رحيل فرنسوا داغونيه: النفايات كموضوع فلسفي


رلى راشد


كان فرنسوا_داغونيه الراحل للتو من سلالة الفلاسفة العلماء، من تلك المجموعة التي لم تجد في فصل الإختصاصات سوى هرطقة حديثة، ناهيك بأنه كان أحد مناصري المعرفة الحرّة المنعتقة من جلّ ما يحتمل أن يكبّلها.

إلتحق الفيلسوف الفرنسي فرنسوا داغونيه والطبيب أيضا بمدرسة التأمّل الخارجة على السائد والمبتعدة طوعا عن المقبول إجتماعيا ليُقدّم أفكارا حداثيّة في شأن الأخلاقيات والفن المعاصر الذي عدّ أحد العارفين الأساسيين به.

في الحادية والتسعين يغلق الفيلسوف المؤيد لمقاربة رؤوفة للمرض مجلّد حياته الفكريّة الذي يمكن تبويبه بـ “الإيجابية الإنسانوية”. والحال أنه رابض في اقتناعه بأن إصابة المرء بالمرض توازي الذهاب صوب قدره، ذلك أنه أمر يمكن تأجيله في حين لا يمكن تفاديه.

منح داغونيه عناية خاصة للأشياء، بدءا من تلك المصنّعة العادية ومرورا بالأعمال الفنية ووصولا إلى النفايات حتى. ذلك ان الأشياء في عرفه وحين تتعرّض للتلف أو الكسر أو التشويه تصير أكثر غنى وتغدو صلتها أوثق بتاريخنا كبشر. والحال أنه فَصّل أفكاره هذه في كتابه “عن الفضلات والنفايات وغير الصالح. فلسفة بيئية” حيث سعى لكي تسترجع الأشياء التالفة والتي نقاربها بإزدراء، القيمة التي فقدتها. أما ذريعته فحقيقة أن النفايات تأتي بحسنتين في الأقل، ذلك أنها من جهة أولى، مادة حقيقية وليست تقليدا للمادة كما هي أغراض الحياة اليومية المزيّنة والفاخرة والتي لم تمسّ بعد. في حين تمثّل من جهة ثانية، البعد الفردي، ذلك أن النفايات فريدة وتقدّم المثال المضاد على الأشياء الجديدة والمُصنّعة على نحو متسلسل.

أراد داغونيه للفلسفة أن تتقاطع مع الإجتماعي متخذا كمثال له الفلاسفة القدماء الذين لم يخشوا استلهام كل شيء وأي شيء، فنظروا مليّا في كل ما يحوطهم من دون استثناءات، على نسق ديكارت مثلا الذي اهتم بالفنون. وفق داغونيه لا يمكن شيئا في هذا العالم أن يحيد عن اهتمام الفيلسوف الحقيقي، وإلاّ بات إلتزام هذا المجال موضوع شك. وها إنه يكسر الحواجز القاموسيّة في “مئة كلمة من أجل الإنطلاق في الفلسفة” حيث اختار مئة كلمة على تنوّع لافت من شأنها أن تدفع بالجميع في أحضان الفلسفة. إستمهل مصطلحات مقترضة من الفلسفة التقليدية وأخرى من اللغة اليومية ومن مجالات أخرى من نسق “الموازنة” و”الهندسة الزراعية”. 

وكتب في هذا المؤلّف عن ماهية الفلسفة والمشتغلين فيها: “يتبدّى لنا أن من واجبات الفيلسوف الأولى معاينة الشرّ أو ما يعادله – الفوضى والظلم وما يتعذّر احتماله – وقبل أن نحارب “العدو” ومن أجل محاربته، ينبغي لنا أن نُسرع في معاينته وفي تحديد موقعه خصوصا”. ولا يلبث أن يسأل عما يسعنا الإعتماد عليه وما هي الأنظمة القادرة على منع العدائية وعلى تأسيس علاقات قائمة على المشاركة وعلى الأخوّة. يستفهم الفيلسوف عما يمكن فعله بغية مكافحة عنف فردي بات يلوّث الحياة الإجتماعية.

في أكثر من معنى، يريد داغونيه أن يؤسس لعالم حيث تتراجع الأعمال القتالية بين البشر. لم يترك داغونيه أي مجال بعيدا منه بدءا من زرع الأعضاء والإستنساخ والمال والتصميم وسواها وحين طُلب منه تبرير ذلك أجاب أنه يرى في جميع تلك الموضوعات جزءاً من كوكبة واحدة. وإذا كان الرجل من مُطلقي مفهوم “تأميم الأجساد” فمن أجل المحاججة بأن ما من شيء ينبغي له الوقوف عائقا بين واهب الأعضاء والمستفيد منها، وإن عنى ذلك تخطّي الموافقة المُسبقة الضرورية في عمليات الوهب.
ربما يمكن هذا النسق من المفاهيم المتجاوزة لزمنها أن تصطدم بالمقبول في مجال أخلاقيّات علم الحياة، غير ان داغونيه ارتاح في تشبّثه بها.
أراد أن يستقدم الكلمة الفلسفيّة إلى المجال الإجتماعي. أصرّ على الخروج عن طغيان القاعدة.
——-
النهار

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *