الضحك والإرهاب في الرسوم القاتلة



*أم الزين بنشيخة المسكيني‎


تقديم:
في الفقرة 294 من كتاب ما وراء الخير والشرّ يكتب نيتشه ما يلي: “إنّي أميل إلى ترتيب الفلاسفة، انطلاقا من كيف يضحكون بأن أنزّل في أعلى السلّم أولئك القادرين على ضحكة من ذهب، وإنّي لا أشكّ أبدا أنّ الآلهة أنفسهم يتقنون الضحك على نحو ما فوق إنساني.. إنّ الآلهة متهكّمون”.
هنا ينبغي الإشارة إلى أنّ نيتشه يتكلّم طبعاً، عن آلهة الأولمب في بعض إلياذة ضاحكة. لكن ربّما لم يبق لنا من جبل الأولمب غير جبال لإيواء القتلة.
هل مازال بوسعنا أن نضحك في أوطان صارت ركحا لمذابح بشرية مرعبة؟ أم علينا بالنواح؟
بين ضحكة ديمقريطس وبكاء هيرقليطس وضحكات زرادشت العاصفة، نتأرجح كما فوق حبل السيرك لمهرّجين متعبين.. سبينوزا ينصحنا – لو قدّر له أن يفكّر بدلا عنّا – كما يلي: “لا ينبغي لا أن نضحك ولا أن نبكي: بل علينا أن نفهم”. إنّ السؤال الذي يشغلنا في هذا البحث هو التالي: كيف نفهم، رغم كل ما وقع فهمه قبل فهمنا، ما حدث في واقعة شارلي إيبدو يوم 7 يناير (كانون الثاني) 2015؟ كيف السبيل إلى تأويل تلك الواقعة من وجهة نظر العلاقة بين الفنّ والسياسة؟
عن هذا السؤال ثمّة الكثير من الإجابات الجاهزة، وثمّة الكثير من الحجب التي تراكمت بعدُ، كي تعطّل إمكانية أن نفكّر في مثل هذه المسائل بمعزل عن ضجيج الأحكام الهوويّة حول أنفسنا وعن لغط الأيديولوجيات والأجندات.
لقد قضّى سقراط حياة كاملة، وهو يعلّم شباب أثينا ضرورة التمييز بين الضجيج والكلام؛ أي بين ضجيج الغوغاء ولوغوس الحكماء، لكنّ ضجيج الكهّان والساسة انتهى بأن انتصر على حكمته فأجهز عليه. وقُتل بتهمة التجديف على الآلهة. هل استعادت جماعة شارلي إيبدو المصير نفسه؟ هل نقول إنّ التاريخ هنا يعيد نفسه في شكل مقتلة، هل قتلتهم حريّتهم المفرطة في السخرية من المقدّس؟
ثمّة إذن، صدام عنيف بين الضحك والإرهاب: لأنّ الإرهاب لا يضحك، ولأنّ من لا يضحك لا يعرف غير إقامة الجدران وغلق الأفق جيّدا. لكنّ الفنّ لا جدران له غير الأفق. لقد كتب بودلير (1855) ما يلي: “إنّ الكتب المقدّسة لا تضحك أبداً”[1]، لكن هل يجوز لها عندئذ أن تقتل الضاحكين، لأنّه – كما جاء في حديث نبوي – “إنّ الضحك يميت القلب”؟
يكتب جان بودريارد في كتاب عنف العالم على نحو مثير ما يلي: “قيل إنّ الله نفسه لا يستطيع أن يعلن الحرب على نفسه، إنّما بلى.! حسنا، لو أنّ الغرب في موقع الله.. لأصبح انتحاريا وأعلن الحرب على نفسه”. [2]
وعلّق بعض الفرنسيين على إثر حادثة شارلي إيبدو قائلا: “يمكننا أن نضحك من كلّ شيء ومن أيّ شيء لكن لا ينبغي أن نضحك مع أيّ كان”. لكن من هو “الأيّ كان” المقصود ههنا من طرف الفرنسيين؟ أليس المقصود هنا هو الآخر الساكن في أحواز الفقر وجيوبه ومدنه القصديرية، ذاك الذي يلبس عمامة المسلم ويحمل اسمه، والذي رسمه رسّامو شارلي إبيدو من خلال رسم شخصية النبي (عليه السلام) بعمامة وقنبلة حاضرة للتفجير. هكذا تضعنا رسومات شارلي إيبدو في وضعية تأويلية غير مريحة بالمرّة: نحن بالأحرى أمام دائرة مربّعة أو لولب عنيف ومشحون بالأحكام الهووية والسياسية واللاهوتية. إنّ فنّ الكاريكاتور ههنا مورّط بعلاقة غامضة بين الفنّي والسياسي.. والأمني والإمبريالية العالمية.
ما هو فنّ الكاريكاتور؟ وأيّ نمط من الضحك تقترحه علينا رسوم شارلي إيبدو؟ ما الذي يجعل من رسومات فنّية هشّة، ومن مجرّد كائنات من ورق خطرا على ثقافة ما إلى حدّ القتل؟
1) معاني الكاريكاتور في رسومات شارلي إيبدو:
الكاريكاتور فنّ عريق يعود إلى الشعوب القديمة في مصر وفي أثينا وفي روما. ويُعد بوزون Pauson الرسّام اليوناني أقدم رسّام كاريكاتوري، غير أنّ مفهوم الكاريكاتور بالمعنى الدقيق، بما هو فنّ، لم يظهر إلاّ في القرن السادس عشر تحت قلم مؤرّخ الفنّ الإيطالي المعروف Giorgio Vasari. (في كتابه حول فنّ الرسم 1550). والكاريكاتور هو فنّ من فنون البورتريه، حيث يقع تشويه الوجوه بخاصّة وشحنها بملامح غريبة ومبتذلة ومضحكة. ويمكن اعتبار بودلير أوّل من كتب في العصور الحديثة نصّا حول الكاريكاتور بتاريخ 1857، وهو أيضا صاحب أوّل نصّ يحمل عنوان “في ماهية الضحك” 1855. ويُعد برجسون ثاني من كتب حول الهزل والكاريكاتور في كتابه الذي حمّله عنوان “الضحك” الذي صدر في شكل مقالات 1900 ثمّ في شكل كتاب بتاريخ 1924. أمّا عند العرب، فيُعد الرسّام الفلسطيني ناجي العلي أشهر رسّام كاريكاتوري اشتهر بأيقونته “حنظلة” التي ترمز إلى شخصية الفلسطيني بعذاباته وأشكال صموده معا. وقد انتهى كما يعلم الجميع، نهاية فظيعة: إذ قتل في لندن من طرف مجهول في 29 أغسطس (آب) 1987.
ونشير هنا، في ما يخصّ مجلة شارلي إيبدو الفرنسية، أنّها تستأنف تاريخا فرنسيا لفن الكاريكاتور الذي ازدهر بخاصة في القرن التاسع عشر. ومن أشهر رسّامي الكاريكاتور الذين كتب عنهم بودلير وأثاروا إعجابه، نذكر بخاصّة Honoré Daumier الذي قال عن رسوماته ما يلي: “تصفّحوا أعماله وسترون أمام أعينكم كيف يقع استعراض كل ما تحمله مدينة كبرى من الفظاعات الحيّة.. كل الحماقات وكل أشكال الحماسة والغرور..”[3]
خلاصة القول، إنّ فنّ الكاريكاتور إنما يشتغل على الوجوه، فيشوّهها ويشحنها بمزاج غريب وتافه أحيانا، ومثير للاشمئزاز أحيانا أخرى. إنّه فنّ صادم ومستفزّ يقوم على المبالغة من أجل إظهار ما تخفيه الوجوه تحت قناع الوجه المنظّم. فالكاريكاتور بهذا المعنى، هو فنّ إظهار القبح وراء ادّعاء الجمال، وهو فنّ بعثرة الأنظمة المستقرّة. إنّه في جوهره فنّ هجائي. لدى رسّام الكاريكاتور ثمّة دوما في كل وجه، تكشيرة أو إيماءة غريبة خفيّة يلتقطها فيكبّرها وينقلها إلى حيّز المرئي. إنّه يكشف عن المعاني المحجوبة ويهتك المستور. هكذا عرّفه برجسون قائلا: “إنّ فنّ الكاريكاتور يقوم على التقاط هذه الحركة غير المرئية وجعلها مرئيّة أمام كلّ الأعين وذلك بتكبيرها. إنّه يجعل نماذجه تكشّر كما تكشّر بذاتها إن هي سارت في تكشيرها إلى نهايته، وهو يكشف، تحت الانسجامات السطحية في الشكل، حالات العصيان العميق في المادّة، وهو يبرز التنافرات والتشويهات.. إنّ فنّ الكاريكاتور المتّسم بنوع من الشيطنة، يكشف عن الشيطان الذي دفنه الملاك..”[4].
وعن السؤال كيف يشتغل فنّ الكاريكاتور؟ يجيب برجسون، إنّ هذا الفنّ إنّما يتّخذ من البشاعة والقبح شعاراً له، إنّه يجعل من شعاره: “فلنجعل من البشاعة خطيرة ولندفع بها إلى التشويه، ولننظر كيف ننتقل من التشويه إلى المضحك المثير للسخرية”.[5]
في إطار هذا الحقل الخاص بجماليات القبيح، اشتغلت جماعة شارلي إيبدو على رسم المقدّس الإسلامي وتحويله إلى مقدّس مثير للسخرية. إنّ فنّ الكاريكاتور ههنا قد غيّر من موضوعه، وإن حافظ على وسائله. فلم نعد إزاء رسّام المدينة وما يقع فيها من حماقات أو تعاسات كما رسّامو بودلير، ولسنا أمام الهزليين الذين يقلّدون أشخاصاً أو وضعيّات حياتيّة، أو إيماءات أو حركات إنسانية عبر المبالغة والتشويه من أجل الإضحاك أو من أجل الحياة المشتركة التي يلعب فيها الضحك دوراً أساسيّا وحيويا كما لدى برجسون. نحن هنا إزاء موقع أكثر خطورة وأكثر لبسا: إنّ كاريكاتور شارلي إيبدو يتّخذ من المقدّس موضوع إضحاك وموضوع سخرية. والسؤال المحرج للفيلسوف حينئذ هو التالي سؤال مزدوج: كيف تصير مقدسات شعب ما موضع سخرية؟ وهل أنّ حرية الإبداع والتعبير حجّة كافية على السخرية من نبي ثقافة ما؟ ودون السقوط في انفعالات هوويّة علينا أن نشير إلى أنّ ما قامت به رسومات شارلي إيبدو ليس من باب الإبداع الطريف لموضوعة جديدة، إنّما ينتمي إلى واقعة تاريخية قديمة اسمها واقعة “التجديف على الآلهة” لدى اليونان أو المسّ بالمقدّسات لدى التوحيديين بعامّة. وحينما تجعل جماعة ما تحتمي بحصن الفنّ والحريّة من شخصيّة مقدّسة لثقافة ما هدفا لفنّ السخرية لديها؛ فهذا يصير مثيراً للسياسة أكثر من أن يكون ميدانا للفنّ، حتى وإن اتّخذ من الضحك؛ أي من إسعاد الناس هدفا له. ههنا، تبدو الحريّة فعلا نابعة من قدرة البشر على الشرّ الجذري، كما حدّد ذلك كانط في نصّه الكبير حول الدين في حدود مجرّد العقل (1793).[6] إنّ ما يجعلنا أحراراً هو تحديدا، أنّنا أشرار بشكل جذري، لكنّ حريّتنا الجذرية هي الوصيّ الوحيد على قدرتنا على اختيار إتيان الخير الأصلي فينا ضدّ الشرّ الجذري فينا أيضا. لا حدود لحريّتنا لكن حريّتنا هي التي تحدّ من قدرتنا على الشرّ. إنّ الضحك بهذا المعنى، إنّما هو باحة من الحرية الجذرية. فهل نبذّرها في فلاحة العدم؟ لأنّ السخرية من كل ما يثير الخراب هو فلاحة العدم بعينه. لذلك كانت ضحكاتهم في رسوماتهم قاتلة.
2) من الضحك ما قتل:
إنّ الإنسانية لا تضحك دوما بنفس الطريقة. ولو أحصينا ضحكاتها لعثرنا على عدة ضحكات نموذجية: ضحكة آلهة هوميروس من عرج إله النار هيفستوس، وضحكة ديمقريطس من حماقات البشر وعذاباتهم المتشابهة، ضحكة ديوجان الكلبي الذي فضّل سكنى البرميل على قصور الإسكندر، مكتفيا بشعاع الشمس، وسخرية سقراط من آلهة المدينة، ضحكات بودلير الشيطانية وضحكات زرادشت العاصفة، وضحك برجسون الاجتماعي الذي يحتاج إلى الصدى، وأخيرا ضحكة فوكو الصامتة التي يزعزع بها كل عادات الغرب في علاقته بالآخر..
تحت أيّ نمط من الضحك، يمكننا إدراج ضحكة رسومات إيبدو القاتلة؟
إنّ هوميروس الذي – وفق عبارة للونجان – “قد خلّد تعاسة الآلهة”[7] يحلو له أن يرسم آلهة اليونان في مظهر آلهة تعاني من إساءة البشر، حيث نقرأ في النشيد الخامس من الإلياذة على لسان ديوني ما يلي: “إنّنا نحن سكّان الأولمب نعاني الكثير على أيدي البشر”[8]. وفي النشيد الثامن عشر، نقرأ على لسان أخيل: “آه كم أتمنى لو ينتهي الصراع بين الآلهة والبشر ومعه الغضب”[9]؛ فهل صارت الآلهة من خلال رسومات شارلي إيبدو الساخرة تعاني من جديد على أيدي البشر؟ وربّما صرنا مرة أخرى، إزاء هوميروس الذي يستعيد ضحكاته من أجل إلياذة أخرى وحرب جديدة قد تنتهي بموت هيكتور آخر، ولكن قد يكون هكتور هذه المرّة اسما لشعب برمّته.
نقرأ تحت قلم بودلير في نصّه تحت عنوان ماهية الضحك: “إنّ الضحك شيطاني، إنّه إنساني إذن على نحو عميق. إنّه في الإنسان نتيجة تفوّقه الخاصّ”[10]. يرى بودلير إذن، أنّ الضحك هو علامة على التفوق والانتصار. إنّ أمّة مهزومة لا تستطيع الضحك، وحدها أمّة منتصرة تملك القدرة على الضحك. كلّما أحسّت أمّة ما بالتفوق إلاّ وكانت قدرتها على الضحك أكثر. وكلّما انتصر شعب ما كلّما ازدهر فيه الطابع الشيطاني. ولعلّ ما يجري اليوم من ترويج لصورة سيئة ومضحكة للمسلم، إنّما يأتي من إحساس الغرب بالتفوّق علينا. نحن ثقافة لا تستطيع الضحك، لأنّها ليست ثقافة متفوّقة، بل مهزوزة في عمقها. إنّ الضحك شيطاني، لذلك فإنّ المقدّس لا يضحك. هكذا بوسعنا أن نفهم سرّ الصدام العنيف بين فنّ الكاريكاتور الذي يستمدّ جوهره من الإضحاك والمقدّس الذي لا يضحك أبدا.
في ديباجة زرادشت نعثر على نوع من كوميديا المهرّج والجثّة: ونقصد بذلك ما يلي: إنّ كل من يأتي إلى الناس، كي يحدثهم عمّ يوجد فوق عقولهم أو فوق مشاعرهم، إنّما يتحوّل إلى مهرّج، وأنّ كل مهرّج إنما مصيره السقوط؛ أي التحوّل إلى جثّة، وذاك أمر تابع للعبة التهريج نفسها. ويمكن أن نشير هنا، أنّ ثمّة نوعين من الضحك لدى نيتشه: ضحك الإنسان الأخير من زرادشت الذي جاء يعلّمه كيف يكون إنسانا أسمى، وضحك زرادشت المقدّس. لقد جاء زرادشت يعلّمهم كيف يُتجاوز الإنسان، فلم يفهموا شيئاً من خطابه، لأنّه كان يخاطبهم بما لا يسمعون. يقول نيتشه في الاستهلال المشهور: “ها هم يضحكون: إنّهم لا يفهمونني. لست بالفم الذي يصلح لهذه الآذان. أينبغي أن تُقطع آذانهم أوّلا كي يتعلّموا السماع بأعينهم؟ أينبغي أن يقرقع المرء بمثل دويّ الطبول وخطب وعّاظ الكفّارات؟ أم تراهم لا يصدّقون سوى لجلجة المتلعثمين؟”[11]. ههنا ينجز نيتشه خلطا مقصودا مابين زرادشت النبي الذي عاد فيلسوفا من عمق الشرق، كي يحررهم من قيود كان قد صنعها لهم بنفسه، وبين البهلواني الذي يرقص على حبل مشاعرهم الهشّة وفوق عقولهم المثقلة بوعود وأوهام كاذبة. لكن شعب الإنسان الأخير يفضّل البهلواني على الحكيم. ورغم ذلك، فحتى المهرّج لن يحرّرهم من أثقالهم، حيث سينتهي النهار الميتافيزيقي العميق لشعب الإنسان الأخير دوما بكارثة: هي سقوط المهرّج أرضا قبل أن يهرّج بما يكفي، وسينفضّ الناس من حوله ولن يبقى غير زرادشت من أجل دفنه. هكذا أيضا، انتهى النهار المابعد ميتافيزيقي الطويل لرسّامي شارلي إيبدو: ككلّ مهرّج فإنّ سقوطه قتيلا في آخر النهار هو جزء من ركح التهريج نفسه.هكذا يسجّل نيتشه تحوّل البهلواني إلى جثّة، وتحول زرادشت إلى مهرّج، يقول: “صيدا جميلا حقّا اصطاد زرادشت هذا اليوم: لم يصطد إنسانا بل جثّة.. ومن حسن حظّك – يضيف مخاطبا نفسه – إنّك جعلت الناس يضحكون عليك، وقد كنت بحق تتكلّم كمهرّج”.[12]
إنّ ما نحتاجه نحن الذين نتأرجح بين المهرّج والجثّة، ليس ضحك المهرّجين الذين سرعان ما ينقلب الركح تحت أياديهم إلى كارثة. ما نحتاجه هو ما يسمّيه نيتشه الضحك المقدّس. ما هو الضحك المقدّس؟ إنّه التحرر من ضحكات الإنسان الأخير الحاقدة التي تضحك عن وعي تعيس وعن ضغينة وعن حقد وعن مشاعر سالبة، كما يظهر من ضحكات شارلي إيبدو التي تسخر من وراء رسوماتها من ثقافة الآخر، وتبتذل رموزه وتتلاعب بمخياله العميق… نحتاج ربّما إلى نوع آخر من الضحك البهيج: “لكم ما تزال هناك من الأشياء الممكنة… فلتتعلّموا إذن أن تمضوا فوق أنفسكم ضاحكين ولا تنسوا أن تضحكوا ضحكا جيّدا أيضا.. لقد أعلنت الضحك مقدّسا؛ فلتتعلّموا أن تضحكوا”[13]. لكن هل أتقنت رسومات شارلي إيبدو بضحكها من المقدّس ما يسميه نيتشه “الضحك المقدّس”؟ ربّما يكون إتقان الضحك المقدّس أمراً لا يناسب العنف المعولم. وهنا نستحضر الضحكة المزعزعة التي افتتح بها فوكو كتاب الكلمات والأشياء كأخطر وثيقة على الإنسان الحديث، الذي تنبّأ فوكو بأنّه “سوف يندثر مثل وجه من الرمل على حدّ البحر”[14]. ربّ ضحكة تهزّ “كل عادات الفكر: الفكر الذي له عمرنا وجغرافيّتنا، مزعزعة كل السطوح المنظّمة.. وتجعل ممارستنا القديمة – للذات وللآخر – ترتعش وتقلق لمدّة طويلة”.[15]
3) لماذا الإرهاب؟
لقد ذهب دريدا إلى أنّ الإرهاب لا يأتي من الماضي، إنّما هو يأتي من المستقبل وبودريار، يقول: “نحن الذي أردناه وهم الذين فعلوه”. فهل في رسومات شارلي إيبدو إرادة للإرهاب وإغراء له بالحضور؟ ومن أيّ نوع من المستقبل يقبل علينا الإرهاب على نحو غير متوقّع؟
قد يصحّ القول، إن ما حدث لجماعة شارلي إيبدو ينتمي إلى تاريخ طويل من حرق الكتب والمكتبات وتدمير الآثار الفنية وتكفير المبدعين واغتيالهم ومنع الموسيقى وتحطيم المنحوتات والتماثيل التاريخية… وقد يصحّ القول أيضا، إن جماعة شارلي إيبدو الذين قُتلوا برسوماتهم، إنّما التحقوا بقائمة شهداء الفنّ الذين سُجنوا واضطهدوا وقُتلوا من أجل حرية الإبداع.. لكن يبدو أنّ تحوّلاً عميقاً في صلب المشهد السياسي، يجعلنا نغيّر من النظر إلى هذه المسألة من وجهة نظر هذا التنزيل التاريخي.
في عالم العولمة الرأسمالية ووحشية منطق الإمبراطورية و”عنف العالمي” (بودريار) والدولة المارقة (دريدا) واللولب الداعر (أغمبان)، لا أحد يملك مصيره وحده حتى لو تعلّق الأمر بشعوب برمّتها. إنّ واقعة شارلي إيبدو واقعة سياسية بامتياز؛ انّها مشهدية عالمية لرعب الإمبريالية وطابعها العدمي الفظيع. هذا هو التشخيص الفلسفي الذي اتفق عليه كبار المفكّرين الذين يشهدون على هذا المشهد ويقاومونه بعقولهم وأقلامهم. فهذا نيغري المفكّر الإيطالي يكتب عن هذه الواقعة: أنّ النتائج هي هي دوماً، دعم البوليس وتدعيم مشاعر الكراهية ضدّ العدوّ، نشر الرعب بين الناس وشيطنة الإسلاميين. إنّها بروبغندا الميز العنصري خدمة للإمبريالية العالمية. وهذا أغمبان المفكر الإيطالي، يرى أنّ ما حدث ليس سوى خدمة للسياسات الأمنية المشطّة التي تجعل من الحياة السياسية أمرا مستحيلا، والتي تحوّل الشعوب إلى رهائن تحت رحمة البوليس. وفي هذا السياق، يكتب معرّفا الإرهاب: “إنّ الإرهاب اليوم هو عنصر مستقرّ للسياسة الحكومية للدول، وهو عنصر لا يمكن الاستغناء عنه. وإنّه لا يمكننا تخيّل السياسة الأمريكية اليوم دون 11سبتمبر (أيلول)”. وعن رسومات شارلي إيبدو يكتب أغمبان مستاء: “إنّ تمثيل العربي بشكل كاريكاتوري كشخص فيزيائي قابل للتعرّف عليه يذكّرنا بما كان يفعله الإعلام المعادي للسامية في ظلّ النازية، حيث وقع اختراع نمط فيزيائي لليهودي في نفس المعنى بالضبط: لو طبّقنا هذا على اليهود اليوم، سيكون ثمّة فضيحة”. أمّا باديو الفيلسوف الفرنسي المشهور، فإنّه يعتبر أنّ الإرهاب فاشية جديدة لا علاقة لها بالإسلام، وأنّ شارلي إيبدو ليست سوى “ضرب من النباح المصاحب لهذه الأخلاق البوليسية”، وأنّ الحريّة التي دافع عنها عشّاق هذا النباح ليست في آخر المطاف سوى قناع لما يحدث داخل الهوية الغربية من هشاشة وفساد، وأنّ الهدف هو خلق التناقض بين المسلم المتعصّب والمواطن الفرنسي الخيّر والديمقراطي. في حين “أنّ الحريّة لا تكمن في أن يصير الأفراد تحت رحمة البوليس، بل في أن يناضل الجميع من أجل سياسة جديدة لا تستند إلى أيّة هويّة.. أليست الحرية هي الشكل المساواتي لإنسانية تملك مصيرها بأياديها؟”. خلاصة القول: إنّ رسومات شارلي إيبدو تشكو من ثلاثة أنواع من الانفعالات الارتكاسية:
– فهي رسومات، من حيث موضوعها الفنّي، لاتزال تواصل براديغماً لاهوتياً بانشغالها الدائم بتشويه المقدّس والسخرية منه. في حين بإمكانها إبداع مواضيعها الفنّية على نحو دائم. ثمّة الكثير من السياسات الفاسدة: سياسات التهميش والتجويع والتحكّم بأجساد البشر، والتي يمكن أن تكون موضوعاً كاريكاتورياً بامتياز.
– وهي من حيث مقاصدها البعيدة، رسومات هوويّة، لا تزال تشتغل على فلاحة الجذور، باستفزاز النعرات الدينية والقومية ومواصلة الصدام العنيف بين الثقافات.
– وهي من حيث نتائجها رسومات تحوّل الفنّ إلى جهاز لتنشيط صناعة الإرهاب التي صارت إلى صناعة عالمية لا علاقة لها بأيّ جنس ولا بأيّ عرق أو هويّة.
خاتمة:
قال دريدا ذات مرة، إنّ الفلسفة لا تصلح إلاّ لطمأنة الأطفال. وكتب فوكو: “على أنّ اليوطوبيات تعزّينا: ذلك أنها إذا كانت لا تملك مكانا حقيقيا، فإنّها تزدهر مع ذلك في مكان خارق وصقيل، وتفتح مدنا ذات جادّات فسيحة وحدائق حافلة بالزرع وبلدانا سهلة حتى لو كان دخولها وهميّا”[16]. لكن في عصر يُباع فيه الأطفال ويُحرقون لا شيء يعزّينا حتى اليوطوبيات. ورغم ذلك، تدفعنا الحياة إلى زرع الأمل على أعتاب الكارثة. يقول نيتشه: إنّ ثمّة عوداً أبدياً وصيرورة خالدة. ونحن سنظلّ ههنا متمسّكين بالصيرورة وبالتماس الدفء حذو هيرقليطس، الذي على حدّ عبارات جميلة لنيتشه “لن تصيبه الشيخوخة أبدا”.. والطريف في كل هذا هو أن لا شيء يعود في هذه الصيرورة التي نتمسّك بها كي لا نسقط في العدم، غير أكثر لحظات الحياة بهجة واقتدارا. قد لا يعدو إذن، ما يحصل لنا من مذابح وفظاعات غير سحابة عابرة في عمر سكّان كوكب آخر، وهي سحابة كئيبة ستنقشع، لأنّها لا تحمل غير أوهن انفعالات هذا العصر. أمّا البهجة والاقتدار، فعائدة دوما في موجة قادمة بمقدار قدرتنا على إبداع أشكال أخرى من الحياة.
* نشرت هذه المقالة في مجلة “ذوات”، 2015، العدد 8
[1] Baudelaire, Ecrits sur l’art, Paris, Les Classiques de Poche, 1992, p. 290

[2] جان بودريارد، إدغار موران، عنف العالم، ترجمة عزيز توما، اللاذقية، دار الحوار، 2005، ص 50

[3] Baudelaire, op.cit, pp. 319-320

[4] برجسون، الضحك، ترجمة د. علي مقلّد، بيروت، مجد، المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر، 2007، ص ص 23- 24

[5] المصدر نفسه.

[6] انظر: كانط، الدين في حدود مجرّد العقل، ترجمة د. فتحي المسكيني، بيروت دار جداول، 2012، القطعة الأولى من الكتاب.

[7] انظر كتابنا: الفنّ يخرج عن طوره، بيروت، جداول، 2012، المقدّمة.

[8] هوميروس، الإلياذة، ترجمة حنّا عبّود، سورية، 2007، ص 101

[9] المصدر نفسه، ص 331

[10] Baudelaire, op.cit, p. 290

[11] فريدريش نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، كتاب للجميع ولغير أحد، ترجمة علي مصباح، كولونيا، منشورات دار الجمل، ص 48

[12] نيتشه، المصدر نفسه، ص 53

[13] المصدر نفسه، ص 546

[14] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، بيروت، مركز الانماء القومي، ص 313

[15]المصدر نفسه، ص 20

[16] ميشيل فوكو، الكلمات والاشياء، نفسه، ص 22
_________
*المصدر: مؤمنون بلا حدود 

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *