إشكالات كتابات الذات


*مبارك الجابري

أُقارب في هذا المقال موضوعًا مشكلاً منذ العنوان، كتابات الذات، إذ هو عنوان لا يحيل على شيء معروف عند بعض من يقرؤه، وأفترض ابتداء أن ثمة إشكالاتٍ لهذه الكتابات، ما يعني أننا أمام جنس أدبي له استقراره الكفيل بالقراءة وتبيّن الإشكالات الحافّة به، ويبدو أن الشيوع الذي نال هذا الجنس من الكتابة ممارسةً ونقدًا يجعل من المشروع لنا أن نقاربه إن كان في جعبتنا ما نضيف، إن توصيفًا جديدًا أو تعديلاً لمسار ما، وإن كان دون الأخير منهما جهدٌ نقدي لا يتسع له ما يُراد من هذا المقال، فإن في مقدوري أن أوصِّف جُملة من الإشكالات التي استحقّت أن أقف عليها وأنا أُطالع جملة من المراجع النقدية التي تناولت شيئًا من كتابات الذات.

أستخدم هنا مصطلح (كتابات الذات) مُفيدًا من محاضرات حضرتها للهادي الطرابلسي حول ما شاع تناوله تحت مسميات شتّى أشهرها ما يُعرف بـ(السيرة الذاتية)، وقد بدا لي هذا المصطلح الذي يستخدمه الطرابلسي أكثر قَبولا من غيره لشموله الذي يُسوِّغ إدخال كل كتابةٍ ذاتية تحته، وهو ما يُعوِزنا حين نستخدم مصطلحًا كـ(السيرة الذاتية)؛ لكونها أقرب إلى الصياغة النثرية التي تحمل مواصفات مخصوصة أتى على ذكرها جملة من النقاد ، ويُخلّصنا بذلك من إشكال إقحام كثير من الكتابات تحت مصطلح السيرة الذاتية في بعض الأعمال النقدية.
أُريد بمصطلح كتابات الذات كل كتابة يبتغي منها صاحبها التكلم على ذاته وصفًا أو بوحًا أو نقدًا، بغضّ النظر عن الطريقة التي يكون بها التعبير، والأمر كلّه مردّه إلى أن يُمسك الشخص قلمه ليكتب ذاته، حينئذٍ نكون في حضرة كتابات الذات.
وقد قارب جملة من النقّاد العرب هذا الجنس الأدبي تحت عدة مسميات، فأسماه يحيى عبد الدايم بـ(الترجمة الذاتية)، موضّحًا أننا “وعلى مر العصور، نرى كلمة “ترجمة” يجري الاصطلاح على استعمالها لتدل على تاريخ الحياة الموجز للفرد، وكلمة (سيرة) يصطلح على استعمالها لتدل على التاريخ المسهب للحياة، وإذا كان السابقون – على ما نرى – يفرقون في الاستعمال بين اللفظتين، فإن الاصطلاح الحديث لا يفرّق بينهما كثيرًا، بل يستخدم إحداهما مرادفة للأخرى، ومن ثم جاء الاصطلاح المعاصر (الترجمة أو السيرة الذاتية)” ، من غير أن يُقدّم لنا سببًا يوضّح به اختياره مصطلح (ترجمة ذاتية) بدل (سيرة ذاتية).
ويستخدم شوقي ضيف مصطلح (الترجمة الشخصية) للتعبير عن الأمر نفسه، مقيمًا على هذا العنوان دراسة كاملة ، من غير أن يوضح لنا أيضًا سبب هذا الاستخدام، بينما نجد إحسان عبّاس يمزج للتعبير عن هذا الجنس بين مصطلحي (السيرة الذاتية) و(الترجمة الذاتية)، وذلك في الفصل الذي عقده للتكلم على السيرة الذاتية من كتابه فن السيرة، فيستخدم تارة (الترجمة الذاتية)، وتارة أخرى (السيرة الذاتية)، ويكتفي في أحيانٍ كثيرة باستخدام مصطلح (السيرة) .
واضحٌ إذن تعدد المصطلحات التي يعبر بها عن هذا الجنس الأدبي، وحينئذٍ فإننا أمام إشكال أولي في الرسو على مصطلحٍ واحد، ولئن كان مصطلح (السيرة الذاتية) هو الأكثر شيوعًا في الكتابات النقدية المتأخرة، إلا أن الإشارة سبقت إلى أنه مصطلح لا يَحدّ بالضبط كل ما يُراد منه التعبير عنه؛ وهو أمر داعٍ إلى تفتيت هذا الجنس إلى أشكالٍ شتى، مما يجعلنا نستعيد مرة أخرى الاحتراز الذي قدم به يحيى عبدالدايم كتابه حين اجترح مصطلح (الترجمة الذاتية) فأخبر بأنها “ليست هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل (مذكرات) يُعنى فيها بتصوير الأحداث التاريخية أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي، وليست هي التي تُكتب على شكل (ذكريات) يُعنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته، وليست هي المكتوبة على شكل (يوميات) تبدو فيها الأحداث على نحو متقطع رتيب، وليست في آخر الأمر (اعترافات) يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح..” .
إن يحيى عبد الدايم وهو مسكون بهاجس حدّ الترجمة الذاتية، وبناءً عليه ما يشيع اليوم تحت عنوان (السيرة الذاتية)، يقدّم لنا عدة أشكال قريبة الصلة بهذا النوع من الكتابة، يضطر إلى إقصائها من مقاربته النقدية؛ لأنه لا يجد لها من المصطلحات ما يسوّغ دخولها تحت يافطة واحدة، بينما نجد نقادًا آخرين يدخلون تحت مصطلح (السيرة الذاتية) كثيرًا مما لا يمكن أن يتلبّس بلبوس هذا المصطلح، فشوقي ضيف مثلاً يدخل تحت ما يصطلح عليه بـ(الترجمة الشخصية) الكتابات على شواهد قبور الفراعنة ، على الرغم من أن نسبة تلك الكتابات إلى كونها من فعل المقبورين أنفسهم أمر يحتاج إلى مزيد نظر، كما أنه يعدّ ما قاله شعراء الجاهلية في فخرهم وحماسهم داخلاً تحت الأمر نفسه.
إشكال المصطلح إذن هو أول ما يواجهنا ونحن نقارب هذا الجنس الأدبي، ولعل في مصطلح (كتابات الذات) ما يخفف شعث هذا الخلط المنهجي المرتبط بالمصطلح، كما أن فيه ما يسوّغ للباحث لمَّ مختلف طرائق التعبير عن الذات تحت درسٍ منهجي واحد يلمّ الشتات لاستقراء النَّسق الناظم لتلك الكتابات.
كما أن ثمة إشكالاً آخر يواجهنا على صعيد الجنس نفسه، مردّه إلى التشابه الحاصل إلى حدّ الخلط بين كثير من كتابات الذات من جهة، والرواية والقصة والمسرحية من جهة أخرى، خاصةً حين الحديث بالضبط عن السير الذاتية المفردة في كتب مستقلة، وقد انتبه إلى هذا الإشكال جملة من النقاد كيحيى عبدالدايم الذي جعل الفارق محصورًا في شيئين :
– اعتماد كاتب السيرة الذاتية (أو الترجمة الذاتية بتعبيره) على التذكر، بينما يعتمد كاتب الرواية أو المسرحية على التصوّر.
-التزام صاحب السيرة الذاتية الترتيبَ الزمني، وهو ما لا يلتزمه منشئو الروايات والقصص والمسرحيات.
إلا أن هذه التفرقة عند مزيد النظر ليست مانعة من التداخل، فحصر الفارق في أمر التذكر هو حكم على النيّات أكثر منه حكمًا فنيًا، وإلا فما الذي يُعلِمُ الناقد بأن ثمة تذكرًا عند هذه الكتابة، وخلقًا وتصوّرًا عند تلك؟
كما أن الناظر في الكتابات الروائية والقصصية والمسرحية لن يتخطاه أن كثيرًا منها لا يفرط منه الترتيب الزمني، خاصة إن نحن تحدثنا عن الروايات الكلاسيكية التي تعتمد الترتيب الزمني المنطقي اعتمادًا كاملاً، فيغدو زمن القصة مطابقًا لزمن الحكاية، كما يقارب ذلك بشكل دقيق جيرار جينيت في كتابه خطاب حول الحكاية.
والرأيان معًا يُدخلاننا في إشكال الخلط بين السيرة الذاتية والأشكال الأخرى للسيرة، خاصة أن بينهما من الوشائج الكثير، فإحسان عبّاس حين أراد أن يوصّف الفارق بين السيرة والأشكال الأخرى من السرد كتب أن كاتب السيرة – أي سيرة – “أديب فنان كالشاعر والقصصي في طريقة العرض والبناء، إلا أنه لا يخلق الشخصيّات من خياله، ولا يعتمد الشخصية الأسطورية ككاتب المسرحية… لأن شخصياته تتصل بالمكان والزمان، ولا توجد إلا بوجودهما، ومن ثم كان في طريقته أقرب إلى المعماري، وهو كالمؤرخ في قوة النقد، وكالعالم في القدرة على التصنيف والتقسيم… ولكن العيب في شخصيّاته أنها غير طويلة العمر؛ لأنه أعاد فيها عمل الطبيعة دون أن يضيف إليه، ولم يمنح الشخصية وجودًا جديدًا إلا بمقدارٍ محدود.”
ولا يعدو هذا التوصيف الذي ذكره إحسان عبّاس ما نستطيع أن نصف به السيرة الذاتية، الأمرَ الذي جعله يتفطّن إلى ما قد يحصل في ذهن القارئ من خلط فيورد رأي فريقين لتمييز السيرة الذاتية من غيرها من أنواع السير الأخرى :
– فريق يرى أنه لا فرق بينهما في الغاية والشكل والمضمون، إلا أن السيرة الذاتية تُكتب بصيغة المتكلّم، بينما تكتب الثانية بصيغة الغائب.
– وفريق آخر يرى أن بينهما شِركة كغيرهما من الفنون الأدبية، ولكن لا اتفاق تامًّا بينهما، فالسيرة الذاتية نقلٌ مباشرٌ، بينما السير الأخرى نقلٌ عن طريق وسيط من شواهد أو وثائق أو شاهدين، كما أن الأولى ترتفع فيها النبرة الذاتية، بينما ترتفع في الأخرى الموضوعية.
ورأي الفريقين لا يقرّان حين إنعام النظر، فماذا نفعل مثلاً بـ الأيام لطه حسين إن نحن أخذنا برأي الفريق الأول، وهي مملوءة بصيغة الغائب رغم الإقرار بأنها سيرة ذاتية؟ ومَن الحكم في الفارق بين الموضوعية والذاتية إن نظرنا من زاوية الفريق الثاني؟ أليس الأمر هو الآخر حكمًا على النيات أقرب منه حكمًا فنيًّا؟
على أنّ ثمة من يورد ما يسمّى بالميثاق السيرذاتي للخروج من هذا المأزق، فلا يعد الكتابة سيرة ذاتية إلا أن يُصرح الكاتب بأنه يكتب ذاته، إلا أن هذا سيُخرج كثيرًا مما قرّ على أنه سيرة ذاتية من هذا الجنس؛ لأننا لا نجد مثل هذا الميثاق في تلك السير الذاتية التي كُتبت بصيغة الغائب، كما أن بعض الروايات المعاصرة المكتوبة بصيغة المتكلم تشتغل على قريبٍ من صورة هذا الميثاق كطريقة تجريبية حديثة في الكتابة، كما نجده مثلاً في رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي.
ولذا يبقى الفارق بين كون الكتابة تنتمي إلى السيرة الذاتية أو إلى الرواية أو القصة أو السير، أمرًا مشكلاً لا يفصل فيه إلا ما يكون من تصريحات الكاتب بعد ذلك بأن ما كتبه يعبر عن سيرته أم لا، أو شيوع مثل ذلك بعد إنجاز الكتابة، مثل ما نجده في رواية الوخز لحسين العبري التي لم يصرح كاتبها بأنه كتب فيها ذاته، إلا أن المعطيات الواردة فيها بصيغتها الواضحة وثيقة الصلة به حال ما تُقارن بحياته.
وقريبًا من هذا المأزق التجنيسي طُرِح إشكالُ المخوّل بكتابة ما نصطلح عليه بكتابات الذات، فلئن كانت الأجناس السردية الأخرى قريبة المأخذ عند كل من يمتلك ناصيتها اللغوية والفنية، هل الأمر نفسه ينسحب على كتابات الذات؟ وهل ثمة فعلاً حدودٌ فاصلة بين من يكتب ذاته ومن يكتب رواية أو قصة؟
حاول النقّاد محاصرة هذا الجنس الأدبي على صعيد التأليف، فكَسوا أصحابه شيئًا من مسوح البطولة، وأكّد بعضهم بأنه “إذا كانت السيرة عامة تتطلب لرواجها أن يكون بطلها شخصًا ذا تميّز واضح في ناحية من النواحي، فإن هذا الشرط أساسي في السيرة الذاتية بخاصة.” إلا أن المُنجز على صعيد الواقع الأدبي يبين أن هذا الشرط الموضوع للسيرة الذاتية – وبالتالي غيرها من كتابات الذات – لم يُلتزم به، فكثير من كتابات الذات لم يكتبها أبطالٌ، بل هي تجارب يدوّنها أصحابها فتجد سبيلها إلى الرواج لما فيها من الطرافة وجمال المأخذ، خاصة إن نحن أقررنا بأنه “تشترك دوافع عديدة مختلفة في إيجاد السيرة الذاتية، وقلّما يكون وراءها دافع واحد فقط، ولكن من الممكن أن نحدّد الدافع الرئيسي بين هذه الدوافع، فقد تكون السيرة الذاتية من قبيل الاعترافات، والدافع الرئيسي وراءها هو تخفيف عبء الشعور بالذنب… وقد تكون.. من قبيل الدفاع الذي يحاول فيه الكاتب أن يُصرّح بمسار حياته ويبرّره، أو يبرّر عملاً خاصًا قام به من أجلها… وقد تكون السيرة الذاتية عملاً استكشافيًا.” وأيُّنا يخلو من شيء من هذه الدوافع، إذ هي ليست حِكرًا على الأبطال والمقدودين من هيئة السماء، فما الشأن في تلك الكتابات التي يكتب فيها الكُتّاب ذواتهم؟ هل نطردها من مملكة كتابات الذات وهي تأخذ منها صفاتها ولبوسها ونلصقها بالرواية أو القصة رغم معرفتنا بأن كُتّابها إنما كتبوا فيها ذواتهم؟
يبدو لي أن اشتراط البطولة في كُتّاب الذات هو أمرٌ لا يخلو من مُخاطرةٍ منهجية، خاصة أنه حكمٌ على الذوات الكاتبة، وليس على النصوص المُنجزة، في فترة يسعى فيها النقد إلى التزام الانطلاق من النص وحده حين مقاربته، وإن فكّ الأقواس عن المؤلف لاحقًا، ومردّ الأمر – في رأيي- أن النصّ هو الذي يُحدّد انتماءه، فلئن صرّح المؤلف بأنه إنما يكتب ذاته، وكان في معطيات النص وعتباته ما يدلّ على أن الأمر كذلك، فإن من حق النص حينها أن يُقارب منهجيًا على أنه كتابة للذات لا غيرها، أما ما نُفيده من محمولاته ومضامينه فذلك شأن مختلفٌ، وليس يبعد أن يكون في حياة المغمورين من الناس ما يهمّ النّابتين ويضيف إلى حياتهم ما غاب عنهم.
إلا أن كتابة الذات أمرٌ أوقعُ أثرًا حين تكون في فترة متأخرة من حياة الإنسان؛ ذلك أن الكتابة المبكّرة للذات تفوّت على كاتبها أمورًا كثيرة “فقد يكتبها قبل أن تتضح له نتائج تطوّر خطير في حياته، وقد يكتبها قبل أن تقف مبادئه في الحياة واضحة جليّة لعينيه” ، وحين يكتبها فإنه يجمّد تلك اللحظات والقرارات للأبد، بحيث يغدو معروفًا بها مهما تغيّر حاله لاحقًا، عدا أن يعيد الكتابة عن ذاته تارة أخرى، وهو ما سيوقعه في إشكال جديد، مفاده أن الأصل في كتابات الذات ألا تكون إلا مرة واحدة؛ لأنها في البدء والمنتهى خلاصة حياة، فحين يحشد المؤلف في كتابته الأولى لذاته المفاصل المهمة من حياته، وينقّب في ذاكرته عن الطريف المستحق للذكر، لا يجد إذا أراد معاودة تجربة كتابة الذات ما يشابه طرافة الأولى وتفرّدها؛ فيأنف عن إعادة الكرّة كما حصل لطه حسين الذي أغفل بكتابته الأيام الكثير من التطوّرات الحاصلة في سني حياته الطويلة اللاحقة، حيث صدر كتابه الأيام في 1929، بينما كانت وفاته في 1973، بفارق أربع وأربعين عامًا، وهو ما حاول ميخائيل نعيمة تجنّبه حين أخّر كتابة ذاته حتى سن السبعين.
خاصة إن نحن نظرنا إلى الذي سيبقى من حياة المؤلف التي سيكتبها بعد فعل المحو والانتقاء، مهما ادّعى الصدق والنقل الحرفي للحياة، إذ إن المؤلف حين يشرع في كتابة ذاته يعي أن مثل هذه الكتابة “ليست مجرّد تسجيل حوادث وأخبار، وليست أيضًا مجرّد سرد لأعمال الكاتب وآثاره، ولكنّها عملٌ فنّي ينتقي وينظّم ويوازن” ، وحينئذٍ فإنه “لا سبيل أمامه «أي الكاتب» إلا أن يضع قيودًا لهذه التجارب، ويرسم لها إطارًا، ويعيد بناءها عن طريق عمليات التذكّر الرمزي… رواية الحقيقة الخالصة عن الإنسان أمر بعيد عن التحقّق، بل هو أمر يكاد أن يكون مستحيلاً.”
فالمنجز في الكتابات المبكرة يكون قليلاً بعد كل عوامل التصفية، وقد غدا من المكرور الحديث عن قضية الصدق والنقل الحرفي البعيد عن التدخلات والمحو والانتقاء، خاصةً في ظل وجود العوامل الواعية كالتزييف ونحوه، والعوامل الطبيعية كالنسيان والحياء وغيرهما.
إنّ كتابات الذات في مردّ الأمر ستظل جنسًا يضمّ تحت لوائه الكثير من أشكال الحديث عن الذات، ما بقي الإنسان مأخوذًا بالحديث عن ذاته ومقاربتها، في إطار بحثه الدؤوب عن بلسم الخلود، يكتب ذاته فيكتب لها وسم الخلود وينتشلها من مستنقع الموت والنسيان، ولئن كانت كتابة الذات في المجتمعات التي تحترم الفرد وتقدّس حريّته أمرًا يرومه كلّ ذي تجربة تستحق القراءة والتأمل، فإن مثلها في المجتمعات التي لا تضع وزنًا للفرد وتهضمه قربانًا للجماعة يعدّ قارب فرار، يضع فيه المؤلف ما تبقّى من استقلاله في حالة تجميد تحميه من التلاشي التام، ويكفل له رفع الصوت بأنه موجود ككيان مستقل له ما يميّزه عن غيره بصفته إنسانًا له حق الوجود كفرد.
إن الإشكالات الحافّة بكتابات الذات، بدءًا من المصطلح، ومرورًا بإشكالات التأليف والحدود المانعة من الاختلاط في غيرها، كلها دلائل لحيوية هذا الجنس واستمرار تدفقّه، على أن النقد العربي، شأنه عند هذه الكتابات شأنه عند غيرها، ما يزال يكرّر ذاته مستخدمًا الرؤى نفسها التي انطلق منها ابتداءً عند مقاربته إياها، مغفلاً بذلك أشكالاً كثيرة منها لأنها لا تدخل تحت ما يصطلح عليه بالسيرة الذاتية أو الترجمة الذاتية أو الترجذاتية أو نحو ذلك، هذا على الرغم من الأشواط الطويلة التي قطعها الأدب العربي في هذا الصعيد، حتى الوصول إلى أشكال تجريبية جديدة من كتابة الذات، كالبورتريه والقصيدة الومضة ونحوهما.
يبدو أن ميدان كتابات الذات ميدان خصب بالرؤى التي يُمكِن أن تُفجّر بالمقاربات النقدية الجادة التي تتجاوز ذاتها، خاصة حين نروم قراءة الذات العربية المليئة بالأغوار المكظومة المحرّمة.
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *