أنطوان جوكي
عند كل معرض جديد للفنان الأميركي أندي وارهول (١٩٢٨ ـ ١٩٨٧)، يراودنا سؤال مشروع: ماذا بقي من إنجازات هذا العملاق في الظل ولم ينل بعد حقّه من العرض والتحليل؟ الجواب على هذا السؤال هو طبعاً لا شيء. لكنّ هذا لا يعني أن الأعمال الغزيرة التي خلّفها وراءه فقدت بريقها أو طاقتها التحريضية، ولم يعد هنالك ما نستخلصه منها. والدليل هو الحدث الذي تشكّله في كل مرة معارضه، والمقالات الغزيرة التي يتبارى النقّاد والصحافيون في كتابتها حولها، كما يتجلى ذلك في معرضه الحالي في «متحف باريس للفن الحديث» الذي يسجّل أعلى نسبة من الزوار، مقارنةً بالمعارض الأخرى الراهنة، ويتعذّر العثور على مجلة فنية فرنسية لم ترصد له عددها الأخير أو ملفاً خاصاً فيه.
جديد هذا المعرض هو سماحه لنا بمشاهدة، للمرة الأولى خارج أميركا، كل أجزاء العمل الذي أنجزه وارهول خلال عامَي ١٩٧٨ و١٩٧٩ تحت عنوان «ظلال». لوحة تتألف من أكثر من مئة وثمانية مصاريع يتعذّر معانقتها بنظرة واحدة ويتكرر على سطحها نموذجاً مجرّداً واحداً بألوان مختلفة، ما يخلق إيقاعاً خاصاً يستحضر شريطاً سينمائياً ويفتح إدراكنا للفضاء على بُعدٍ زمني. وفي طبيعته، يدعونا هذا العمل الراديكالي ومجموعة الأعمال الأخرى التي تجاوره داخل المعرض، وتتراوح بين لوحات ومنحوتات وأفلام، إلى إعادة التفكير في فن وارهول الذي يخرج عن الأنماط المعيارية وأسلوب الـ»بوب آرت» الذي يشكّل الفنان أحد أبرز مبتكريه.
وفعلاً، لم يخفِ وارهول في منتصف الستينات رغبته في تجاوز فن الرسم عبر إنتاج أعمال غير محكومة بإكراهٍ أو حدود. وما عودته إلى الرسم في السبعينات إلا لمتابعة مشروعه الذي هدف إلى تفجير القواعد والاصطلاحات المرتبطة بهذا الوسيط. ومن هذا المنطلق، استخدم باكراً عملية العرض نفسها كوسيلة تعبير تسمح بالاختبار، فشبّع فضاء معارضه وقلب نظام التسلسل فيها وخلط الأنواع بهدف منع المتلقّي لأعماله من تقليصها إلى مجرّد «مربّعات صغيرة».
في مدخل معرضه الحالي، نشاهد عشر لوحات من السلسلة التي رصدها الفنان منذ عام 1962 لرسم علبة «شوربة كامبل»، وأثارت في البداية استياء النقاد بسبب أسلوبها البارد الذي لا يثير أي انفعال لدى المتأمّل فيها. أسلوب ما لبث أن استخدمه عام ١٩٦٦ لتنفيذ سلسلة بورتريهات ذاتية، يحضر بعضها في المعرض، ولا تختلف إلا بألوانها، وبالتالي تعيق سطحيتها أي تأويل سيكولوجي لها.
بعد ذلك، نشاهد مختارات من الأفلام التي أنجزها وارهول تحت عنوان «تجارب على الشاشة» وترتكز على مبدأ بسيط يقوم على مثول أحد نجوم السينما أمام عدسة الكاميرا لفترة من الزمن. وفي معرض تفسيره لغاية هذه الأفلام التي تجنّب فيها حِيَل المونتاج التقليدية وركّز فيها على حوادث التصوير التقنية، صرّح الفنان: «بما أن الناس لا يذهبون إلى السينما إلا لمشاهدة النجوم، أمنحهم في هذه الأفلام فرصة عدم رؤية شيء آخر غيرها، بغضّ النظر عمّا يمكن أن تفعله هذه النجوم أثناء التصوير».
وفي صالة خاصة، تحضر لوحات من السلسلة التي أنجزها وارهول حول موضوع «كرسي الإعدام» وأخضعها لاستراتيجية دعائية بتغيير ألوانها وخلفيتها في كل مرة، كما لو أنه يروّج لها. وفي الواقع، أراد بذلك التلميح إلى تنافس بعض حكّام الولايات في بلده على الترويج لعقوبة الإعدام بفنٍّ كبير لغايات انتخابية محضة. وفي السياق ذاته، نشاهد في جوار هذه اللوحات تلك التي خصصها لجاكلين كينيدي وسعى فيها، عبر رسم وجهها ضاحكاً أو حزيناً، إلى نفي الطابع الاستثنائي لمأساة اغتيال زوجها، وبالتالي إلى انتقاد فيض الصور التي نشرتها الصحافة الأميركية لها في وضعيات ومناسبات مختلفة بعد هذه الحادثة.
ولا عجب في وضع منظّمي المعرض الحالي لوحات من سلسلة «زهور» التي تستحضر بطريقة معالجتها ورق الجدران، وبالتالي تعكس بجانبها التزييني نظرة وارهول للفن كسلعة عادية، إلى جانب بعض اللوحات التي رصدها الأخير لماو تسي تونغ. ففي الاعمال الأخيرة نستشفّ جماليتين متضاربتين: من جهة، تقنية رسم غير متقنة وسريعة لا تستدعي فن الرسم الحركي بقدر ما تهزأ من عملية تحوّله إلى نموذج ومثال لوسيلة تعبير فردية، ومن جهة أخرى، تواتُر وتلاعُب بالبورتريه الرسمي لـ «أب ثورة ثقافية» لم تر في شخصية الفنان سوى راسب من رواسب الثقافة البورجوازية. هكذا، تمكن من إفقاد القيم المفترضة للرسم الحركي صدقيتها، ومن تحليل عملية تعبّد الشخصية بتكراره صورة ماو تسي تونغ على ورق جدران.
ولأن وارهول سعى أيضاً خلف فن غير مادي وزائل منذ عام ١٩٦٦، يحضر في المعرض عمله الذي يحمل عنوان «انفجار لا مفرّ منه» ويشكّل، بجمعه موسيقى فرقة «فيلفيت أندرغراوند» مع أفلام وصور وإضاءة حيّة ورقص، حفلاً متعدد الحواس، ذا طابع سادي ـ مازوخي، يعكس البُعد الهلسي لبعض الحفلات الموسيقية التي تتلاعب بجمهورها إلى حد تحويله إلى جزء بسيط منها.
ومن أفلام وارهول الكثيرة، نشاهد في المعرض فيلم «إمباير» الذي يقارب موضوع الملل بتصويره على مدى ثماني ساعات قمة مبنى «إمباير ستيت» بواسطة كاميرا شبه ثابتة، وعدم سرده أي قصة. فضيلة هذا العمل الوحيدة هي منح المشاهد فرصة لتضييع الوقت والحلم والاهتمام بالظواهر الهامشية للفيلم (الغبش الخفيف وشوائب الشريط السينمائي والغبار الذي يعلوه…) التي تخفيها السينما التجارية عادةً كي لا يتشتت انتباه المُشاهد ويخرج من الوهم.
ونشاهد أيضاً فيلم «قبلة» الذي يتألف من مشاهد طويلة ومعزولة لتلك اللحظة ـ القمة في أفلام هوليود، أي القبلة. لكن بخلاف هذه الأفلام، يبدو فيلم وارهول مجرّداً من أي قصة تقود إلى قبلة بريئة، تتواصل القُبَل فيه بطريقة غير متوقّعة، وبلا رزانة أو احتشام، مثيرةً مخيّلتنا في شأن ما يمكن أن تفضي إليه ولا نراه.
——-
الحياة