟؟ وهل هو أنَّ المرأة ظلمت نفسها لأنها هي التي رفضت الوصول إلى صنع القرار؟ وهل ثار الرجل على نفسه لأنه يحوز المكتسبات جميعها دون المرأة؟ حتى المتعلمون والمثقفون يستمرئون السولافة، ويستمرون في القمع، بينما هم يتبجحون بحرية النساء!
(2) المؤسسة الدينية جزء رئيس في بناء مجتمعاتنا، وأغلب مجتمعاتنا العربية تعتبر الدين المكون الرئيس لها، وكما يعرف الباحث عن زليخة أبو ريشة فهي من الأصوات النسائية الأردنية والعربية التي تصرخ في وجه تغول الدين منذ ربع قرن، ووظفت نزقها الثوري الحقوقي في مشروعها الإبداعي – الشعر- ومقالاتها الصارخة. لماذا كنتِ وحيدة قبل تغول المتطرفيين الأصوليين وبعد أن جاؤوا استنفر الجميع.. هل كنتِ زرقاء اليمامة أم بدأتِ مبكرة؟
• أنا أصرخ في البرية منذ 1981، أي منذ 34 عاماً، عندما كنت أول كاتبة عمود في الأردن، في جريدة الرأي، وطرحتُ قراءةً جديدةً للموروث الإسلاميّ والنص المقدَّس، وصورة المرأة فيه. وكان أوَّل من هاجمني الشيخ علي الطنطاوي في برنامجه الإذاعي من السعودية، واستعدى عليَّ المسلمين وملكنا الحسين، رحمه الله. ثم انصدم الإخوان المسلمون من مقالاتي، فكان كبارهم يأتون زوجي، ويطلبون الاجتماع بي، طالبين أن أرفع الحرج عن الزوج، ويشجعونني أن أكتب في موضوعاتٍ أخرى، مثل مهاجمة مهرجان جرش، ويدعونني إلى أن أصبح واعظة! ولكني صمدتُ وتابعتُ، برغم الإحراج العائلي، لأن هدفي كان أن النص المقدَّس ليس حكراً على تناول واحد وتفسيرٍ أوحد، وأن في التاريخ الإسلامي ما يُغيَّبُ عن قصد، وأن الهمَّة الذكوريّة للسيطرة قد لوَّثت التفسير القرآني ووضعت الأحاديث، ولوت الحقائق… وفي هذه المرحلة توصَّلتُ إلى أنَّ المرأة في بيتها ليست، بحسب الإسلام، خادمة، وليس لها أن تخدم الزوج، بل دورها الرعاية (أي ربوبية البيت)، وأنَّ الحجاب لم يعد واجباً على المرأة (وهو أصلاً ليس فرضاً)، لأنه نزل للتمييز بين الحرائر من النساء والإماء. وعندما كتبت هذا جُنَّ جنونهم وأصابهم السُّعار، وشتموني وكفَّروني على جميع منابرهم آنذاك: المساجد والصحافة الإخوانية. بل أتتني مئات الرسائل التي تشتمني (من الزنار ونازل) وتهددني في حياتي. وتعرَّضتُ إلى اغتيال شخصية مُمَنهَج عبرها وعبر مناشير توزَّع في الطرقات وعلى المؤسسات والدوائر. ولم يتوقف هاتفي عن الرنين آناء الليل وأطراف النهار، ليحمل لي الكلام البذيء والتهديد. حتى اضطررتُ لوضع هاتفي تحت المراقبة عدة مرات. وناديت الشرطة في الليل عدة مرات! وهذا لا يعني أن التأييد كان ينقصني؛ فلقد استقبلتُ أيضاً مئات الناس والمكالمات والرسائل التي تشد على يدي. وزارني في مكتبي أناس يطلبون عوني في مظلمة، وشابات يافعات يحفظن مقالاتي في صدورهن، ونساء مقهورات لهن حاجة.
وذلك يعني أنني لطالما علَّقتُ الجرس وقرعتُه عالياً جداً وحدي… ولمدة ما يزيد على ربع قرن. وكنتُ كلما سألتُ أصدقائي المثقفين عن عدم مؤازرتهم لطروحاتي أجابوا إنهم لا يجرؤون، أو إنهم لا يملكون معرفتي بالدين. بل إن أحد كبارهم من يسار اليسار قال لي منرفزاً: أنت لم تستشيريني في معركتك هذه! وهي عبارة كاشفةٌ عن أني لم أعترف بوصايته كذكر، ولذا كيف له أن يؤيدني؟
(3) بعيداً عن مؤتمرات النُخب وفاعليات الكُتَّاب، كيف يمكن أن نقنع نساء القرية والبادية بحقوقهن؟ فالناظر إلى مجتمعاتنا اليوم يرى المدن المستحدثة بعقول القرى والبوادي، ورغم حملات التوعية والجمعيات النسائية وارتفاع نسبة التعليم، فما زالت جرائم الشرف قائمة واضطهاد المرأة في أوجه، حتى أن بعض البلدان العربية ما زالت تختن البنات.
• تحتاج المرأة في القرية والبادية إلى محو أمّيتها القرائية والكتابية قبل أيِّ شيءٍ آخر. لا تحتاج إلى محاضرات حول حريّتها، بل إلى توجيهٍ لتغرس في ابنتها حب العلم، وأن تذهب إليه. ومن ناحيةٍ ثانية، في الأرياف والبادية ثمةَ قيمُ تحرر واقعيّ تمارسها المرأة، نجدها في المدينة محارَبَةً من المؤسَّسَة الدينيّة والقوى المحافظة؛ فالمرأة هناك أساس اقتصاد القرية والبادية، حيث على أكتافها يقع العبء الكبير للزراعة والفلاحة وجمع المحصول، ودرسه، وإعداده للبيع، وصناعة الألبان، وبيعها، بالإضافة إلى صناعات أخرى ما تزال تقوم بها مثل خياطة الملابس، بالإضافة إلى تربية الصغار وأعمال المنزل. لا تحتاج المرأة في الريف والبادية إلى تشجيع على العمل خارج البيت لأنها تمارسه وبرضىً كامل من الذكور. أما امرأة المدينة فقد تعرَّضت لقيم هجينةٍ نحاول بأساليب متعدّدة فضحَها وكشفَ ما فيها من انعدام إنسانيّة وتعدٍّ على روح المرأة وجسدها وعقلها. وليس التحرُّشُ إلا أحد ميكانزمات الذكر الإسلامويّ أو المحافظ لإعادة المرأة في المدينة إلى المنزل، لأن خروجها يشكِّلُ تهديداً لوجوده وتفرده في سوق العمل. ولا علاقة للتحرش بلباس المرأة أو مظهرها، لأنهم يتحرشون بالمحجبات وبالسافرات وبالمقنَّعات وبالصغيرات وبالمسنّات… التحرش ممارسة الذكر المريضة لحريته، والنظر إلى المرأة على أنها متاعٌ أيضاً.
(4) لو حاولنا أن نرسم هرماً ونضع فيه الجدران الأسمنتية التي تفصل المرأة عن حقوقها ماذا سنكتب فيه من رأسه حتى قاعه؟
• سنكتب ثلاث كلمات:
الفقر الفقر الفقر
الأميّة الأميّة الأميّة
الثقافة الثقافة الثقافة…
الفقر الذي يعاني منه أكثر من ثلاثة أرباع النساء في العالم، هو المسؤول عن اضطهادها الوجودي. وهو أيضاً مسؤول عن البند الثاني “الأمية”.
والأميّة التي تسهّل تمرير أشكال الاضطهاد عليها، وتجعلها عبئاً ثقيلاً على المجتمع، والثقافة التي هي مجموعة القيم المعادية للمرأة وتنمِّطُها وتمنع تطورها.
(5) هل المبدعات والثائرات كزليخة أبو ريشة فعلاً قليلات؟ وما رسالتك إلى كل ناشطة تفكر بالتمرد على هذا المجتمع؟
• لا لسن قليلات. بل يمكنني القول إنَّ جميع الكاتبات والشاعرات والمثقفات وعدداً غير قليل من المتعلمات هن نسويات (فيمنيست) بدرجة أو بأخرى. وكثير منهنَّ يحملن أفكاري عن المرأة. كانت تزورني طوال فترة عملي صبايا محجبات؛ طالبات جامعة أو خريجات، ويرينني مقالاتي في جيوبهنّ، ويخبرنني أني مثلهن الأعلى. طبعاً يقصدنَ أن أفكاري محط تبجيلٍ منهنّ، وأنهن يتمنّيْن أن يستطعنَ أن يعبّرن يوماً عما يجول في قلوبهن كما أفعل. وهناك نساء غير محجبات يقطر منهن الفكر المحافظ الذي ينظر إلى المرأة بريبةٍ واتّهام.
الحاصل، أنَّ النساء المتحررات في قلوبهنّ كثيرات، ولكنَّ الثمن غالٍ لمن ستنبس ببنت شفة. ومع التقدم سيزداد العدد. ولكن العبء معظمه على صاحبات الكلمة، المبدعات والمثقفات، لترويض الذكر الثقافي وإعادة تأهيله. ولا يعتمدن على المثقفين كثيراً؛ فكذبهم كثير، وادعاؤهم أكثر، ناهيك عن حالة الفصام التي يعانون منها… المأمول من المثقفات كسر جدار الخوف من الذكر التقليدي، وتقليم أظافره بالوسيلة التي يرينها مناسبة، وخوض معركة الإنصاف بجرأة، فمعركة الحقِّ لا تخيف.
*شاعر ومترجم من الأردن.