*خيري منصور
لا ينافس مصطلح الذات في ثقافتنا في الالتباس غير مصطلح الآخر، وهو بمثابة توأمه اللدود، وكأن جذر المفهومين معا تاريخيا وميثولوجيا هو ثنائية هابيل وقابيل، وكلا المصطلحين بحاجة إلى مراجعة قد يترتب عليها إعادة النظر في معظم السياقات التي ترد فيها هذه السُّلالة الملتبسة من المصطلحات، فمن هو الآخر أولا؟ وهل هناك حدود إقليمية للذات يمكن رسمها بقلم رصاص أو بأخدود، لكي لا نبقى في نطاق التجريد فإن هناك ثلاثة مستويات للآخر:
مستوى وجودي عبّر عنه سارتر من خلال مسرحية «جلسة سرية»، التي أصبح فيها الآخر جحيما لا يطاق. ومستوى سياسي يضع الآخر في موقع من تضاريس تشمل الجغرافيا والتاريخ معا، بحيث يكون الحليف خط طول والعدو خط عرض. والمستوى الثالث سايكولوجي بامتياز، وأكثر ما يوضحه ذلك المثال المتكرر عن المرضى النفسيين الذين يتخيلون آخرين مجهولين يلاحقونهم، وهو ما يسميه بعض الباحثين في علم النفس ضمير الغائب، الذي لا يشير إلى شخص معيّن أو جماعة محددة، بل لكل ما هو خارج عن مدار الذات ولا حاجة بنا إلى إضافة مستوى رابع وهو آيديولوجي، لأن الفاصل بين الذات والآخر في هذا السياق لا يخضع لأي منطق أو معيار، وفيه يتحالف العقل مع العاطفة بحيث يتعذّر فك الاشتباك بينهما.
والآخرون درجات وهم قابلون للمفاضلة بينهم على طريقة الأخ وابن العم، تبعا للمثل القائل أنا وأخي ضد ابن عمي وأنا وابن عمي ضد الغريب. فمن هو هذا الغريب؟ هل هو من لا تشمله صلة الدم أم آصرة الايديولوجيا، أو لمجرد أنه مُثير للريبة والشك في نواياه، إلى أن يثبت عكس ذلك؟ ما من إجابة ممكنة عن هذه الاسئلة بشكل نظري مجرد، إذ لا بد من نصوص تحملها أو توحي بها على الأقل، وليكن مدخلنا ما كتبه تودوروف في كتابه «نحن والآخرون»، وكان مثاله الذي انطلق منه هو ما قاله انطون ارتو في رحلته إلى المكسيك، فقد قام برحلته بحثا عن الآخر، المضاد للثقافة الأوروبية من كل النواحي، لهذا بحث في المكسيك عما تبقى منها وما هو غير ملوث أو مشوب بالثقافة الأوروبية المعاصرة .
أما دليل ارتو إلى رسم حدود فاصلة بين الذات والآخر، فهو مأخوذ من نصّ بوذي وجّهه بوذا إلى اتباعه في لحظات الاحتضار وهو:
«كونوا في المستقبل أنوار انفسكم وملاذها ولا تبحثوا عن ملاذ آخر، لا تشغلوا أنفسكم بما يفكر به الآخرون». هذه العيّنة النموذجية من تعاليم تضع الآخر على الشاطئ المقابل من الذات، وتجعل منه عدوا محتملا ينبغي التحذير منه، لها تجليات عديدة في كثير من النصوص التي تستبدل المنطق والاستنتاج بالإلهام وبالتالي تتحصن بقداسة ومعصومية تجعلها وصايا واجبة التنفيذ. والآخر حسب المثال البوذي هو البشرية كلها ما لم تكن مشمولة بالولاء لهذا الاعتقاد.
* * *
لو اخترنا بيتا واحدا من شعر المتنبي حول مفهوم الآخر لوجدنا أنه العدو الذي يفرض علينا نكد الدنيا أن نصادقه، فالمسافة بين الذات والآخر تبعا لهذا التصور تكون مطاطية وبالغة المرونة، تنحسر وتتسع تبعا لحاجتنا ومدى ضرورة هذا الآخر بالنسبة إلينا، من هنا كان للشاعر نمطان من صورة الآخر، الجدير بالمديح ومن يستحق الهجاء، سواء من خلال علاقة المتنبي بسيف الدولة أو كافور، وأحيانا يكون فرد واحد صالحا للمدح والهجاء معا، كما هو الحال مع كافور الذي رآه الشاعر مِسْكا حين أراد ثم عاد ورآه عبدا لا يشترى إلا والعصا معه لأنه منكود ونَجِس! هنا تتم صياغة الآخر أو نحته بشكل رغائبي، فهو ليس موجودا كحقيقة فيزيائية ومعنوية بحد ذاته، بل تعيد الذات إنتاجه كما تشاء .
* * *
هناك مثالان يستحقان التأمل في صورة الآخر، أحدهما من مسرحية بيكيت «بانتظار غودو». والثاني من ديوان شعر لجيرالدي في مسرحية بيكيت، حيث لا يظهر على خشبة المسرح غير شجرة أو شبه شجرة.. ويضطر الشخص الذي يخذله غودو الذي لا يأتي، إلى قبول الآخر الذي يشاركه الانتظار، رغم ما يرشح من قدميه من رائحة كريهة، فالآخر تبعا لهذه الرؤية ضرورة أن لم نجدها نبحث عنها أو نتخيلها، وهذا ما يضطر الذات إلى معانقة الآخر شريك الغربة والمصير والوحشة، حتى لو كان كريه الرائحة، وهي رؤية معاكسة لما قاله سارتر في مسرحية «جلسة سرية»، حيث كان على الأشخاص المحاصرين في غرفة موصدة الأبواب أن يتحملوا كل ما يصدر عنهم، حتى لو كان وظائف عضوية، لهذا تحولوا إلى جحيم. والآخر كضرورة عالجه مسرحي إسباني حين قال بأنه ما أن يقرأ فكرة أو يشاهد منظرا يصيبه بالقشعريرة حتى يود لو أنه اثنان، لأن الذات بمفردها لا تقوى على الاحتمال، أما جيرالدي فقد قال يوما إنه كتب ديوانا شعريا بعنوان «أنا وأنت» من أجل حذف حرف الواو بين الذات والآخر، أي بين العاشق والمعشوق، وقد يوحي هذا بتجليات صوفية وحلولية، لكن ما يهمنا في هذا السياق هو محو المسافة بين الذات والآخر، وإن كنا لا ندري أيهما ذاب في الآخر وتلاشى فيه.
إن مفهوم الآخر قدر تعلقه بأشعار الحب يثير تأملات لا آخر لها، وثمة حالات تتجاوز التباين إلى التضاد، منها مثلا أن شعر الحب العربي كما تجلى لدى العذريين هو على النقيض مما قاله جيرالدي، فالشاعر العذري كان يفتعل العقبات التي تحول دون وصاله بمن يحب وهذا ما اعترف به صراحة جميل بثينة حين قال:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها… ويحيا إذا فارقتها فيعود
فهو يحوّل الحرمان إلى مطلب ويسعى إليه بهدف إدامة التوتر، كأنه يدرك أن الرغبة تموت لحظة إشباعها. وما يقابل العقبات التي اصطنعها العذري للحيلولة دون الوصال ومنها الغزل العلني بالحبيبة، وهو سبب كاف لحرمانه منها، حسب تقاليد القبيلة هو السّيف الممدد بين تريستان وايزولدة في الأسطورة التي تحمل اسميهما، أو هذا على الأقل ما يقوله دينيس دو رجمون صاحب كتاب الحب والغرب.
* * *
إن مصطلح الآخر هو الأكثر غموضا بين سلالة المصطلحات تحولت إلى كمائن وأفخاخ في ثقافات لم تتحرر بعد من تعاليم الإقصاء المتبادل في الشرق والغرب على السّواء، أما أقصى ما تبلغه ثنائية الذات والآخر فهو في حالة الإصابة بالشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية، بحيث يستوطن الاثنان معا جسدا واحدا، سواء كان الاثنان هابيل وقابيل أو جيكل وهايد.
_______
*القدس العربي