تخلَّ عن عقلك!


*علي أبوالريش


قد يجد من يستمع إلى هذا العنوان ما يستفز حفيظته ويجعله يلعن اللحظة التي فكر بها في الإصغاء إلى كلام مجرد يحارب العقل أو ينفيه، هذا العقل الذي أنتج حياة بكاملها بدءاً من الزراعة ثم التجارة ثم الصناعة.
لا ضير.. لا بد أن نرمي حجراً في المياه الراكدة، كي تتحرك الموجة في باطن البحر، ومعها نرى الزعانف الملونة التي تثير دهشتنا، ومن ثم تبعدنا عن الاصطياد في المياه العكرة. ونحن بصدد الحديث عن الرواية، أقول وبكل صراحة: لكي تكتب الرواية يجب أن تتخلى عن عقلك.. كيف؟
أقول: العقل يبحث في الماضي، ويسأل عن المستقبل، ونحن في خضم البحث والأسئلة نتجاوز حدود منطقة اللحظة، وبهذا نكون قد جسّدنا الزمن في منطقتين بعيدتين: الماضي بأحزانه التي لا يمكن الإفلات من قبضتها، أو المستقبل الذي يستحيل الإمساك به.
إذاً ما الذي يمكن الاتكاء عليه كي نوجد زمناً روائياً لا يلتفت إلى الوراء، فيقع في حفرة الوهم، ولا يرفع الرأس عالياً فيتعثر بحجر القلق؟ نحن بحاجة إلى اللحظة المتحررة من العقل، لندخل في الوعي الحقيقي، ينبلج النور باتجاه الجوهر.
كل ما يفصلنا عن العقل هو هذا المحيط الهائج من الأفكار والمعتقدات العواطف المسبقة، وكما قال روسو: «الأفكار المسبقة مفسدة للعقل»، لكنه؛ أي روسو لم يهدنا إلى الطريق الذي يخلصنا من صهر هذا الغليان، بل توقف عند محطة الحاضر دون أن يفسد المكنون الحقيقي لتمسكنا به؛ لأن الحاضر نفسه يصبح ماضياً، وقبل أن يكون ماضياً كان مستقبلاً، وهكذا فإن الإمساك بالزمن مستحيل من دون تحديد ما الذي نملكه من أداة فعالة تجعل هذا الزمن في حفرة الذات الواعية لا في قبضة العقل المتشرذم، والذي يهددنا بالانشقاق عن الذات والانحياز إلى ذات مفعمة باللواعج والملوثات الأنانية.
اخرج من أسر الموروث
تخلَّ عن عقلك، تخلص من فكرة أنك أسير لإرث بدائي، هو من إنتاج إنسان حاول التغلب على ضعفه في مواجهة الطبيعة باتباع طرق خداعية واحتيالات عقائدية واستثارات ذهنية أدت به إلى تجسيد واقع هو غير الواقع الحقيقي للإنسان، وهذا ما نجده في الإحساس بالألم الناتج من عقدة الذنب الأزلية المتوارثة المعبرة عن عجز في فهم الطبيعة وعن المكابرة في مواجهة جرائم الطبيعة. تخلَّ عن عقلك تعني تجميد قوة العقل وإبراز اللحظة الزمنية الساكنة والتأمل. عندما أتخلص من هوجاء العقل وعواطف الفكرة المتناقضة والمركبة من عناصر الماضي والمستقبل أكون أنا.. الإنسان ابن اللحظة هو الكائن المولود حالاً دون تزييف، ودون تخريف، ودون تجديف، ودون شوائب وخرائب، دون عذابات ممتدة من إحساس وهمي، بوجود ذنب إثر قطيعة بينه وبين آخر مبهم وغامض.
الفيلسوف الألماني فيورباخ قال: إن الإنسان مقياس الحقيقة، وقبله الأثيني بروتاغوراس قال: إن الإنسان مقياس كل شيء؛ وذلك رداً على فلاسفة اللاهوت الذين أرجعوا كل شيء إلى مطلق، وهو علة الأشياء.
لنعد إلى محور حديثنا وهو العقل، والذي هو الآلة الجهنمية التي أنتجت كل هذه الانفجارات الكونية، والتي أطاحت بالجوهر عندما تخلى الإنسان عن وعيه، وساهم بشكل فعال في صناعة هذه الآلة الفتاكة التي أودت بمشروعه الإنساني النبيل، فإذا كان الفيلسوف هايدغر قد تحدث عن عصر الميكنة، الذي أصبح فيه العقل الصانع للآلة عبداً وأسيراً لها، فيما تراجعت الذات البشرية عن صياغة وعيها بعيداً عن هذا المصنع الناري الرهيب، فإن ما يجب أن نتحدث عنه الآن هو: كيف يصبح الوعي بلا عقل؟ وكيف ينام العقل بعيداً عن الجسد، وهو المخلوق الذي تخصص في تحريك الجسد وإثارة العواطف، وصناعة واقع الإنسان بما لا يتناسب مع فطرته؟
لو استطعنا أن نفصل ما بين العقل والوعي لأمكننا اتخاذ القرار الوجودي الأهم، وهو أن تمضي الذات الواعية بملابسها الداخلية من غير ثوب مرقش، المصنوع في الأصل من قماشة الكتان المؤذية للجسد.

إلى النور الداخلي
عندما أكون أنا هو أنا، وليس تاريخاً من الآفات المعجونة برواسب ومخلفات وعوادم زمنية، أستطيع أن أنظر إلى الواقع بصورة صافية، وأستطيع أيضاً أن أسير في الطريق من دون خوف من وحش قد يتبعني أو قلق من حفرة قد أقع فيها. عندما أكون أنا، أكون قد تخلصت من الزمن الافتراضي والمصنوع من كلمة صاغها عقل البشر ليحدد تاريخ أحداثه الدامية، ويرسم خطوط الطول والعرض لخارطة مستقبله، الأمر الذي يجعل الاستحواذ على الوعي مستحيلاً؛ لأنه لا يستقيم الصفاء مع الملوثات، ولا يتساوى العقل مع الجوهر، فالجوهر هو مخزون الوعي القابع في مكان ما من الأنا، وهو الصانع الحقيقي للبساط الحقيقي الذي يتوخاه الإنسان.
في البوذية تحدثوا عن النيرفانا، وهي لحظة الصفاء، وهي الزمن الكلي الخارج من الزمن؛ لأنه ما من بد أن نعترف بأن هناك زمنين؛ الزمن الحقيقي والزمن الوهمي، والزمن الحقيقي هو ما يكمن في عمق الجوهر النفسي، أما الوهمي فهو زمن الواقع، زمن الكذبة الكبرى التي أوجدها الإنسان ليهرب من زمنه الحقيقي، وذلك تحت سطوة العقل وبطشه.
نحن في الخلوة الذاتية، في حالة الانفتاح على النفس، في حالة التحرر من حروب العقل، نكون قد وصلنا إلى مرحلة ما بعد اللاوعي، إلى عمق الوعي. أتصور أن هناك منطقة وسطى ما بين اللاوعي والوعي، يمكن أن نطلق عليها مرحلة الكمون، وهي أشبه بمرحلة النمو الجسدي عند الإنسان بين مرحلتي الطفولة والمراهقة. في هذه المرحلة يبدأ التشكل وصياغة الكينونة، فإما أن ينحرف الإنسان باتجاه العقل، وإما أن يفلت من القبضة الحديدية فيرسو عند شاطئ الوعي، ولكن لكي يتحقق النجاح ويظفر الإنسان بالوعي يتطلب منه الأمر جهداً جهيداً وسعياً حثيثاً، هذا العمل الجاد يبدأ أولاً بالذاكرة، الذاكرة مخزن للعقل الذي يخبئ فيه كل محتوياته الزمنية، يبرزها متى شاء، ويخفيها متى شاء، وذلك حسب الحاجة، وهذا ما نشاهده ونحسه في أحلام اليقظة أولاً، ثم في أحلام النوم.
والحديث عن أحلام النوم يقودنا إلى رحلة طويلة حيث إن الأشباح والأرواح تسكن في هذه المنطقة الخطيرة والغائرة التي تسمى: اللاشعور، أو العقل الباطن. هذا اللاشعور أشبه بالكهف المهجور القديم قدم الزمان، يفتحه العقل متى أراد، ويغلقه متى أراد، وعند فتحه تطفو الأوساخ من القروح والدمامل، ويبدو الإنسان السليم مثل حمل وديع تدفعه كيانات بغيضة إلى هاوية الخوف أو الفرح، ولكن هذين العنصرين مجرد وهم عقل أراد أن يخرج الإنسان من أناه ليبعثه!
أفكار أخرى، هي غير الـ(أنا)، فعندما يحلم الإنسان يعيش في فضاءات غريبة وعجيبة، وما الجنون البشري إلا استمرار لحلم أراد العقل أن يمد خيوطه ليعوق حركة الأنا ويأسرها ضمن شروط عقلية أنانية خارجة عن نطاق الوعي، بعيدة عن مرأى الأنا الواعية.
وعندما يحرك العقل آلته العجيبة فلا أحد أو لا فكرة تستطيع أن توقف نزيفه المؤذي، بل يظل الحالم في حالة غيبوبة فعلية، يفصله عن الوعي محيط من ميكانيزمات الدفاع النفسية المهزومة أمام العقل، ومن ثمَّ، عندما يستعيد الحالم وعيه يحتاج إلى جيش عرمرم وأسلحة فتَّاكة تواجه هذا الطوفان من الصور الخيالية المرعبة والمسرحيات السوداوية والتراجيديا الفنية المصوغة بطريقة محنكة وذكية جداً، غرضها القضاء على الأنا وتجسيد دورها ليصبح الوعي في عداد الموتى.
وفي أحلام اليقظة يختلف الأمر عن أحلام النوم، بل إن الأمر أشد وطأة، ففي أحلام اليقظة يعيش الحالم قروناً من الزمن يستجلب فيها مسلسلاً طويلاً وعريقاً من الأحداث الدامية، عبر تاريخ تطور الأجيال، فما يحلم به الإنسان ليس وليد اللحظة، إنما هو نتاج تاريخ بشري على مر العصور، ضمن موروثات تاريخية أزلية قد لا يعرف الحالم مصدرها لكنه يخضع لتأثيرها، ومن ثَمَّ يصبح جزءاً من حياته التي تتطبع بالأنا إلى حد التلاشي، الأمر الذي يصعب فيه التوازن ما بين الهو والأنا الأعلى، ثم بعد ذلك يصبح من المستحيل البحث عن الوعي في ركام المؤثرات التاريخية وما يصاحبها من آلام تصير واقعاً لا محالة.
فالأنا المأسورة بالماضي المحاصرة بالمستقبل دائماً ما تقول: من أنا؛ لأنها أنا العقل الذي يسلبها الهوية ويسحقها تحت سياط جبروته، ومهما حاولت الأنا النزوع إلى الاستقلال من نير العقل فإنه ينصب حباله ما أمكنه من عنف، ولا مجال للحوار مع العقل كي تتم عملية المصالحة؛ لأنه عقل لا يؤمن بإنسانية الذات بقدر ما يحاول وبقوة جعل الأنا ضمن دائرة اللامنطق، ليستمر في تشكيل واقعه المنشود، واقع العقل الشيطان المستمد من عصابه القهري المستبد، وعندما يصبح الزمن هو المكان الذي يختبئ فيه هذا العقل، وعندما يصبح المكان هو الزمان الذي يحبك فيه تاريخ أحداث الذات؛ فإن الأنا تعجز عن إيجاد محتواها الواعي، ومن ثَمَّ تذهب كل محاولاتها لتحقيق وعيها أدراج الرياح.
ويقول إيكهارت تول: الخطوة الوحيدة والأكثر حيوية على طريقك نحو التأمل هي تعلم كيف لا تعود مقيداً بالعقل، وكلما تمكنت من إيقاف فيض العقل ازداد نور وعيك وصار أكثر إشعاعاً.
وعي الذات
إذاً تمكُّن العقل من السيطرة على الأنا كمن يدخل إنساناً في غرفة مظلمة ويطلب منه أن يتعرف شكل الفيل، هنا سوف يصف الإنسان الفيل بالكائن المجوف الطويل المنحني عندما يمسك بخرطومه، أما إذا وضع يده على أحد سيقانه فسوف يصفه بأنه مدبب وسميك وقصير، وهكذا، ظلام العقل خدعة بصرية، استمرت مع الإنسان منذ فجر التاريخ حتى يومنا، ومهما بلغ الإنسان من تطور تكنولوجي وتقني ناتج من العقل الجبار، فإنه يبقى محصوراً في غرفته القاتمة عندما لا يصل إلى ذروة وعيه بذاته، وعي الذات هو التطور الحقيقي الذي ينير الأنا، ويدلها على الطريق الصحيح في تلمس هدوئها وطمأنينتها، ولولا ذلك لما أصبحت الحروب الطاحنة المدمرة هي سبيل العقل المخترع لأشد الآلات فتكاً وبطشاً، فهذا العقل بكل ما يحمله من أدوات النجاح في انتصاره على الطبيعة، إلا أنه بحكم فطرته الأنانية يظل أعمى وغبياً في علاقة الأنا بالأنت، وما يتبعها من علاقات بالآخر، والتي هي ثيمة الرواية الحقيقية، ولا مجال للحديث عن الرواية دون التطرق إلى الأنا التي هي مربط الفرس في تناولنا للزمان والمكان.
فعند الحديث عن هاتين المنطقتين الزمان والمكان لا بُدَّ من أن نجلو الصدأ عن الأنا؛ لأننا نؤمن إيماناً راسخاً أنه لا زمان ولا مكان في الأصل إلا ذلك الزمان النفسي والمكان أيضاً.
سوف يقول قائل: كيف؟
أقول وبشدة: إن الزمان الحقيقي هو الزمان النفسي الداخلي، وكذلك المكان، فإذا كان الزمان والمكان مرتبطين بالحدث، وإذا كان الحدث نتاج الإنسان، والإنسان محركه الأساسي هو الذات الفاعلة، إذاً لا وجود لزمان ولا مكان في الواقع.
سوف أسرد لكم حكاية صار لها أكثر من خمسة وثلاثين عاماً:
كنت في مصر عام 1978 ضمن فريق عمل دراسي، حيث كنت في السنة الثالثة: علم نفس، وكان قد طلب منا الذهاب إلى مستشفى العباسية للأمراض العقلية والنفسية لعمل بحث عن بعض الحالات الموجودة في هذا المستشفى.
في ذلك الوقت لفت نظري رجل كان يجلس على دكة إسمنتية يتلفت يمنة ويسرة، ويتحدث بصوت مرتفع، وعلى الرغم من وجوده بمفرده فإنه كان يشير بيديه، ويعقد حاجبيه، ويلوي بوزه أحياناً، ويضم شفتيه أحياناً أخرى كأنه بالفعل يدير حديثاً مع شخص يجلس أمامه. كان كلامه منصباً على عتاب الشخص الآخر، وهي امرأة، فيقول: قلت لك يا امرأة صدّقي كلام أمك، لكنك لم تسمعي الكلام، ثم يضيف: أنت التي جعلتِ حياتي جحيماً لأنك أنانية. يستطرد قائلاً: أنا كرهتك، وكرهت حياتي، وكرهت كل الناس، ويستمر في كلامه المعنف للمرأة معاتباً أحياناً وشاتماً أحياناً أخرى.
وكنت أستغرب من هذا السيل من سرد القصة الطويلة وكأنه كاتب سيناريو محترف، يؤلف حواراً ممتعاً على الرغم من سوداوية مشاعره.
بعد أن عدت إلى المنزل في المساء وجدت نفسي أكرر نفس ما استنبطته من حوار الرجل، بل جلست أنا أيضاً أردد حواراً جديداً وأسرد كلاماً لو حاولت أن ألقيه أمام زملاء لي لما استطعت. بعد صمت اكتشفت أن هناك شخصاً آخر بداخلي يتحدث وليس أنا كما هو الرجل الذي شاهدته في المستشفى.
حاولت أن أستعيد الذاكرة، وأسترجع ما قرأته في منهاج دراستي في علم النفس، وجدت أن ما ذكره فرويد عن اللاشعور ينطبق على الرجل وعليَّ أيضاً، اكتشفت أن هذا هو الصوت الداخلي صانع الزمان والمكان، وما عدا ذلك فهو وهم، فالزمان الحقيقي هو اللحظة التي يتفجر فيها اللاوعي عن معطيات نفسية مرتبطة بأحداث، هذه الأحداث قد لا تكون واقعية بمعنى الواقع الذي نعرفه، لكنها أحداث من صنع الأنا التي تحاول أن تضع المعيار العلمي للعلاقة مع الآخر، بعد أن فقدت ميزان العدالة العقلي. وفي الرواية ما يفعل الكاتب؟ هل يجلب العقل المحض ليسرد له أحداثاً معينة ضمن مكان وزمان معينين؟ إن فعل ذلك فهو سوف يكذب، سوف يؤلف منتجاً خليطاً بين الحيلة العقلية وموروث التاريخ الطبيعي لنموه العقلي، ومن ثمّ تصبح الرواية أشبه بمقال سياسي يكتبه شخص محنك محترف التأويل والتهويل، ولو فعل ذلك فإن الرواية مهما بلغت من حبكة فنية وإدارة لغوية وسرد محكم، فإنها ستكون مثل باقة الورود الاصطناعية، إذاً ماذا عليه أن يفعل؟
أقول لكم: أن يخرج من زيف العقل، أن يتجاوز حدود الزمن والمكان الواقعيين ليصل إلى زمانه الروائي، زمان الأنا الواعية والذات التي هي جوهرها الداخلي وليس الخارجي، عندما يكون الجوهر أو العلة أو السبب داخلياً يكون الفعل الروائي ناتجاً عن وعي، ومن ثم يسير السرد في سياقه الطبيعي بعيداً عن التصنع، بعيداً عن سلطة الناقد الذي يقيس الأعمال الإبداعية بالمسطرة والقلم كما تعلمه في مدارس الضبط والربط. الإبداع انفلات من العقل المأزوم بأخلاق الكذب، والإبداع هنا فن الخروج من لاوعي العقل والولوج في وعي الذات، هي الحركة التي تقوم فيها الأنا من التحرر من سكون العقل، وقد عرف أرسطو المكان بالأجسام التي يحويها، وقد اعتبر أن الأجسام حقيقية، لكن المكان ليس كذلك، فالأجسام تحدد المكان، وإذا أزلت الأجسام فإنك إذن أزلت المكان، وبحسب المنظور الأرسطي فإن غياب المكان يعني غياب الزمان أيضاً؛ لأن كليهما مرتبط ببعضه، وكلاهما أصله المادة البشرية.
الـ«ما قبل» والـ«ما بعد»
الما قبل والما بعد صناعة بشرية وهمية، الهدف منها أبدية الوجود، والذاكرة التي تحفظ الأحداث هي نفسها الذاكرة التي يتمخض عنها التفكير في المستقبل، وهي أيضاً نفسها الذاكرة التي تفرط منها حبات قليلة أو كثيرة من مسلسل الأحداث في الما قبل، الإنسان يحفظ ويكرر ويهضم ويجتر ويضيف، وأحياناً يكذب ويسرد أحداثاً غير موجودة، وكذلك يحاول مراراً اختلاق أحداث وتطويقها بحكايات وهمية هي شيء من الشعوذة الفكرية المراد منها إمساك الإنسان بوجوده والتأكيد دوماً على أنه موجود في المناطق الفائتة وكذلك المقبلة، إذن الكذب هو الحيلة الأشجع التي تطورت عبر العصور لتصبح ما يسمى التاريخ، والتاريخ في حد ذاته ذاكرة الإنسان المكتوبة التي تشهد أنه بدأ يكذب منذ أن سجل أول حدث تاريخي، ثم أصبحت الكذبة عادة محمودة كونها توفر طاقة هائلة لدى الإنسان وتمنحه مشروعية الخلود والأبدية في محيط كائنات زائلة، الديناصورات انقرضت إلى الأبد، وكذلك الفيلة والجمال والزرافات؛ مع ضخامة حجمها قياساً إلى حجم الإنسان، فهي زائلة لا محالة بينما الإنسان لم يزل يقاوم ويطور نفسه ويجدد خلاياه من خلال تطوير عدة أدوات أهمها العلاجات الطبية والأدوية، في مقابل الكذب المستمر الذي لا ينقطع مع استمرار تنفس الإنسان، فالإنسان يرجع سبب استمراره في الحياة نسبة إلى عقله المفكر كما قال رينيه ديكارت: «أنا أشك، إذاً أنا أفكر، إذاً أنا موجود». ولما لم يشفع له العقل بذلك أرجع الأمر إلى الحرية، كما قال روسو الذي أكد أن وجود الإنسان مرتبط بحريته، هذه الحرية التي يتميز بها من سائر الكائنات الأخرى، وذكر قصة مهمة حيث أحضر حمامة وقطة ووضعهما في قفص، وقدم للحمامة قطعة من اللحم، ثم قدم للقطة كمية من الحبوب، وبعد فترة عاد ليرى اللحم والحبوب لم يُمَسَّا، ليؤكد أن الحيوانات لا تملك حرية الاختيار، بل هي مبرمجة ضمن تقنية بيولوجية لا تستطيع التخلص منها.
وجاء آخر مثل شوبنهور الذي اعتقد أن الإرادة لدى الإنسان تختلف عن بقية الكائنات الأخرى؛ الأمر الذي يجعله متميزاً بإرادته ويحكم العالم بالإرادة القوية التي لا تلين، في حين أفرط فردريك نيتشه في قوله: إن إرادة القوة هي التي تحكم وجود الإنسان، ومن لا يملك القوة لا يملك حق الوجود، وعندما تجتمع عناصر القوة في الداخل يكون الإنسان متوائماً منسجماً مع متطلبات وجوده، ومن ثَمَّ فهو المنتصر لا محالة.
هذه محاولات يائسة من الإنسان لبسط النفوذ، وتأكيد الذات، والأخذ بالزمن كناقة تسير في مراعيه الصحراوية من أجل أن تدر له حليب الخلود والبقاء الأبدي، فلا يمكن ألا نتخيل الإنسان يعيش من دون إرهاصات وترتيب حلقات الخدعة من أجل التواصل الدائم مع الحياة، وكتابة روايته شبه البوليسية بصيغ مختلفة، لكنها كلها تؤدي إلى الطريق نفسه وهو التحايل، ولكن على من؟ لا أحد يدري، المهم في الأمر أنه يظل يكذب ويكذب حتى يصدق الكذبة، وأصبح يفكر في غزو عوالم أخرى جديدة، ويكتسب خبرة واسعة في الاكتشافات والاختراعات، حتى إن عقله أدى به إلى الانحراف كثيراً في الطموحات، مما أدى به إلى اختراع ما يؤذي جنسه، ويبيد نوعه البشري، مثل أسلحة الدمار الشامل والمخدرات والألعاب الخطرة، كل ذلك من باب الهروب من ضغينة الضعف للوصول إلى مشارف القوة التي هي المبتغى والمعنى المقصود في تجاوز حاجز الزمن الموجود إلى زمن لا محدود إلى وجود يكسبه الخلود، وإلى حالة سرمدية يفيض فيها الزمن كما يفيض السائل من صفيحة محدودة الحجم، وهنا عندما يفرض الإنسان مناطق ثلاثاً يحدد فيها مسيرة الحياة وعمر الذاكرة، فإنه بذلك يصنع باقتين من ورد اصطناعي تحيط بثالثة طبيعية، الحاضر وحده الذي تنبت أزهاره بشكل لا يحتاج إلى تزيين أو تلوين، الحاضر هو اللحظة التي تصنع البهجة واللذة والسعادة، الحاضر ذلك الزمن الأبدي المعيش من دون الاتكاء على الذاكرة وما تتضمنه من خطورة التشويش والاختراق والتهويل والتزييف، الذاكرة إمبراطور فاشل يملك ولا يحكم، وكل ما يملكه هو الصيت ونياشين الحكم البائد واحتمالات ما بعد البقاء.
وفي هذه الصورة المركبة للذاكرة من قبل ومن بعد نجد الحيلة دائماً ما يصادفها الانكسار عندما يموت شخص عزيز علينا، في هذه المناسبة تكون اللحظة هي الحقيقة وما سبقها وما يليها أحلام كابوسية مرعبة، نحاول أن نتجنبها، نحاول أن نستعيد من خلالها الجوانب المضيئة في حياة الشخص المتوفى، نحاول إيقاظ العقل المتدهور تحت عجلات طيش، ولكن أيضاً هناك قوة دافعة وبشدة تدفعنا إلى الخلف، وأحياناً إلى الأمام، فعندما يبدأ أقرباء المتوفى سرد أحداث ماضوية مرتبطة بالشخص الميت، أو تمنيات له لمستقبل لم تكتمل حلقاته، هذه هي محاولة أيضاً للكذب، أو بالأحرى للعودة إلى صناعة زمن جديد، حاولت لحظة الفقدان التخلص منه، لكن الرغبة الملحة في تكديس مثل هذه الكذبات هي رغبة العقل الجدية في طمس هوية الأنا، والإبقاء عليها مجرد عربة محطمة خلف حصان هائج، والعقل، وهو دائم البحث عن التفاصيل في الأحداث، الباحث عن الفراغ في تربة الزمن الزائل، وكأنه يريد أن يقلب مقولة الحكيم الروحاني البوذي أوشو الذي أوجد فكرة أن العذوبة تنبع من خلال الفراغ، فالتراب الميت عندما يتم حفره وصناعة الفراغ ينتج عنه انبثاق الماء العذب الذي يروي ظمأ العطش، ولكن هذا العقل لم يحالفه الحظ؛ لأن فراغه الذي يغوص فيه ما هو إلا فراغ أحلام اليقظة واستفزازاتها ومداهماتها الدائمة للأنا، لتصبح هذه الأنا دائماً تحت خط الفقر المعنوي، وتصير باستمرار ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة التي تنتظر العون من آخر، ولكن هذا الآخر السادي المتلذذ من اضطهاد الأنا وتعذيبها وتسريب كل ما هو سام وقاتل من أحداث مأساوية لإبقائها على حال التشظي واللظى.
يقول فريدريك داودسون مؤلف «العوالم المتوازية للذات»: ترى النفس الأرضية الوقت كنهر يتدفق من الماضي إلى المستقبل، ونجلس في قارب صغير نسميه الحاضر، لا نرى الكثير مما هو أمامنا واثقين تماماً من أن ما وراءنا قد تم، لا يرى المنظور المتوافق مع النفس الأبدية الزمن نهراً بل هو بحيرة، وليس خطاً بل هو دائرة، والحاضر أشبه بصخرة ملقاة في وسط البحيرة، تتداخل الأمواج من كلا الاتجاهين في هذا المركز ممثلة الماضي والمستقبل، كل موجة منها حدث، وعند النظر إلى البحيرة من الأعلى ترى أن الوقت موجود في آن واحد، وأن كل مجموعة من الموجات الدائرية تمثل تيار زمن آخر في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن كل دائرة منها نتجت عن الحاضر، إذاً محور الدائرة الوجودية هو الحاضر، الحاضر هو الأزل وهو الأبد، هو النقطة الفاصلة بين نقطتين: إحداهما زائلة «الماضي»، والأخرى غير مرئية «المستقبل»، لكن العقل لا يعترف إلا بوجوده لكونه الحافظة الأبدية لبخار الماء «الماضي» الذاهب إلى فراغه الأبدي، وفيضان النهر المتسرب في ملوحة المحيطات «المستقبل»، ووظيفة العقل هي البحث في هذا الوهم، هو مثل الساحرة التي تستقطب الجهلة والسذج، وتملأ جعبهم بحزمة من التأويلات حتى ينتفخوا ويتورموا ويصدقوا أن من تجلس أمامهم علامة الغيوب، تستطيع أن تجلب الشمس إلى كفوفهم، وأن تسقط النجوم عند شفاههم، وأن تحول البحار المالحة إلى أنهار عذبة وتخرج من الحديد الصدئ عقيقاً وزمرداً.
_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *