*حفيظـة قاره بيبـان
خاص ( ثقافات )
الساعــة الثامنــة:
تسلل نسيم صبح من بين أضلاع النافذة. اقترب قبس لامس جبين الفتى. عانق خصلات الشعر الأسود الناعم المسترسل على جانب من الجبين الوضّاء. ولكن يوسف كان يغرق في نوم عميق، عاريا إلا من الدجينز الضيق القصير، موليا الظهر للصبح القادم، فاتحا الذراعين على عرض السرير. أعقاب سجائر مسحوقة تتكدس في المنفضة وبقايا احتراق السجائر متناثر حول السرير. شاشة الحاسوب المواجه للفراش ما زالت مضاءة، تشي بليلة بيضاء في عالم الافتراض، مع حاسوب أنهكه الإدمان.
زقزقت طيور على حافة النافذة. أطلّ طائر على شكل نجمة. نادى يوسف ثم طار.
بدأت كائنات الطبيعة ترقص في الألق الصباحي. تعالت حركة الدنيا الناهضة رويدا، رويدا، تغرق هدوء الصباح… السيارات الهادرة… المحركات البعيدة. دراجة ناريّة مارقة… أبواب محلات ترفع لرزق جديد…
لم تنتظر الأمّ أكثر. اقتربت تطرق باب غرفته طرقات خفيفة متوالية. أمسكت مقبض الباب. أدارته بهدوء. أطلّت من الباب الموارب. واجهتها الغرفة الغارقة في ضباب الدخان الخانق، تنشر الأوراق والثياب المبعثرة على السرير وعلى جليز الأرضية.
شاهدت فتاها الجميل يرقد بجسده الفارع عاريا إلا من الجينز الضيّق القصير. الوسادة على الأرض واللحاف ساقط والحشية نصف عارية، والمروحة على المكتب تدور.
ربّتت بلطف على الذراع العارية. بدا غارقا في السبات وكأنه ظلّ دهرا صاحيا، والوجه الوسيم الفاتن كل الصبايا حواليه يسربله البياض وبعض شحوب.
– يوسف!… يوسف!
أعادت النداء بصوت أعلى قليلا. لمست الذراع. حرّكتها برفق. تململ جسد الفتى النائم. زوى بين حاجبيه. ارتعش جفناه المنسدلان، يرعيان حلما يتوتر، قبل أن يعود مستسلما لأحلامه السريّة الغامضة. لم تُجْدِ محاولات دعوته للنهار الطالع. عادت أدراجها تغلق عليه الباب.
الساعــة الواحــدة:
تحرك الجوّال فجأة على الفراش. تلوّى وارتفع الرنين. عادت مسرعة تطرق الباب. تفتحه وتدعوه لنداء هاتفه. استدار مع توالي الرنين ناترا، يواجهها صدره العريض، يده تقبض على الجوال، تسكته، دون أن يفتح عينيه. أمام عودة الرنين الملحّ، دمدم دافعا بقدميه في الحشيّة التي تعرّت تماما، ملقيا الجوّال بعيدا.
انتفض أخيرا ثائرا.
– اتركيني وشأني! لن أقوم!… لن أقوم الآن!
عاد يرتمي على الحشية العارية. وجهه يغرق فيها وظهره العاري يواجه نداءات الجوّال الضائعة، والمروحة تدور دوما تنشر الغبار والدخان.
اكتسح الانقباض قلب الأم الوحيدة. ما عادت محاولاتها تجدي نفعا لإيقاظ يوسف ودعوته لكسر أخطبوط البطالة والخذلان. ما عادت أسئلتها الضاجة بالمخاوف تهتدي إلى جواب ومعرفة ما الذي يخفيه هذا الانطواء والغياب كامل النهار، وهذا الدخان الغامر المريب؟!
العينان المتوقدتان انطفأ فيهما الألق. والصوت الحيوي الهاوي الجدل، ابتلعه الصمت، والبيت أصبح مجرّد محطّـة للغياب والانعزال.
تطاردها الشكوك. تحاصره بها. تراقبه تستعطفه. تترجاه. تقبّله وعيناها تتلامعان بالدمع، تكاد تجهش بالبكاء.
– لا تخافي! … أنا بخير!… بخير!
– إذن، اِنهض!… اُخرج!.. اُترك السرير!… عد إلى الدراسة التي تركت! أو اِبحث عن شغل! أي شغل!
تجيبها نظرة عميقة قاسية من عينيه الواسعتين، تذكرها بحال البلاد المنهار وبتلك الحادثة الفاجعة التي يحاولان نسيانها معا. يولي الظهر. يتحصّن بالسرير ويغيب في كهف السبات قبل أن يفرّ إلى ليل المدينة.
لجأت أخيرا إلى مقعدها المعتاد. تلهت في انتظاره بألبوم الصور.
ها هو، بمحفظة اليوم الأول في المدرسة وبالميدعة السماوية الجديدة يبتسم للكاميرا، بوجنتيه المكتنزتين الموردتين، ووجهه الصبوح المستنير. عيناه المدوّرتان الزيتونتان تأتلقان ببراءة طفولة هانئة.
يمسك في صورة أخرى، الكرة الملونة الجديدة، يوم عيد. البدلة الأنيقة والسترة الخضراء تزيد نصاعة بياض القميص وربطة العنق الفراشة تزين الياقة الثلجية. ابن السبع، يوم عيد… يركض خلف الكرة. يقذفها عاليا. يدور بها وبهجة الصبا تركض معه.
تتوالى الصور والأيام… ها هو يتلقّى جائزة آخر السنة الدراسية بالمعهد، مع تهاني أساتذته المشجعين.
“يكبّر سعدك!” تدعو له جدّته، فرحة بحفيدها الذي امتد عوده، وبدأ الشباب النضر يشرق على محياه.
اغتم قلب الأمّ، وهي تذكر القابع في ظلمة الحجرة، غارقا في غيابه، كحاله كلّ هذه الأيام، وقد بدأت الشمس تميل عن قبّة السماء، تذكّرها المثل الشائع، يخاطب قائله الساخر السعد: “اخدم يا تاعس على الراقد الناعس!”
يأتي السعد، يمرّ كل يوم من هنا!
وتشير الجدّة إلى السماء قبل الشروع في قصّ الحكاية.
– ما السعد يا جدتي؟
– السعد يسكن في السماء. طائر نوراني على شكل نجمة، يظلّ يعمل ويكدح كامل النهار، يبارك عمل صاحبه على الأرض. وعند الغروب، في طريقه إلى الاستراحة في مدار السعود، يُلقي نظرة على الأرض ليتفقّـد صاحبه، فإن وجده يأخذ قسطه من الراحة بعد عمل يومه، تركه راضيا ليعود في الغد يعمل بجدّ وتفان في السماء، يبارك عمل صاحبه على الأرض. وهكذا يبارك المرء حظّه. وإن وجده قد ترك عمل النهار ونهض بعد إياب كائنات الطبيعة إلى أوكارها، أو اشتغل وقت عودة السعود إلى مدارها، يستاء ويغضب ويقاطع صاحبه، ويبقى الإنسان الذي خالف قوانين الطبيعة بلا حظّ ولا سعد. السعد يا أبنائي لا يحبّ الكسالى والنوّم والعاطلين والمشاغبين.
ينظر الأطفال مندهشين إلى وجه الجدّة الطيّب المنير. ترتفع أنظارهم الثاقبة تفتّـش في السماء عن طائر السعد. تنساب كلمات الجدّة عميقا في القلوب الخضراء. يتوقّـفون عمّا كانوا فيه، فالغروب قد حلّ. يهدؤون. يتركون السعود تمرّ في سلام إلى مدار السعود السبع، راضية، لتطلع في الصباح الموالي ترسل نورها المعطّر بالرضا، تبارك أعمالهم وتكلّلها بالنجاح.
“يكبّر سعدك!” يصدح صدى صوتها الناضح محبة، للطفل الرافع شهادة الشكر المدرسيّة بيديه الاثنتين، إلى وجهها المشرق بالاعتزاز والفرح.
الساعة السادسة:
قريبا يحلّ الغروب وتعود السعود إلى مدارها. ما زال يوسف غارقا في الفراش. الحكاية التي أحبّ صغيرا ضاعت في جبّ النسيان، والباب أُغلق بالمفتاح من الداخل، أمام النداءات المتكرّرة الداعية للنهوض.
بدا لها يوسف يغوص في ظلمة البئر وصدره -كما حدث عديد المرّات يعلو ويهبط ويئـز مختنقا بالدخان الذي أدمن منذ ذاك اليوم الرهيب، يوم تضرّج قميصه بدم رفيقه أمجد. أمام دهشته سقط بين يديه برصاصة اخترقت العنق في المظاهرة التي كانا يناديان فيها بالشغل للعاطلين.. والجائعين. ورغم مرور السنين وسقوط النظام ظل يوسف يحتفظ بإصرار بدم صاحبه المهدور على قميصه! يخبّـئ خيبات الدم المهدور في غيوم الدخان.. وظلمة الهروب فلا جناة يعاقبون ولا شغل تزهر به الأحلام…
أخذ النهار بقايا ضوئه الشاحب من الغرفة. وتراجع عن وطن عاد شبابه الثائر إلى مقاهي الدخان وسراديب النسيان.
طائر السعد لامس جناحه النافذة. حوّم حول شجرة تحرس الشباك المغلق. نادى يوسف مشفقا منذرا، فما زال بعض ضوء في النهار.
لم يفتح يوسف النافذة. لم يسمع رفرفة الجناح ولا همس أقباس النهار الأخيرة. ظلّ عاريا على الفراش. الصدر مثقل بهباب الدخان، والشاشة المضاءة تتفرّج بحياد ظاهريّ ساخر، مرسلة من حين لآخر أحدث الإعلانات لعالم يقظ لا ينام.
خارج الغرفة الموصدة كانت الأمّ تعود إلى الصحف التي اشترت لأجله، تفتّـش عمّا تكون قد غفلت عنه من دعوات التشغيل، تنقذ زهر الشباب من حرائق الليل ومهاوي الفراغ في وطن أغرق حكامه شبابه في كل دروب النسيان المسموم والضياع، حتى ينشغلوا عنهم، قبل أن يفرّوا بعد الثورة من البلاد تاركين وراءهم الخراب.
“يكبّر سعدك!” يردّد صدى صوت الجدّة البعيد.
“يكبّر سعدك!” يهمس صوت الأمومة. يحاول طرد شفيف الحزن والمخاوف بدعوة أمل من الحبيبة الراحلة، وتنهيدة تطلع رغما عنها من الأعماق.
يباغتها، فجأة رنين جوّال يوسف يتلوّى قربها. أخذته من سقوطه على الأرض ذات دخول، قبل دورة المفتاح في الباب. انتبهت إلى إرسالية قصيرة تضيء شاشته. أسرعت بفتحها. “انتبه إنهم قادمون!”
رفرف طائر السعد مبتعدا عن الأرض. انقبض قلب الأمّ أمام الكلمات المحذّرة من صديق مجهول. سقطت الجريدة من يدها. أسرعت بالجوّال إلى الباب المغلق منادية:
– يوسف! افتح! أرجوك!
قبل أن ينفتح باب غرفته، كان باب الدار يُطرق طرقا عنيفا متواصلا وعيون صقرية تطلّ من فتحات السور، تحت سماء ثقيلة واطئة غاب عنها الشفق.
حين اقتحم رجال الشرطة البيت، طالبين يوسف، كان الغروب قد غمر الأرض وطائر السعد اختفى تماما وغاب في مدار السعود، تاركا الأرض شاخصة للفتى المدفوع لليل قادم.
_________
*أديبة تونسية.