*ممدوح رزق
خاص ( ثقافات )
الموت هو الأصل الحسي عند (دالي)، والذي سيتحوّل إلى مفاهيم تشبه (الالتهاب السحائي) الذي قتل أخيه في سن السابعة، أي قبل ثلاث سنوات من بداية وجوده في العالم ..
عندما يحمل (دالي) اسم أخيه الميت سيبدأ في تثبيت موقعه فيما فوق الحدس والعقل .. لن يتعامل مع الحواس كمصدر إدراك خادع، يقوده بالضرورة نحو العقل الديكارتي، كما أنه لن يثق كلياً في المعرفة الناجمة عن التجربة الحسية كما راهن (دافيد هيوم) .. خبرات تحرير الذات من صورة الأخ بالثورة على أب يحمل حباً مستحيلاً لصبي مات، ويرى في ذلك الذي على قيد الحياة نصف إنسان هي البراهين الأوليّة لتدنيس التوافق بين العقل والحواس .. تخريب التجانس، كأنه انتهاك بدائي سيتطور ليصبح تخطياً مدموغاً لظاهراتية (هوسرل)، وللحلول الوسط الممكنة بين (العقلانية)، و(التجريبية) ..
استخدم (دالي) كافة ما يصلح من حيّل الطفولة لمعاقبة أبيه على عدم مبالاته بمشاعر ابنه: الصراخ المتواصل .. التظاهر بالسعال، وادعاء الاختناق بشكل هيستيري .. تعمّد التبول في الفراش والتبرز في غرفة المعيشة أو داخل الدولاب .. كان كل ما يعنيه هو رؤية أبيه خائفا وغاضبا ومذلولا، لكنه لم يستطع التوقف عن الإعجاب به حيث كان يراه دائما عملاقا في قوته وعنفه وسلطته وحبه القاهر خاصة لسلفادور (الأول) .. تلك كانت جذور رفض التوافق الضمني بين المفاهيم العقلية والصور الملموسة للزمان والمكان .. كان (دالي) يخلق بنية إدراك خاصة فيما وراء التخيل والفهم كشرطين قبليين قائمين في الذهن البشري .. سيتم استبعاد الأسس التي يُحتمل أن تقوم عليها التجربة عبر توحيد المدركات الحسية في نسق واحد .. المشاهد الأولى في حياة (دالي) كانت تحضيراً لخلود انتقامي من الإحالات الصارمة للذات، وهو ما سيواجه تحدياً محكوماً باليأس مع موت أمه (عسل الأسرة)، الملاك الذي ارتبطت صورته بالقرنفل المزروع على يديها بالشرفة.
كان (سلفادور دالي) يرى أن هناك صراعاً دائراً بينه (الذات) والطبيعة (المحسوس) عليه أن يصححه (الموضوع)، أما الشغف بالموت فكان هو المسؤول عن تكوين المقولات التي يتم من خلالها توجيه الإدراكات الحسية نحو العالم .. تنظيم التجربة في صور وأطر عقلية بواسطة الشبق حيث تصبح هذه المقولات جزءا من الذات العارفة دون أن ترتبط بأي حالة حسية بل أشبه بحالة باطنية موجودة قبلاً داخل الذات .. مع هيمنة هذه الحالة أصبح (دالي) من الناحية التاريخية، ومنذ لوحة (إصرار الذاكرة) قادرا على أن يقدم معادلا لمعادلة الزمان والمكان .. بالنسبة له فإن الزمن لا يمكن التفكير فيه دون المكان، وكان هذا ما تحاول لوحاته أن تؤكده.
في لوحته (Araignée du soir Espoir ) 1940تعبير كامل عن حقيقة الدراما العميقة الخاصة به أو الصورة الذاتية التي يتم على أساسها تحقق الموضوع: طفل له أجنحة ملائكية يجلس على مدفع مستند إلى عكاز يبزع من خلاله حصان محاجره فارغة وسيقانه الأمامية تشكل راعي النصر المجنح الذي ينتهي بدوره إلى قدم عملاقة سيالة تربط بين الثدي الطويل الأعرج الذي ينزل من المدفع ، وأمام هذا المدفع إمرأة عرجاء منشطرة إلى نصفين مستندة على فرع شجرة مزروعة في إطار هندسي .. الإطار الذي أنشأه الذهن كي يضع الفهم بداخله الوحدة المركبة للمدركات الحسية .. لم يكن لدى (دالي) انفصام بين الذات والموضوع حيث كانت وظيفة الذهن توليف نسق ماجن يوحّد الكثرة الذهنية للغرائبي، ويضع روابط من الفانتازيا المستحيلة للأشياء، وعلاقات أقرب للتزاوج السادي والمازوخي للذات العارفة.
بارتباطه بـ (جالا) تجاوز (دالي) رفض أو قبول الوجود الموضوعي للأشياء كما وجد عموده الفقري، ورغم اعتقاده في البداية بأنها ستلتهمه إلا أنها على العكس علمته أن يتناول الحقيقة ويأكلها بحسب تعبيره .. أن ينتج معرفة لما وراء المحسوسات كبديل للمعرفة التي لا مجال للحصول عليها (نقض الميتافيزيقا) .. بدا كأن (دالي) قادر على إثبات الحالات الماوراء حسية التي لا يمكن إثباتها، والتي يمكن للذهن البشري تصورها سواء كانت على مثال أو متضادة مع البنى الحسية.
عام 1956رسم (دالي) (الطبيعة الميتة الحية): إناء الفاكهة طافيا في الفضاء بمروحة والفواكه والقرنبيط والطائر والكوب والزجاجة تفرغ نفسها وسكين أمام نافذة من خلالها نرى بحرا متموجا لا نهاية له بينما يد تمسك بقرن وحيد القرن .. كان هذا بمثابة تصور تركيبي للوجود، مضاد للتصور التركيبي الغائب، الذي لا يمكن الحصول عليه .. كان (دالي) يرى في هذه اللوحة تصحيحا للطبيعة عن طريق التواصل مع فكرة الزمان / المكان من خلال رؤية (الخفة) التي تحطم العامل الرياضي .. يشيّد (دالي) رابطاً موحداً لأجزاء الوجود، يعارض الروابط الموحدة المفترضة التي تحدد الغاية والإيمان بالحركة كأداة للوصول إلى هذه الغاية من خلال التاريخ .. كان (دالي) هو الذات وفعل المعرفة معاً .. الذات والوحدة والمعنى والموضوع .. التنوع الشيطاني للفردية، وللأشياء غير الموحدة التي لا تملك وحدة خارجية منعزلة عن الذات .. كان (دالي) هو الكثرة المتناقضة التي بلا هدف للأجزاء الفردية والشيئية للوجود.
(“دون كيشوت” هو أحد المجانين وأكثر المهووسين المتعلقين بشيء ما على هذه الأرض والذي يريد أن يمتلك أندر الأشياء في العالم لذلك شعرت أن كل رسم لي عن دون كيشوت يجب أن يكون أندر الأشياء) …
هذا ما كتبه (سلفادور دالي) عن (دون كيشوت) وعن اللوحات التي رسمها له .. كان يُشكّل وجهاً آخر لنسبية المعرفة .. الشك المعرفي في وجود الموضوع ذاته كشيء مستقل عن الذات .. الشك في إمكانية معرفة الأنا لذاتها حيث لا يمكنها التحول إلى موضوع لها نظراً لاستحالة وجود مسافة بين الذات والموضوع .. كأن (دالي) كان يعيد ما كتبه عن نفسه بكلمات أخرى :
(أنا “دالي” الذي نبذني وطردني والدي، وتحت ظل شجرة زيتون وبين الصيادين عشت آلامي للنهاية مثل المسيح، وظلت عبقريتي في حالة مضادة للجاذبية مثل أحد الكواكب في مجموعة شمسية كنت أسيطر عليها).
___
*شاعر وروائي وناقد مصري