د. عبدالله بن أحمد الفَـيْفي
إن السؤال الذي يبدو أن المؤرِّخ د. كمال الصليبي لم يوجِّهه إلى نفسه، أو لعلَّه أصمّ عنه أذنيه، هو: إذ كان يزعم أن مملكة بني إسرائيل قامت في عسير بين أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد ومطلع القرن العاشر، فكيف تصوَّر أن تلك المملكة زالت، وبادت، وامَّحى ذِكرها نهائيًّا وأثرها، كما امَّحت مملكة مِصْر “بين أبها والخميس!”، وتبخَّر كلُّ ذلك التاريخ؟ كيف امَّحى ذلك من الذاكرة الأدبيَّة للعرب، وامَّحى من الذاكرة الأدبيَّة للعجم، ومن الذاكرة التاريخيَّة جمعاء؟ كيف لم يتناهَ إلى أبي التاريخ، المؤرِّخ الإغريقي الملقَّب بأبي التاريخ هيرودوت 425 ق. م، أيّ أثارةٍ من عِلْمٍ، أو بصيص خبرٍ، يشي بتلك الأحداث الجسام، والتحوّلات العظام، بما في ذلك قيام مملكتَي (داوود) و(سليمان) في عسير وانهيارهما؟!
عِلمًا بأن هيرودوت عاش غير بعيد زمنيًّا، بمقاييس العِلْم التاريخي، عن تلكما المملكتَين اللتين يشير إليهما الصليبي، فلا يفصله عنهما إلَّا نحو أربعة قرون. بل هو قريب جدًّا من تاريخ قضاء (بختنصّر) على مملكة (إسرائيل) “في عسير!”، 586 ق.م. فكيف لم يسمع بما افترضه الصليبي، ولم تَرِد منه حوله ولو إشارة من بعيد؟
وكيف استقام في ذهن الباحث أن هيرودوت – الذي جاب برحلاته أقطار منطقة (الشرق الأوسط)- ظلّ يحدِّثنا عن تاريخ مِصْر كما نعرف مِصْر، في مكانها المعروف في (وادي النِّيْل)، بأهراماتها وفراعنتها، دونما ذِكرٍ لمستعمراتٍ زعَمها هو في عسير، كادت تطغى بعظمتها على مِصْر الأصليَّة. بل هي بالفعل طاغية، لو صحَّت، على تاريخ مِصْر التوراتي كلّه، انبثقت فجأةً من قريتها المجهولة المغمورة، التي لا ذِكر لها في الأوّلين ولا في اللاحقين، إلَّا لدى الصليبي.
أجل، لقد ظل هيرودوت يُحدِّثنا عن منطقة الشرق الأوسط، بأماكنها وقاطنيها، وتوزيعها الجغرافي والسكاني المعهود. وظلّ يشير إلى (الفُرس)، وإلى (العرب)، كما نعرفهما، وبما يتماشى إجمالًا مع المعروف تاريخيًّا. لم يسمع قطّ شيئًا عن مملكة بني إسرائيل في جزيرة العرب على الإطلاق، ولم يعلم شيئًا عن تاريخٍ لهم كان هناك، ولم يمرّ به خبرٌ عن علاقة “استيطانيّة” في جزيرة العرب، لا لمِصْر ولا لغيرها، ولا عن غزوٍ آشوريٍّ لأقصى جنوب الجزيرة، حدثَ في عصر أبي هيرودوت، أو جدّ هيرودوت، إنْ لم يكن هو نفسه قد أدركَ بعض أطرافه. لئن كان هذا العمَى والصمَم والبكَم قد اعترى هيرودوت، فلا شأن له، إذن، بالتاريخ، ولا يصلح أبًا للتاريخ ولا ابنًا، ولا قيمة لتاريخه، وقد فاتته التفاتة، ولو عابرة، إلى ما كان يعتمل أمام أنفه التاريخي؛ وعلى مسافةٍ منه بالأمس القريب، ممَّا اكتشفه كمال الصليبي بعده بأكثر من ألفَي سنة وخمس مئة.
وأكثر من هذا، فقد حَدَثَ – معاصرًا لهيرودوت تقريبًا – في السنة 520 ق. م، وهي السنة الثانية من مُلك (داريوش) مَلك الفُرس، أن استأنف (زَرُبّابل) العملَ في إعادة هيكل (أورشليم)، (سِفر عزرا، 5: 1- 2)، بمساندة المَلك المذكور. فأين أُعيدَ بناؤه، يا تُرى؟
أفي (النماص)، حيث كانت (أورشليم)، بزعم الصليبي؟ ذلك أنه يزعم أنه قد دُمِّر الهيكل في النماص قبل ذلك بقرنٍ من السنين.
كلّا، بل أُعيدَ بناؤه في مكانٍ آخر، هو أورشليم المعروف في مدينة القُدس.
أَمَّحت ذاكرة القوم عن معرفة ديارهم السابقة، وأرضهم المقدَّسة، وعن مكان قُدس أقداسهم؟ أم انتهت قداسة الأرض الإلٰهيَّة الموعودة لديهم، وأصبح أيّ مكانٍ يصلح أورشليمَ، وأيّ بلدٍ أرضًا مقدَّسة، وأيّ هيكلٍ هيكلَ (سليمان)؟
أأصبحوا يقبلون بناء الهيكل في أيّ مكانٍ والسلام؟!
وكيف عُبِّرَ بـ “إعادة بناء”، والهيكلُ الأوّلُ في مكانٍ والآخرُ في مكانٍ آخر؟!
أما وقد أصبح التاريخ مكشوفًا، وصار مذ هذه الحقبة مدوّنًا، وما عاد من مجال فيه للقيل والقال، ولا لفراغ التأويلات، ولا سبيل إلى نِسبة التاريخ إلى أرضٍ غير أرضه، فقد كَفَّ الصليبي نهائيًّا عن خيالاته في جزيرة العرب. بل من اللافت أنه أصبح في كتابه “البحث عن يسوع” يسمِّي الأشياء بأسمائها، فـ (فلسطين) غدت عنده أرض إسرائيل، في مقابل أرض السَّبْي، في (العراق). أفنسي ما قدَّم في كتابَيه السابقَين؟ أم أن غياب المعلومة يفتح باب القراءات التأويليَّة بلا ضوابط؟
لئن غابت المعلومة، فما يُفترض بالعقل أن يغيب!
هذا، وإن هيرودوت ليحدِّثنا، مثلًا، عن ديانات الفُرس وعبادتهم الشمس والقمر والنار والمياه والرياح. وأنهم في فترةٍ لاحقةٍ من تاريخ تلك العقائد بدأت لديهم عبادة (أورانيا)، التي أشار إلى أنهم اقترضوها من العرب والآشوريِّين. فأين ذهب بنو إسرائيل العسيريُّون الموحِّدون؟ وأين اختفى نشرهم ديانتهم اليهوديَّة التوحيديَّة في أرجاء الجزيرة العربيَّة؟
ويحدِّثنا هيرودوت كذلك عن مَلِك العرب، وعن علاقته بـ (قمبيز)، مَلِك (فارس)، وتعاونه معه على غزو (مِصْر)، وتزويده إيَّاه بالمياه من خلال أنبوبٍ صُنع من جلود الإبل أو البقر، يمتدّ من نهر ماء عظيم يُسمَّى (Corys)، مشيرًا إلى أنه كان يصبّ في البحر الأريتيري (البحر الأحمر).
كما امتدحَ وفاءَ العرب بالعهود، وأنه لا يحترم العهود ويقدِّسها مثل العرب، واصفًا طقوسهم في توثيق العهود بالدَّم. ذاكرًا أن العرب إنما يعبدون إلاهين فقط، هما: (ديونيسوس)، و(أورانيا). لعلَّهما رمزان للقمر والشمس. فلقد كان العرب وثنيِّين في تلك الحِقب، كما عُرفوا تاريخيًّا، لا يهودًا. وكانوا يُسمّون آلهتهم، كما قال هيرودوت: (اللّات). فأين ابتلعت الأرضُ الممالك والأديان والأنبياء والرسل، ومِصْر وإسرائيل، حتى صار ذلك كلُّه نَسيًا منسيًا في جزيرة العرب كلّها خلال تلك القرون؟
هذا في الوقت الذي زعمَ الصليبي أن دعوة بني إسرائيل إلى عبادة يَهْوَه (إلاههم القومي) كانت قد غزت الجزيرة شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، فتوغَّلت إلى (اليمامة)، بل بلغت (عُمان)، فدخلت (ظُفار)، أو (صلالة)، ووصلت (نِزوة). فأين ذلك؟ أم أين انتشار اليهوديَّة مع القوافل انطلاقًا من جنوب غرب الجزيرة، الذي دندن عليه الصليبي؟! وما هو إلَّا السَّبْي البابلي، وامَّحَى من الجزيرة كلّ ذلك التاريخ السماوي الأرضي بقَضِّه وقضيضه، وإلى الأبد، حتى نَبَشَه لنا الصليبي مؤخَّرًا. وما هو إلَّا السَّبْي البابلي، حتى أصبح تاريخ بني إسرائيل خارج الجزيرة في بِضع سنين، كأنه لم يتأسَّس فيها، ولم يعش قرونًا متطاولة! وأغرب من ذلك أنْ انتقلت كلّ الدِّيار والأسماء والمعاهد والمعابد والمقدَّسات إلى بلاد (الشام) و(الهلال الخصيب)!
وتعاوُن مَلك العرب، أو ملوك العرب، مع قمبيز على غزو مِصْر، عام 525 ق. م، سبقه تعاونهم مع المَلك الآشوري (أسرحدون) في حملته على مِصْر أيضًا، عام 647 ق. م، كما وردَ في أحد نصوص هذا المَلك.
وهذا يعني أن العرب كانوا على تعاونٍ استراتيجيٍّ، سياسيٍّ وعسكريٍّ، مع الجبهة الشرقيَّة، فارسيَّةً وعراقيَّةً، خلال القرنَين السابع والسادس قبل الميلاد. فكيف يستقيم أنهم كانوا بين ذلك وقبله عُرضةً للغزو في عُقر جنوبهم، منذ القرن التاسع قبل الميلاد، على يد ملوك (آشور) و(بابل)؟ وصولًا إلى المَلك الآشوري (سرجون الثاني) الذي غزا بني إسرائيل “الشمرانيِّين”، في عاصمتهم بلاد (شمران)!، عام 721 ق. م، واستاق الأعيان من سكّان شمران أُسارَى إلى بلاد فارس. ثمَّ في عام 586 ق. م جرى تقويض دولة اليهود نهائيًّا، وتدمير مدينتهم المقدَّسة (أورشليم – النماص)، وسبيهم إلى (بابل)، على يد المَلك البابلي (بختنصّر). وما الذي يدفع بختنصّر إلى غزو أقصى الجنوب، والتعاون مع الشَّمال قائمٌ على قدمٍ وساق، وعلاقته مع مَلك العرب في الجزيرة تبدو سمنًا على عسل؟ وأيّ تهديد كان يشكِّله بنو إسرائيل، ما داموا في أقصى جنوب الجزيرة، على دولةٍ في العراق، لتقفز متخطِّية الصحراء لغزوهم، مع أن قومهم (العرب) ليسوا مع العراق في عداء، بل في تعاونٍ استراتيجيٍّ متين؟
تُرى هل تعاونَ العرب مع بختنصّر على هذه المهمّة من غزو بلادهم الجنوبيَّة، والقضاء على بعض بني جلدتهم، كما تعاونوا مع أسرحدون وقمبيز في غزو مِصْر؟! والعرب – كما وصفهم (هيرودوت)- أهل الوفاء بالعهود، يحترمونها إلى درجة التقديس، فكيف خاب وفاؤهم هكذا للأهل والعشير في عسير؟!
لا يستقيم بهذا كلِّه لا تاريخ ولا جغرافيا ولا منطق.
———
ميدل ايست أونلاين