أبوبكر العيادي
بين الفيلسوف النمساوي توماس برنارد والممثل الفرنسي سيرج مرلان علاقة رهيفة تتزاوج فيها حساسية المبدع ذي الرؤية الفنية المفردة، ووعي ممثل بدأ حياته مدرسا لمادة الفلسفة، علاقة توطدت على مرّ الأيام، سواء في “ابن أخت فيتغنشتاين” أو “انطفاء” أو في مسرحية “المصلح” التي بين يدينا.
فسيرج ميرلان يستحضر بأمانة وعمق روح الخطاب البرناردي ونفَسه وصمته وتوتره الممزوج بالسخرية اللاذعة، فهو لا يمثل دورا، حتى عند تعامله مع نصوص بيكيت وشكسبير، بل يتلبس الشخصية وكأنه غادر النص ليتجلى في الواقع نابضا بالحياة.
تبدأ المسرحية تحت أضواء خافتة في ديكور صائب يمثل غرفة واسعة في بيت بورجوازي، يبدو في وسطها رجل جالس، بل غارق في أريكة يرجع عهدها إلى القرن الأكبر، أي السابع عشر، يهذي بتذمر لا تسمعه في الظاهر سوى سمكة، ذلك هو المصلح الذي يمنح المسرحية عنوانها، وقد أطلق عليه هذا الاسم لأنه توصل إلى وضع نظرية لإصلاح العالم، لا يمكن تطبيقها إلاّ بعد تدميره.
هو فيلسوف سوداوي الطبع، أقعده المرض وعكّر مزاجه، فلم يعد قادرا على مغادرة بيته، ولكنه يحس في قرارة نفسه أنه رجل مهم، ينتظر أن تكافئه جامعة فرنكفورت وتمنحه شهادة دكتوراه فخرية عن عمل أسماه “رسالة في إصلاح العالم”، وما هو في الواقع سوى تنظير لدمار شامل، دون أن يكف لحظة عن ممارسة استبداده على من في بيته، وفرض إرادته قسرا على شريكة حياته.
يجلس على أريكته وهو ملفوف في لحاف أبيض لا يظهر سوى قدميه، ويشتكي من كل شيء، من رداءة الأطعمة التي تقدم إليه، ومن سيرورة العالم وما آل إليه، فلا شيء يحوز إعجابه، ورغم ذلك يزعم أنه “مصلح”.
هذا النص صاغه النمساوي توماس برنارد (1931 /1989) كمرآة يتأمل فيها ذاته المطبوعة على كره كل ما حوله، حتى أقرب المقربين إليه.
والمعروف أنه كان ناقما على أبيه المتواطئ مع النازيين، وعلى أمه التي كانت عشيقة سبادوليني رئيس الأساقفة، وعلى أخواته المستهترات، وعلى فيينا ومثقفيها الذين كشف دناءاتهم في نص آخر عنوانه “أشجار للقطع”.
وهو هنا في هيئة فيلسوف مقعد، عكر المزاج، لم يعد يجد من يسمع لعناته وسخطه على العالم سوى كائنين أولهما سمكة حمراء بكماء تسبح في حوض صغير قربه، وثانيهما امرأة هزيلة شاحبة، هي زوجته وخادمته في الآن نفسه، تقابل سخطه وكلامه الجارح وانتقاداته التي لا تنتهي بصمت خاشع خانع، وكأنها تستهدي بسلوك السمكة في لزوم الصمت كأفضل طريقة للرد على حماقاته.
تتميز المسرحية، كما في سائر أعمال برنارد بالمراوحة المتواصلة بين الهزل الفج واليأس المثير للسخرية، يتجلى ذلك حتى في بحث المصلح عن لحظة صفاء، بحث ينتهي كسابقيه بالفشل والخيبة. يقول في المسرحية “ملاحظة بسيطة: تجدر الإشارة إلى أن الصمت، لا نستطيع احتماله طويلا. وأن الصمت الثقيل يجعلنا نفقد أعصابنا في وقت قصير. وأن الصمت إذا طال يصيبنا بالجنون. أي أن الصمت يفقدنا أعصابنا في البداية، ثم يردينا بعدها إلى الجنون”.
وهكذا يتوالى هذر الفيلسوف المقعد وتعاليقه عن كل شيء، حيث يستنفر منه البيض الذي لم يسلق على هواه خطابا فلسفيا وتأملات عن خواء الوضع البشري وبطلانه وعدم جدواه.
وفي هذه المراوحة يجد سيرج ميرلان مدخلا للتعبير عن مهازل ضارية في طريقها إلى الزوال، ضراوة عجوز ينفث آخر سمومه ويحلم بدمار العالم، كي ينشأ على أنقاضه عالم جديد يصاغ حسبما رسم وسطر.
وليس له من يستحمل هراءه ومبالغاته سوى زوجة كانت تتلقى بصبر وجلَد كل ما يصدر عن هذا الوحش الماثل أمامها في هيئة زوج من رذائل، ولا يتلطف معها إلاّ في حالات نادرة كقوله “أحب أن أنظر إليك حينما تزردين الصوف”، وكأنها استراحة قبل استئناف هجماته الشرسة.
حتى العلماء الأجلاء الذين جاؤوا يحملون إليه شهادته الموعودة في نهاية المسرحية، لاذوا بالفرار بعدما انهال عليهم بوابل من الكلام الجارح، والتعاليق الشعبوية الحاثة على كره المدينة وأهلها والجنس البشري برمته، خطاب عنصري قائم على المكابرة والتعالي ونبذ الآخر المختلف، كما تجلى في أدبيات يورغ هايدر الزعيم الأسبق لليمين المتطرف في النمسا، وسائر الأحزاب اليمينية في أوروبا.
عن مسرح توماس برنارد يقول المخرج أندري أنجيل “هي كتابة قوية عميقة وهامة، في وقت ما تساءلت مثل آخرين: كيف يمكن أن نكتب للمسرح بعد صامويل بيكيت؟ ووجدت الإجابة في أعمال توماس برنارد، حيث اكتشفت قوة غضبه ودقة كتابته. فالشكل والمضمون لديه متصلان بكيفية مذهلة”. ويضيف “هي كتابة لها من الحدة والحسم ما للعنف الذي ينطوي عليه خطابها”.
_______
* المصدر: العرب