الحداثة إشكالية العقل واللازمن


رشيد المومني


النزوح بالكائن من ظلمة دهاليزه المنسية، إلى زمن الفضاءات المضاءة بوهج أسئلتها، هو الأفق المستقبلي الذي توحي الحداثة «الخلاقة» باعتماده هدفها المركزي، وهو إيحاء يتضمن مقولة انحباس الأزمنة القديمة في مضايق هذه الدهاليز، إلا أنه وفي الوقت نفسه يستدعي الكثير من المراجعة وإعادة القراءة، والكتابة أيضا، من أجل التأكيد على مبدأ الحضور المتقطع لإرهاصات أي انبجاس محتمل، حيث يتعذر الحديث عن بدايات صافية، وعن نهوض متوقع على أرضية مسكونة ببرودة العدم.

بمعنى أن بذور الحداثة منثورة سلفا على تربة كل الأزمنة التي مهدت لإعلانها الصريح عن زمن الحضور، باعتبار أنها – شأن غيرها من بذور الظواهر الحضارية والمعرفية- تمر بمرحلة كمون مؤقت، منتظرة شروط نضجها، واهتداء العين الرائية إلى وعدها المستقبلي، حيث يتبلور مسار تطورها الطبيعي، من منطلق كونها إشارات جنينية متقطعة الظهور، إلى مستوى تجسدها الشامل والمتكامل، المنتج ذاتيا لمنهجية تداولها، مع التنويه بأن تشكل المنهجية يتحقق عموما على أرضية التفاعلات، التي تراكمها ظواهر لم تكن في مرحلة تكونها الأولي، تثير أي فضول معرفي، أو ثقافي، قد يرتقي بها من إطارها كعنصر جزئي، مندمج ضمن عناصر أخرى في نسق منظومة ما، إلى إطار الظاهرة المستقلة بخصوصيتها. ذلك أن العنصر ذاته، وبفعل توافر شروط ذاتية وموضوعية، يتمكن من احتواء العناصر المحايثة له، بما يتيح له إمكانية الانفصال عن منظومته الأم، كي يشرع في اقتراح مساره الخاص به.
وهو المسار الذي تتشكل عبره المنهجية، بمجموع قوانينها القابلة لأن توظف لاحقا، في تشخيص مراحل التبنين الممهدة للتشكل النهائي أو المرحلي. وهي قوانين يمكن توظيفها في ضبط مسارات فكرية متعددة، وفي مقاربة حركية ظواهر حضارية متعددة، خاصة منها ظاهرة الحداثة، التي استطاعت وعبر مسارات زمنية وتاريخية متعددة، أن تستقل بذاتها وبقوانينها، حيث يمكن مقاربة مستويات حضورها حتى في تضاعيف الأزمنة البائدة والبدائية، إذ بقليل من المقايسة، والتبئير المنهجي، يمكن العثور على ملامحها الأولى، أو بالأحرى على بعض مظاهرها، التي ما كان لتلك الأزمنة البائدة أن تنتبه إليها، بفعل أنها لم تكن آنذاك، أكثر من مجرد عناصر جزئية، تشتغل في قلب منظومات كبرى، كي تتحول لاحقا إلى قوة فعلية وحقيقية معززة بمفاهيمها وخطاباتها، التي يستمد منها العلم والتقنية حضورهما، وسلطتهما الحكيمة، والمتوحشة في آن.
ولأن الحداثة ترفض أن تتلفت إلى الخلف، تلافيا لتورطها في استعادة أطوار تَبنْيُنِها التي لن تكون بالضرورة مضيئة، فإنها تشتغل دائما على مستوى الْمَابعْد، أي خارج كل حد زمني مرسوم وثابت. هذا الحضور الرمزي والمابعدي/اللازمني، هو الذي يجعلها، وبدعم من سلطة العقل والتقنية، منفتحة بدون كلل أو تحفظ، على المحتمل واللانهائي، أي على الحافات الكبرى. باعتبار أن نداء الحافات الكبرى، هو الذي يؤكد وبالملموس، قدراتها اللامحدودة، على الاقتراب من تخوم اللانهائي، بعيدا عن ذاكرة تكونها الأولانية التي أمست منفصلة، أو تكاد، عن راهنها، لأنها وعبر إقصائها لزمن/أزمنة تكونها، تستأصل دابر أي شكل من أشكال التماهي، الذي يمكن أن تتوحد فيه مع ظواهر بائدة، قد تؤدي إلى تكدير صفو حاضرها ومستقبلها. كما أنها وفي سياق منطق الاستئصال ذاته، ترحل بالكائن من مواقعه الطبيعية والتقليدية المفرطة في عيانيتها، إلى مواقع ذات مواصفات افتراضية، تحرض العقل والمخيلة على آلية اشتغال التقني، كي يبوح أكثر بأسراره واحتمالاته، والعكس بالعكس. 
وهو تحريض يساهم في تفجير براكين مفاهيمية جديدة، بموازاة ما يحدث من انقلابات نظرية، تخلخل تباعا تصوراتنا الثابتة عن هوية المكان والزمان، فضلا عن هوية الكائن، في علاقته الملتبسة بالبقاء والعدم. وبالنظر إلى عنف ما تحدثه هذه الانقلابات المتسارعة والمتتالية من غموض، يطول مجموع ما يتم استحداثه، واختلاقه من حقائق، فإن ظاهرة تجاوز الحداثة لذاتها أمست أمرا واقعا، يتعذر تجاوزه، أو إنكاره. كما لو أنها أفلتت زمام حركيتها، فلم تعد مهيأة للتحكم في ما تجترحه من مسارات. ذلك أن تصاعد وتيرة إيقاعها، خاصة في جانبها التقنوي، أدى إلى استقلال زمن ما تنتجه، عن زمن إرادة إنتاجه. وهي استقلالية شملت ذات المنتوج، كما شملت سلطته، فلم يعد خاضعا لأي توجيه نظري أو فكري.
وحيث أمست الحداثة عبئا حقيقيا على هاته الذات، وهذه السلطة، فإنها جنحت إلى النفخ من روحها في استقلاليتهما، كي تكتفي بملاحقة ما يترتب عن ذلك من فوضى، أسندت محنة ومتعة تدبيرها لضآلة الكائن وحيرته.علما بأن هذا الكائن، وانسجاما مع التحولات ذاتها، أمسى مختزلا في وظيفة تأمين المنتوج، ضمن الدورة الطبيعية التي نذرت- الحداثة – حياته لها، تمهيدا لتذويبه هو أيضا في مقتضيات التقني التي تستلزمها استمرارية حركية المنتوج. وطبعا فإن المردودية المركزية المنتظرة من فعل التذويب، هو استحداث كائن مغاير، متحَكَّمٍ فيه ومهيأ للاندماج في أفق كينونة مغايرة، عبر إفراغ جسده من استيهاماته التقليدية، التي كانت تسمح له من قبل، بالحلول في مضاعفه الأسطوري والخرافي المزدهي بحضوره، في ذاكرة ارتقاءاته السيزيفية، بحثا عن أصل ضائع، قد تكون الميتافيزيقا حرمته منه ذات اختبار.
إن الجسد هنا، لم يعد له حضور في عرف الحداثة، إلا بصفته طاقة مستهلِكة، وأيضا بصفته وسيطا آليا، أو بالأحرى بطارية مثبتة في المنظومة الآلية الكبرى، التي هي الكون. إنه الوسيط الذي ليس له سوى أن يكون نقطة عبور الطاقة المحركة للآلة ذاتها. جسد مطالب بتطوير إمكاناته الفيزيائية والبيولوجية، كي يرقى بحضوره إلى مستوى هذه المهمة، حيث يمكن الحديث عن تعدد مقامات الجسد، بتعدد واختلاف الحيز الذي يمارس فيه وظيفة توزيع الطاقة الإنتاجية لآلة الكون، التي تتراوح بين الوظائف الحاسمة، وبين تلك المقتصرة فقط على حضورها الرمزي أو الثانوي، حيث يمكن الحديث عن الأجساد/البطاريات التي تُجدد فيها الطاقة ذاتَها ومسارها، والأجسادِ التي تكتفي باستضافة العبور، فيما تظل الأجساد المحايدة والمتمردة، خارج مدارات الحداثة، وفي منأى عن خطاباتها، بما يعني وقوفها خارج الزمن، وخارج الحياة.
في قلب هذا التوجه، لن يُسمح للجسد أبدا بأن يكون ظلا لكلمة سماوية، كما لن يسمح له بالارتقاء إلى مستوى السؤال الفلسفي أو الإبداعي، بقدر ما يُسمح له بالتحول إلى شريحة إلكتوبشرية معدة، أو غير معدة للتعبئة. وهي وضعية أقصته عن موقعه القديم، الذي كان يحتله سابقا، بصفته مركز الفراغ الكوني العظيم. ولربما يعود سبب ذلك، إلى الحقائق الجديدة التي كاشفنا بها هدا الفراغ في العصور الحديثة، مؤكدا وبالملموس، صعوبة احتوائه بميكانيزمات المحكيات الخرافية أو الأسطورية، على ضوء الأسئلة والفرضيات الجديدة، التي يطرحها عقل الحداثة حاليا، وليس عقل الكائن، على امتداد مسارات بحثه الدؤوب، عن خطابات منتوج مغاير لكينونة مغايرة، هي الآن بصدد قطع صلتها بتلك المقاربات، التي تحاول تفسير أسرار دورة الأرض على قرن ثور، مستسلم لتثاؤبه الرتيب.
إن التقنية وباعتبارها منتوجا، تأخذ هي أيضا شكل رحم فعلي، يقوم بتوليد طوفان قيومي من المنتجات المادية والرمزية، جعلت من هذا الفراغ الكبير فضاءها الأثير، لاستكشاف ما يسبح فيه من عناصر، قصد تحويلها إلى أجساد بديلة، تمتلك معاييرها، ولغاتها الخاصة بها. وهي الأجساد ذاتها، التي تغري أجساد الكائن، بالسير حثيثا في اتجاه نهاياتها المتوقعة. أما بالنسبة للكتابة، ومن جهة حدها الشعري، فإنها تستمد من هذا الفضاء دلالة أن تكون هناك، انسجاما مع خصوصيتها المتمثلة في بحثها عن كونية منابع التغريب، التي يمتثل فيها العقل البشري، لسلطة عقل الحداثة، بعد أن حل ببعده الأسطوري الجديد، محل العقل الأول، وأمسى الحجر الأساس في اقتراح الأسئلة، وصياغة مخططاتها، بكل ما يمكن أن تسفر عنه من مسالك ومدارات، وفي ترسيم صورة كائن مطالب بالسهر على تدبير رحلة المنتوج، التي تبدأ من اليد اليمنى للسيدة التقنية، كي تنتهي آجلا أم عاجلا ـ عند يدها اليسرى، وصورة أجساد مصابة بعمى الوقت، واختلالات كونية، يطيح فيها الصدى، بما لم يشيده الصوت بعد.
——–
القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *