العقل العربي.. وسؤال المستقبل


*محمود قرني

كان أخطر ما تركته علوم الاستشراق للعقل العربي هو تحور السؤال الوجودي الى سؤال يسبح في فراغ الآخر، يحصل على مشروعية تقدمه أو تخلفه، يكتب المستقبل أو ينزلق الى أضابير الماضي. 

من هذا المنطلق حاولَت الكثير من الأدبيات المحدثة التشكيك في وجود الفكر العربي بالأساس، باعتباره يقتات على مخلفات عصر النهضة في تجلياته الغربية، وباعتباره أيضا مردودا استشراقيا لم ينجح في التعبير عن القطاعات العريضة من المتعلمين وأنصاف المتعلمين فضلا عن الحشود الكبرى من عامة الناس ودهمائهم. 
ورغم أن جانبا من تلك التصورات لم يكن بعيدا عن الحقيقة، إلا أن ذلك لم يحل دون تشكل التكوينات الفكرية المحلية، التي استطاعت صناعة تمايزات مقبولة مع جذرها التاريخي. فلا يمكننا مثلا التحدث عن الوضعية المنطقية عند زكي نجيب محمود باعتبارها إعادة إنتاج لفرانسيس بيكون أو جون ستيوارت ميل أو مدرسة فيينا جملة. فقد استطاع عبر قناعته بـ ‘التحليلية’ أن يقدم قراءة مدهشة لموقفه من التراث، واستطاع عبر المنهج نفسه مع آخرين، تفتيت مفهوم جماعات واسعة من الأصوليين الذين لازالوا حتى الآن يدفعون باتجاه العودة للماضي، وأظن أن كثيرين غيره فعلوا الشيء نفسه. 
وقد أثمر الكثير من هذه الآراء مجتمعا لا يمكن رده للجاهلية المطلقة. مجتمع اخترقت حصونه مفاهيم عديدة حول نبذ الحكم العشائري وتصاعد الأبنية العقلية واحتلالها مركز الصدارة. غير أن تأمل تلك التصورات في مواجهة نظم الحكم ستدهشنا بالنتائج التي نراها على الأرض الآن . وهذا الانفصال بين البناءات العقلية المتقدمة والأداء الرجعي لا يمكن فهمه دون تحليل الواقعين السياسي والمجتمعي، عبر تبلور طبقات الحكم، أقصد السلطة والمال في مواجهة الأداة الناعمة للتعبير العقلي.
وما من شك أن جزءا أساسيا من أزمة الفكر العربي يرتبط، بقوة، بعدم اختبار مقولاته على الأرض. فالنداءات الحارقة لاحترام الآخر ‘الغربي تحديدا’ كدعوة متقدمة ؛ كانت تحض على التعايش وتحاول أن تتجاوز التاريخ الاستعماري الشائن، لكنها في النهاية لم تسفر عن تكريس مفاهيم جيدة للتبعية، وإعادة إنتاج الأنماط الاستعمارية بصور مختلفة وتحت شعارات جديدة منها عولمة رأس المال والاحتفاء بالهوامش البشرية المهملة لأسباب سياسية تستهدف الحد من الهجرات الواسعة الى أوروبا. ومع ذلك استمر تعامل الآخر مع مستعمراته القديمة باعتبارها فرائس محتملة. في الوقت الذي لم تسفر فيه دعوات عولمة المعرفة والاقتصاد، سوى عن مزيد من الجوعى جنوب خط الاستواء، ومزيد من الغرقى وهو يعبرون من قيظ الجنوب الى نسمات الشمال، التي سمعوا عنها لكنهم لم يقدر لهم أن يروها. 
من هنا ستظل مقولات الفكر العربي في حاجة الى إعادة اختبار، لكن ذلك لن يحدث سوى بعد إعادة تعريف الآخر وفق احتياجاتنا وليس وفق احتياجات هذا الآخر. 
فقد تجسد في بداية ثورات التحرر عدد من الأفكار البراقة حول استعادة الفرد لصوته الخاص، وعودة الطبقة المتوسطة لقيادة المجتمع، بعد عشرات العقود من الحكم الهيراركي، وكانت فكرة التحرر الوطني فكرة مركزية التف حولها الشعب العربي من محيطه الى خليجه. وفي غياب فكرة تداول السلطة أيا كان الشكل الذي يحتويها تبلورت مع الوقت فكرة الديكتاتور العادل والنبي المخلص، وكانت تهديدات الغرب جزءا من تعزيز هذه الحلول غير الديمقراطية، وفي غمرة الصراع الاستعماري القديم تم كسر شوكة المشروع الوطني العربي الذي تجسد في مراكز تقليدية مثل بغداد والقاهرة ودمشق، حدث ذلك بصور مختلفة. وكان أبرز نقاط تبلور هذا الصراع في غير صالح الطموحات الوطنية في دولة حديثة متجسدا في هزيمة السابع والستين ومعاهدة السلام التي أخرجت مصر، ليس من الصراع العسكري فحسب، بل من الصراع الحضاري نفسه. 
استعاد الغرب طبعا مراكز نفوذه القديمة، ودعم حكاما يقترب أداؤهم من الخيانة الوطنية، وفي السبيل الى ذلك تم دعم تحالفات غير أخلاقية مع رأس المال من ناحية ومع التيارات الدينية المتشددة، لتؤدي دورا لا يمكن وصفه بأقل من الخيانة، فهي من ناحية تلعب دورا في حماية تلك الأنظمة لقاء حصة في الحكم ولقاء استحقاقات الوجود، مقابل ذلك فقد قبلت تلك الجماعات باستخدامها كفزاعة للنموذج الحضاري ‘الأرقى’ الذي كان من المفترض له أن ينبذ الحكم الديني ويعتبره خصما تاريخيا. 
على جانب آخر فقد نجحت الكثير من إغراءات السلطة في كسر إرادة النخبة العربية بدرجات متفاوتة، هؤلاء الذين انعقدت حولهم الآمال في إعادة صياغة العقل العام بعيدا عن نظر الهيراركية والأنظمة الأبوية، وبكل أسف استمر عمل هؤلاء لعشرات السنين يتمحور حول كونهم أدوات تبريرية لخطاب سياسي يفتقر الى أدنى الروادع القانونية والأخلاقية.
طبعا هناك إشكاليات داخل ما يسمى بالفكر العربي. وهناك من يتحدث عن غياب المنهج، وهناك أيضا من يتكلم عن خروج العرب، لهذه الأسباب، من الصراع الحضاري. غير أن ثمة مبالغات كبيرة في هذا الطرح، فالاعتماد على مناهج تفكير تفتقر الى الخصوصية ليس سببا كافيا لوصم العقل العربي. فالمستقبل يكتشف قوانينه من خلال التجربة. والتجربة في العلوم الإنسانية كما في العلوم التجريبية، لا تعني سوى الكشف، والكشف كما تقول المتصوفة: طريق الواصلين. من هنا فإن غياب التجربة أو عدم اكتمالها في معظم الأحايين يعني تحول المقولات الى كائنات مصطنعة ومصمتة لا تعني شيئا سوى كونها ذكرى أليمة. 
ولا شك أننا في حاجة ماسة الى مدرسة جديدة للإحياء. لكن ذلك لن يحدث سوى بتحقق أمرين: الأول تغيير مفهوم الدولة عن نفسها باعتبارها منتج المعرفة، ومن ثم فهي تسعى دائما لتشكيل العقل العام تحت وصايتها. وهذه حلقة من حلقات تحور العقل الجماعي في أخطر وأسوأ صوره. ومن ثم لابد من كسر هذه الحلقة عبر ترسيخ مناخات الحرية بكل أنواعها بما فيها حرية المعتقد، وكذلك تعميق مفاهيم التمازج الحضاري.
الأمر الثاني: كسر تحالف السلطة مع رأس المال، وعودة المثقف الى وظيفته الأصيلة باعتباره ممثلا أعلى للحقيقة كما يقول إدوارد سعيد.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *